آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » المارونية السياسية والدولة اليهودية

المارونية السياسية والدولة اليهودية

جورج حداد

 

 

ترفع أبواق المارونية السياسية شعار «الحياد» وضرورة «تحييد» لبنان عن الصراعات الإقليمية، وهي تتهم المقاومة بقيادة حزب الله بأنه «يجرّ» لبنان إلى الحرب ضد إسرائيل، من دون موافقة الدولة اللبنانية، ومن دون موافقة المكوّنات الأهلية (الطائفية) غير الشيعية للكيان اللبناني، وبالأخص موافقة «المسيحيين» الذين تدّعي المارونية السياسية تمثيلهم والنطق باسمهم.وتزعم أبواق المارونية السياسية أن حزب الله يطبّق أجندة «غير لبنانية» و«غير عربية»، وأنه ليس أكثر من «ذراع إيرانية» ويطبّق الأجندة الإقليمية لإيران، الهادفة إلى تأمين مصالحها وتقاسم النفوذ الإقليمي بينها وبين أميركا ومن ورائها إسرائيل. وتتهم أبواق المارونية السياسية حزب الله بأنه هو «المعتدي» الذي «يستفز» إسرائيل ويستدعي ردها بموجب «حقها المشروع في الدفاع عن نفسها» ثم قيامها «الطبيعي» بتدمير لبنان، وهو ما يتحمل مسؤوليته في هذه الحالة لا إسرائيل، بل حزب الله وإيران. وهذه التهمة ذاتها توجهها أبواق المارونية السياسية ضد «حماس» لقيامها بـ«مغامرة الاعتداء» على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، وقتل «المدنيين» الإسرائيليين «المسالمين» وهم يقيمون حفلة موسيقية، ما دفع إسرائيل إلى القيام بمجزرة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني المظلوم في غزة؛ وهو ما تتحمل مسؤوليته «حماس» بالذات، حسب مزاعم أبواق المارونية السياسية، لأن إسرائيل لا تفعل سوى تطبيق «حقها المشروع في الدفاع عن نفسها».

إن كل هذه الأطروحات للمارونية السياسية لا علاقة فعلية لها بـ«الحياد» المزعوم، بل تدخل ضمن خط الولاء لأميركا وإسرائيل، وهي جميعها تدخل تحت عنوان «الخيانة الوطنية» بموجب قوانين «الدولة اللبنانية» ذاتها التي تدّعي المارونية السياسية الدفاع عنها ضد حزب الله. وإن أطروحة «حياد لبنان» و«تحييد لبنان» هي من الأساس أطروحة مشبوهة، مغلوطة ومزيفة، وتتناقض على خط مستقيم مع الكينونة الوجودية للبنان، جغرافياً وديموغرافياً وتاريخياً وحضارياً وقومياً، ثم «وطنياً / قطرياً».

ولكن السؤال الذي ينبغي لكل مواطن لبناني شريف، وكل عربي وطني، أن يجد الجواب عنه، هو:

ما هي ظاهرة «المارونية السياسية» ذاتها؟ وهل هي حقاً «حيادية» أو «محايدة»؟

للإجابة عن هذا السؤال نطرح النقاط الآتية، وعلى القارئ الباحث عن الحقيقة أن يحلل ويستنتج:

1) النقطة الرئيسية الأولى والأهم، هي التأكيد أن «المارونية السياسية» لا تمثل لا المسيحيين عموماً، ولا الطائفة المارونية اللبنانية الكريمة خصوصاً، للأسباب الجوهرية التالية:

* أن معيار تعريف مفهوم «المسيحية» (أو أي ديانة أخرى ما عدا اليهودية) هو معيار معرفي ــ فلسفي ــ إيماني ــ ديني، لفهم وجود الكون والإنسان والمجتمع البشري. وهذا ما لا ينطبق البتة على المارونية السياسية، مثلما لا ينطبق على اليهودية.

* وأن معيار تعريف مفهوم «الطائفة المارونية» هو معيار ديني مذهبي فئوي يشمل المساحة الديموغرافية لجميع ــ من دون استثناء ــ من ولدوا في عائلة «مارونية»، بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية وآرائهم وميولهم وعاداتهم وتقاليدهم، السياسية والثقافية والاجتماعية.

* أمّا معيار تعريف «المارونية السياسية»، فهو معيار سياسي للتعريف بنهج جيوسياسي محدد، موالٍ تاريخياً للإمبريالية والصهيونية. وينطلق هذا النهج اللاوطني والخياني من المساحة الديموغرافية-الزمانية-المكانية للطائفة المارونية، إلا أنه لا يتطابق البتة معها، بل هو يتعارض معها جزئياً أو كلياً، أقلوياً أو أكثرياً، تبعاً لتبدّل الظروف في كل مرحلة تاريخية. وإذا كانت العصابات الإجرامية لبشير الجميل قامت في وقت ما بارتكاب المجازر والاغتيالات، بهدف فرض ما سمي في حينه «وحدة البندقية المسيحية» (وهي المجازر التي تمخضت عن ولادة ما سمي «القوات اللبنانية»)، وكانت تلك العصابات تغتال، أو على الأقل تطرد، كل مسيحي وطني وتقدمي، عروبي أو شيوعي أو قومي سوري أو مؤيد للقضية العادلة للشعب الفلسطيني المظلوم أو معادٍ للطائفية، وحتى تمنع دفن ميت مسيحي له أي من هذه الصفات في «مقبرة مسيحية» في المناطق التي سيطرت عليها تلك العصابات، بدعم أجهزة «الدولة اللبنانية»، فهذا لا يعني أبداً أن المارونية السياسية ومجرميها وكل من يدخل تحت عباءتها، عن وعي أو عن جهل، «مدنيين» أو «رسميين» أو «دينيين»، كانوا ــ أو هم الآن ــ يمثلون الطائفة المارونية الكريمة خصوصاً، والمسيحيين عموماً. بل العكس هو الصحيح: أن المارونية السياسية لم تكن يوماً، وهي الآن أكثر من أي وقت مضى، سوى فصيل عميل لأميركا وإسرائيل والسعودية، وقوة عملائية تحتل لبنان، تتبع الجيش الإسرائيلي وتنفذ أوامره، مثلها مثل أي عصابة من عصابات ذلك الجيش الإجرامي ــ قاتل الأطفال والنساء والأبرياء. ولا يغير شيئاً في هذه الحقيقة أن قادة عصابات المارونية السياسية وعناصرها يحملون بطاقة هوية لبنانية، ينبغي لأي حكم وطني «لبناني» حقيقي أن يزج مجرميهم في السجون.

ينطلق هذا النهج اللاوطني والخياني من المساحة الديموغرافية ــ الزمانية ــ المكانية للطائفة المارونية، إلا أنه لا يتطابق البتة معها، بل هو يتعارض معها جزئياً أو كلياً

 

* وأخيراً، ينبغي القول إن الأطروحات والممارسات السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية… إلخ، للمارونية السياسية، تتجاوز الطائفة المارونية، لتشمل أطرافاً غير مارونية، طائفية أخرى أو حتى «علمانية» و«لادينية».

2) إذا كان ظهور الديانة المسيحية يرتبط بسردية ميلاد السيد المسيح وحياته وصلبه (حسب الرواية المسيحية)، والصراع الفكري والفلسفي والديني والسياسي والأخلاقي والوجودي الإنساني بين الشعوب الشرقية التي غزتها الجيوش الرومانية القديمة، وبين الإمبراطورية الرومانية القديمة الغازية الاستعبادية، وحلفائها اليهود… وإذا كان وجود «الطائفة المارونية» يرتبط بسردية ظهور الراهب الناسك السرياني الأرثوذوكسي، القديس مار مارون، وحياته في شمال شرق سوريا في النصف الثاني من القرن الرابع، والاضطهاد الذي تعرّض له الرهبان المؤيدون له، ونزوح قسم كبير من المؤمنين المشايعين له ولجوئهم إلى جبال لبنان القفراء والوعرة، للاحتماء من ملاحقة البيزنطيين «المترَومنين» وتنكيلهم… فإن بواكير ظاهرتي «اليهودية الصهيونية» و«المارونية السياسية» ترتبط بمرحلة الغزو والاستعمار الصليبي لفلسطين وأجزاء من الشرق العربي، وإقامة الإمارات والممالك والدوقيات الصليبية على الأراضي العربية المغتصبة، لحوالى 250 سنة متتالية. فوجود تلك «الدول» أو «الدويلات» الصليبية في المشرق أوجد وكرّس فكرة تحويل «الطائفة» أو «المذهب»، الدينييْن، من المفهوم الوجداني ــ الخـُلقي ــ الفكري ــ الفلسفي ــ الإيماني ــ اللاهوتي ــ الديني، إلى المفهوم الإتني ــ القومي ــ العنصري ــ الشوفيني. وهذا هو الأساس المعرفي الذي تنبني عليه:

* أولاً: اليهودية الصهيونية، بجناحيها «القومي ــ العلماني» و«الديني ــ التوراتي»، التي تعتبر أن اليهود هم «شعب» أو «قومية» لها «دينها اليَهْوَهي» الخاص، وأن «إسرائيل» (من النهر إلى البحر، أو من النيل إلى الفرات) هي «وطن قومي، أو إلهي، لليهود»، وتالياً أن «الفلسطينيين» هم «مغتصبون» و«دخلاء» على «فلسطين»، والعرب مسلمون ومسيحيون هم أيضاً «مغتصبون» و«دخلاء» على مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق («أرض الميعاد» حسب العقيدة الدينية الإلهية لليهود، وما ينضح منها من القذارات والأكاذيب التوراتية و«التاريخية»).

ـــ وثانياً: المارونية السياسية اللبنانية، التي تعتبر أن الطائفة المارونية اللبنانية، ومن يماشيها ويسير خلفها من المسيحيين المضللين الآخرين، هم «شعب مسيحي قائم بذاته»، و«قومية مسيحية» خاصة، وأن الأرض التي يعيشون عليها (لبنان الصغير، جبل لبنان، أو لبنان الكبير، لبنان الجنرال غورو، لبنان الـ10452 كلم2) هو «وطن قومي مسيحي»، وتالياً أن المسلمين عموماً هم «دخلاء» على هذا الـ«لبنان!» ذي الأكثرية المارونية والأقلية الدرزية، كما تتخيله المارونية السياسية.

ونظراً إلى الدور الخياني المكشوف، العميل لأميركا خصوصاً وللإمبريالية الغربية عموماً، والحليف الكلي التاريخي والدائم للصهيونية وأخيراً لإسرائيل، الذي تضطلع به أبواق وأحزاب المارونية السياسية، قد يكون من الأصح تسميتها، لا المارونية السياسية، بل المارونية الصليبية.

اليوم، تخوض اليهودية العالمية والحركة الصهيونية و«دولة إسرائيل» معركة وجودية لفرض شعار «يهودية الدولة» الإسرائيلية. ولكن هذه المعركة تجري بمواجهة، وبوجود الجماهير الشعبية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية واللبنانية الباسلة ومعسكر المقاومة العربية ــ الإسلامية وصمودها. ومن المستحيل أن تؤدي هذه المعركة إلى طرد ملايين الفلسطينيين ومئات ملايين العرب المسلمين والمسيحيين وإبادتهم، بل هي ستؤدي حتماً، عاجلاً أم آجلاً، إلى هزيمة إسرائيل وتقويضها وسقوطها، والقضاء على وجودها كدولة عنصرية-شوفينية (قومية)-ودينية (يهودية)، وسيسقط معها كل الفكر «العلماني» و«المدني» الصهيوني وكل الفكر التوراتي «الديني» اليهودي.

أمّا «المارونية السياسية» التي سلّمها الجنرال هنري غورو السلطة في «دولة لبنان الكبير» في 1920، فإنها ــ حتى 1952 تاريخ انتخاب كميل شمعون رئيساً – نجحت تماماً في تحويل هذا الـ«لبنان الكبير» (الذي كان قد باركه البطريرك الياس الحويك رحمه الله) إلى «مزرعة» للعائلات الإقطاعية من كل الطوائف إلى جانب «خواجات» العائلات المسيحية الغنية. ومنذ 1952 وحتى 1990 (التاريخ التقريبي لهبوط الشيخ رفيق الحريري رحمه الله بالباراشوت السعودي وانقضاضه انقضاض الطائر الكاسر على الطائر المهيض الجناح «لبنان») فإن «المارونية السياسية» سنت قانون سرية المصارف، ونجحت في تحويل لبنان إلى «مغارة علي بابا والأربعين حرامي وأكثر»، وإلى «مخباية» للأموال العربية واللبنانية والمافياوية، المسروقة والمنهوبة والنفطية لجميع الأنظمة العربية العميلة والدكتاتورية، ولجميع الحكام والسياسيين وحواشيهم الفاسدين والقذرين، ولجميع مافيات العالم. وطبعاً جرت في هذه الـ«سويسرا الشرق» مذابح الحرب «اللبنانية»، التي جرّت الويلات على اللبنانيين عموماً وعلى المسيحيين خصوصاً، باسم الدفاع عنهم.

خسرت «المارونية السياسية» كل مشاريعها، وكل رهاناتها. وذهب بشير الجميل إلى رحمة الله. ودفنت معه كل مشاريع «دولة المارونية السياسية» على الطريقة الصهيونية. والدولة اللبنانية اليوم ليست أكثر من جثة ميت، «تعيش» على جهاز التنفس الاصطناعي، بانتظار دفنها ولو بشيء من «احترام الميت». وبدلاً من سحق المقاومة بقيادة حزب الله، صار من الأسهل بكثير إنجاز «واجب» الدفن السياسي لـ«المارونية السياسية» وشريكها الجناح العميل في «السنية السياسية»، والدفن النهائي لـ«الدولة اللبنانية العميلة». ولكن صبراً! يقول المثل الشعبي اللبناني: «كل شي بوقتو حلو!». إن الدماء الزكية لشهداء المقاومة الباسلة والوطنية اللاطائفية بدأت ترسم ملامح تأسيس «لبنان جديد: شعبي ــ وطني ــ عربي ــ تحرري ــ مقاوم ــ تقدمي» يكون نموذجاً لـ«وطن عربي كبير موحد جديد» معادٍ للإمبريالية والرأسمالية، وركناً أساسياً لنظام عالمي جديد، يقوم على مبادئ العدالة والحرية والإخاء والمساواة لجميع شعوب العالم.

*كاتب لبناني

 

 

 

 

 

سيرياهوم نيوز١ _الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لماذا نتفاءل بالثورة السورية؟

د. معن علي المقابلة سأذهب مباشرة للإجابة عن هذا السؤال. لانها أسقطت نظاماً مستبداً جثم على الجغرافيا السورية اكثر من خمسة عقود، وهذا السقوط لم ...