آخر الأخبار
الرئيسية » كلمة حرة » الحرباء (2)

الحرباء (2)

مالك صقور

..وجاء حنظلة ومعه جوهر في الوقت المحدد ، ليسمعا قصة أنطون تشيخوف ، كما وعدت حنظلة ..
لكن خطر ببالي ، لسبب ما ، أن أحكي لهما قبل قصة الحرباء ، عن جدي .. جدي أبو صافي الذي كان يصطحبني معه إلى ( البازار ) الذي يقام صبيحة كل نهار أحد ، شرق شمال مدرسة الراهبات في صافيتا ..
في هذا البازار كان يعرض للبيع كل أجناس الماشية ، أو للمبادلة ، أو للمقايضة : الجمال ، الخيول ، الأبقار( الثيران للحراثة ؛ وأبقار الحليب ) والأغنام بأنواعها ..بالاضافة للماعز ، والبغال والحمير .. بازار نعم بازار . وكان جدي لا يختار الثيران القوية للحراثة وبعض الخيول فحسب بل كان يختار ( الرعيان ) أيضاً .ففي 14 أيلول من كل عام يحل عيد الصليب . وفي هذا اليوم تكون نهاية عمل الرعيان .. ويبدأ الرعيان برفع سقف الأجرة عن العام القادم . ( هكذا كان أيام زمان ) أما انا اليوم فأتذكر ذلك ، من أجل ماكان يقوله جدي عند اختيار الراعي . وذلك تتمة لما ذكره ذاك الفلاح في الزاوية السابقة عن معادن الرجال وتشبيههم بالأشجار وبالحيوانات .لأن رأي جدي كان لكل نوع من الماشية راعيها الممتاز .
مثلاً ، راعي الإبل لا يصلح أن يكون راعي جاموس .. ولا راعي الماعز أن يكون راعي الخراف . فكان جدي يقول : هذا الشخص لا يصلح لرعي الحبش ( أي قطيع الديك الرومي ) ، لكنه يصلح لرعي الدجاجات . وعنده أصعب من رعي الجاموس والإبل هو رعي “الناس ” . لذلك يحفظون قوله في الضيعة : ” ضعوا الراعي المناسب في المكان المناسب ” . ونحتج على هذا القول ، ونصحح له : ” الإنسان المناسب في المكان المناسب ” . أو الرجل المناسب في المكان المناسب .. فيقول : أنا لا أعمل في السياسة ..لكني أعرف الحاصود من غير الحاصود …
سقت كل هذا الكلام الآن ، كي أذكّر في هذه الأيام عن الراعي الذي يصلح والراعي الذي لا يصلح ..وعن الذين يعيشون في ضعيتنا وبين ظهرانينا ؛ وقد اختاروا جلد الحرباء .. دون غيرها ..
أما قصة الكبير أنطون تشيخوف ” الحرباء ” ،فهي من أكثر قصص تشيخوف المبكرة انتشاراً وشهرة في زمن صدورها وحتى الآن . وما زالت تحتفظ بقيمتها الفنية شكلاً ومضموناً..على الرغم من مرور أكثر من مئة وأربعين سنة على صدورها . فقصة ( الحرباء ) جسدّت النفاق من خلال أنموذج بشري له ” مكانته ” في المجتمع . والأنموذج الذي تناوله تشيخوف ، يعد إنموذجاً عادياً قياساً لحرباوات هذه الأيام ..
تتلخص قصة ( الحرباء ) ، بأن رئيس مخفر للشرطة في مدينة ما ، كان يمر في ساحة السوق ، يتبختر بمشيته مزهواً بنفسه ، وبمعطفه الجديد ، يتبعه شرطي يحمل له وعاء امتلأ بالفواكه المصادرة . فجأة ، يسمع رئيس المخفر نباح كلب يُضرب ، وصراخ شخص يتأوه ألماً ، فيلتفت رئيس المخفر ويرى شاباً يجري وراء كلب صغير ، وقد تمكن من أن يمسك به من ساقيه ..حالاً تجمع الناس حول الشاب والكلب . فأسرع رئيس المخفر إليهم كي يستطلع الأمر فيتعرف على الصائغ خريوكين وهذا هو الذي عضه الكلب . وما أن يرى الصائغ رئيس المخفر حتى يرفع إصبعه والدم يسيل منها ، وصار يصرخ مطالباً بتعويض عن الضرر الذي لحق به . إذ سيتعطل عن عمله في الصياغة التي تتطلب الدقة ، ومن غير إصبعه لا يستطيع أن يعمل . هنا ظهرت “مسؤولية ” رئيس المخفر و اهتمامه في الأمن ورعاية المواطنين وسلامتهم .. فبدأ يتوعد السادة الذين لا يريدون أن يمثلوا للقوانين ، وسيعرف الأوغاد معنى أن يطلقوا كلابهم في الشوارع . ويأمر الشرطي بفتح محضر ضبط بالواقعة . فالكلب يجب أن يعدم حالاً لأنه مسعور وهذا يهدد بداء الكَلَبْ .. ومن ثم يسأل :
– كلب من هذا ؟
فيقول له شخص من بين الناس المجتمعين :
يبدو ، أنه كلب الجنرال جيجالوف ..
لحظة ائذ، يتعرق رئيس المخفر ، ويأمر الشرطي أن ينزع عنه المعطف ، لأنه أحس بحرارة . ومن ثم يلتفت إلى الصائغ المصاب بإصبعه ، ويقول : لا أفهم كيف استطاع أن يعضك ؟ انظر كم هو صغير ؛وأنت ما أطولك !! يبدو لي أنك جرحت إصبعك بمسمار ي تحصل على تعويض . أنا أعرفكم أيها الشياطين !!
ويستمر التحقيق والتساؤل حول كلب من ؟!
فيقول له الشرطي بثقة :
– كلا هذا لي كلب الجنرال . ليس لدى الجنرال كلاب كهذه ..كلاب الجنرال سلوقية .
– هل أنت متأكد ؟
– نعم متأكد ياصاحب المعالي ..
عندما يؤكد له الشرطي أن الكلب ليس للجنرال ، يرتد روعه إليه مباشرة ، ويرفع عقيرته من جديد . ويزعم أنه يعرف كل شيء ، ويعرف أيضاً أن كلاب الجنرال غالية وأصيلة ، وأن الجنرال لا يقتني كلباً بهذه الوضاعة .
وهكذا تستمر الحال بين رئيس المخفر وبين المحتشدين .. فعندما يعلق خبيث من الموجدين ، وكأنه يعرف أن هذا الكلب للجنرال .. عندها يقشعر رئيس المخفر ، ويحس بالبرد من جديد .. ويوصي أن يُحمل الكلب إلى بيت الجنرال ، مع توصية بعدم تركه بالشارع خوفا من أولاد الحرام ..
وينقذ الموقف طباخ الجنرال الذي يمر بالمصادفة في الساحة قريبا من الحشد . فيناديه :
تعال ، تعال ياعزيزي بروخور . انظر ، هل هذا الكلب كلبكم ؟!
فيتعجب طباخ الجنرال من هذا السؤال ويقول :
– ياسلام ! ليس لدينا أبدا كلاب مثله ، ولم يكن !!
فيرفع رئيس المخفر عقيرته من جديد وينهي الكلام قائلاً :
كفى ، ليس من داع للسؤال : هذا كلب ضال ، شارد .ينبغي إعدامه . وكفى ..
عندئذ ، يتابع طباخ الجنرال كلامه :
– كلا ، ليس كلبنا . جنرالنا لايحب مثل هذه الكلاب . أما أخوه فيحبها ، إنه كلب شقيق الجنرال الذي جاء منذ مدة قصيرة ..
عندها ، يفيض وجه رئيس المخفر بابتسامة تأثر ، ويقول : أحقاً وصل شقيق الجنرال ..آه ياربي ، جاء وأنا لا أعلم !!
ويأمر أن يحملوا له الكلب ..خذوه ، إنه كلب شقي ، هبش الصائغ من إصبعه … ياله من جرو صغير ..
ثم يحث الشرطي على مغادرة المكان ، ويلتفت إلى الصائغ يتوعده ..
ويغادر وسط قهقة الناس المحتشدين ساخرين منه ومن الصائغ ..
بدقائق معدودة ، وفي مشهد واحد ، استطاع تشيخوف أن يجسد النفاق ويفضحه من خلال موقف عادي .مطلقا عنوان ( الحرباء = خامليون ) ..
(موقع أخبار سوريا الوطن-٢)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

المزيد من الحوار مدخل لتحقيق المزيد من الاستقرار  

  عبد اللطيف شعبان     جاء في البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني السوري العام الذي انعقد في دمشق قبل أيام، العديد من الفقرات الهامة ...