آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » دولة الزبائنية السياسية العربية

دولة الزبائنية السياسية العربية

ألبير داغر

 

أهملت الدولة العربية، أكانت راديكالية أو تقليدية، بناء المقدرة الذاتية بـ«التعلّم التكنولوجي» للتصدي لمهمات مواجهة إسرائيل والخروج من التخلّف. في تجربة بلدان شرقي آسيا، مثّل اكتساب المقدرة التكنولوجية بواسطة «التعلّم التكنولوجي» نقطة الانطلاق لبناء المقدرة الذاتية. واقتضى الأمر فيها بناء إدارة عامة شديدة الفعالية وإيلاء التعليم والتعليم العالي مركز الصدارة في اهتماماتها وإعطاء الأولوية لإنتاج سلع تكنولوجية. يتناول هذا العمل في عدّة حلقات طبيعة الإدارة العامة وتطوّر التعليم العالي وغياب أية تجارب «تعلّم تكنولوجي» على امتداد العالم العربي، ودور هذه العناصر في جعل الخمسين عاماً المتصرّمة حقبة من المراوحة في المكان على صعيد التصدّي لإسرائيل وبناء القوة الذاتية، إذ لم تكن هناك تجارب «تعلّم تكنولوجي» لبناء القوة العسكرية العربية.

 

درجت الأدبيات المتخصّصة على اعتماد ثلاثة مفاهيم في تعريف الدولة العربية، هي: مفهوم «دولة التجمعات المهنية» (corporatist state) ومفهوم «الدولة السلطوية الشعبوية» (populist authoritarianism) ومفهوم «دولة الزبائنية السياسية» أو الأصح «الدولة النيو ــ باتريمونيالية» (neopatrimonial state). وتميّز الأدبيات النظرية بين نوعين: «النيو ــ باتريمونيالية المنظّمة» (regulated) و«النيو ــ باتريمونيالية النهّابة» (predatory).

 

دولة التجمعات المهنية

صنّفت فئة من الأدبيات الدولة العربية الراديكالية، في بداياتها على الأقل، وفقاً لمفهوم «دولة التجمعات المهنية»، إذ يحتل مقاعد البرلمانات ممثلون مفترضون للتجمعات المهنية، أي نقابات العمال والفلاحين، وحيث كان ثمة حزب واحد يتم عبره فقط التعبير السياسي والمطلبي (احتشامي ومورفي، 1996). ويصح إطلاق هذه الصفة على الدولة في مصر وسوريا والعراق واليمن والجزائر في مراحل معيّنة من تاريخها المعاصر.

 

الدولة السلطوية الشعبوية

واعتمد الباحث الكبير ريموند هينبوش مفهوم «الدولة السلطوية الشعبوية» لتوصيف تجارب الدول العربية الراديكالية. وأخذ في تعريف السلطوية بالمعنى الحديث المتعارف عليه، أي سلطة الحزب الواحد (هينبوش، 2024: 372). وعنى بالشعبوية اعتماد الشخصيات والأحزاب المؤسسة لهذه الأنظمة موقفاً مزدوجاً يقوم على المعاداة للإمبريالية في علاقاتها الخارجية، ومعاداة النخبة التقليدية في الداخل والانتصار للفئات الاجتماعية التي تحتل موقعاً دونياً (هينبوش، 1990: 2). وقد ترجمت ذلك في سياساتها الاقتصادية والعامة التي عبّرت عن وجود عقد اجتماعي شعبوي أقامته هذه الأنظمة مع جمهورها. وهو تمثّل بتأميم الأرض وتأميم الصناعات والمرافق الاقتصادية الأخرى وفتح باب التنسيب إلى الإدارة العامة والقطاع العام على مصراعيه واعتماد سياسة دعم لأسعار المواد الغذائية الأساسية والمحروقات يستفيد منها العموم (هينبوش، 2021: 4). وقد تولّى الحزب الواحد الذي اعتمدته هذه الأنظمة تعبئة الجمهور ووفّر لها قاعدة جماهيرية.

 

دولة الزبائنية السياسية

وهناك الآن إجماع بين الباحثين على توصيف الدولة العربية وفقاً لمفهوم دولة الزبائنية السياسية أو الدولة النيو ــ باتريمونيالية (بنك وريختر، 2010). والمقصود بهذه الأخيرة استخدام النخبة السياسية للموارد العامة من أجل المنفعة الخاصة وبناء إدارة عامة بحيث يتقدّم ولاء المنتسبين لصاحب القرار على الاستحقاق والكفاءة كشرط للتوظيف.

 

المقاربة التقليدية

وينطلق الباحثان بنك وريختر من المقاربة التقليدية لموضوع الدولة النيو ــ باتريمونيالية العربية لتقديم مقاربة جديدة أكثر شمولاً لجهة الوسائل التي يعتمدها صاحب السلطة للبقاء في الحكم (بنك وريختر، 2010: 6). والمقصود بالمقاربة التقليدية تلك التي تستند إلى إسهام ماكس فيبر الفذ في تعريف أشكال السلطة. وأهم ما في هذه المقاربة، التركيز على عنصري شخصنة السلطة (personalism) والطابع غير الرسمي (informality) للعلاقة التي تربط من يتولى الحكم مع جمهور المرتبطين به.

وقد أوضحت المقاربة جملة خصائص للدولة النيو ــ باتريمونيالية العربية بإظهار الطابع الشخصي الحاد لممارسة الحكم فيها وارتباط الدولة بكل مفاصلها بشخص واحد هو صاحب السلطة، وبحيث لا تكون قرارات أو أعمال كل الذين يُعيّنون من قبله مقبولة إلا لأنه يؤمن الغطاء لها. وما يجعل هذه الأنظمة عصيّة على التغيير هو قدرتها على تأمين إجماع النخبة في كل وقت. ذلك أن مطلق فرد من النخبة يمكن أن يُستدعى لتولي مسؤولية أمر ما أو أن يُنتدب لمهمة إذا حازت فكرته على رضى صاحب القرار. أي إن على عناصر النخبة ألا يتورّطوا بأي موقف معارض لصاحب السلطة لكي لا يفقدوا إمكانية أن يُعيّنوا في مواقع مسؤولية. وهذا ما يجعلهم عاجزين عن بلورة مواقف مستقلة، وتكوين تكتلات على هذا الأساس (بنك وريختر: 4).

الإدارة العامة تمثّل موقعاً محورياً في تعيين طبيعة الدولة النيو ــ باتريمونيالية بشكل عام وفي مدى إخفاقها أو نجاحها في تحقيق مهمات التنمية

 

المقاربة المحدثة

أما الجديد الذي قدمته مقاربة بنك وريختر في فهم الدولة النيو ــ باتريمونيالية العربية، فهو أنها جعلت مسألة اكتساب الشرعية (legitimation) منطلقاً لممارسات صاحب السلطة. وأول الوسائل التي يعتمدها هذا الأخير، استخدامه للموارد المادية لاكتساب الشرعية. ويكون ذلك بفتح المجال أمام الباحثين عن ريوع في أوساط النخبة لتحقيق منافع خاصة (rent-seeking)، واعتماد سياسات عامة تتيح توزيع منافع وأعطيات (allocation) على الجمهور الواسع. وقد ميّز الباحثان ايردمان وانجل بين الزبائنية السياسية التي هي علاقة شخصية بين «رئيس شبكة المحاسيب» والأفراد وبين المحسوبية (patronage) حيث العلاقة هي مع مجموعة أوسع وتتناول توزيع خدمات ذات طابع جماعي (ايردمان وانجل، 2006: 21). وكلتا الاثنتين، أي الزبائنية السياسية والمحسوبية، تعبّران عن وجود نظام نيو ــ باتريمونيالي.

وأضاف بنك وريختر إلى الوسائل المادية لاكتساب الشرعية، وهي التي اقتصرت عليها المقاربة التقليدية، فتح المجال أمام مزيد من المشاركة السياسية (politics of participation) عبر اعتماد انتخابات نيابية وبلدية تحقق مطلب التعبير السياسي وترفد صفوف النخبة الموالية. ثم أضاف الباحثان نوعاً ثالثاً من السياسات التي يلجأ إليها صاحب السلطة تحت عنوان السياسات الرمزية (politics of symbolism). وهي تشتمل على كل ما يتوافر له من وسائل رمزية كاستخدام عامل الهوية، أي الانتماء المذهبي أو الإثني أو الجهوي أو القبلي المشترك مع الجمهور لاكتساب ولائه (بنك وريختر: 8).

 

التلازم بين الاقتصاد الريعي وبين الدولة النيو ــ باتريمونيالية

أشار الباحثان ايردمان وانجل إلى التلازم بين تطوّر الاقتصادات الريعية وتطوّر الدولة النيو ــ باتريمونيالية (ايردمان وانجل: 28). وقدّم ريختر مقاربة تفصيلية لكيفية استخدام صاحب السلطة للموارد المادية لتأمين استدامة الحكم (ريختر، 2007). ورأى أن هذه الاستدامة تتأتى من استخدام ريوع داخلية وأخرى خارجية المنشأ. أي إنها لا تقتصر على الريع البترولي والريع المتولّد عن الموقع الجغرافي، كقناة السويس مثلاً، بل من جملة من الريوع الأخرى تضاف إلى هذه الأخيرة. وهي الريع الإستراتيجي، كالمبالغ السنوية التي تحصل عليها مصر مثلاً من الأميركيين منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، والريع السياسي، أي ما يتوافر للدولة وبالأخص لمنظمات المجتمع المدني من تقديمات وأعطيات خارجية المنشأ. وصنّف ريختر تحويلات العاملين في الخارج في فئة الريوع التي تستفيد منها الدولة (ريختر، 184). وقد مثّلت الريوع ذات المنشأ الخارجي، ما يوازي 30 % من إنفاق الموازنة في مصر على امتداد حقبة 1980-2004 (ريختر: 190).

واعتبر ريختر أن وجود موارد خارجية يتيح أن لا ينخفض إنفاق الدولة خلال فترات تراجع مداخيل البترول ويحافظ على مستواه لمصلحة الفئات الإستراتيجية في الدولة. وهي الجيش وفئة أصحاب الأعمال والطبقة الوسطى. وتُضاف إلى هؤلاء عامة الشعب التي تستفيد من دعم الدولة للسلع الاستهلاكية الأساسية وللمحروقات. وعلى سبيل المثال، كان عدد السلع المدعومة في مصر 20 سلعة عام 1980 تمثّل 15 % من إنفاق الموازنة. ثم انخفض العدد إلى أربعة في التسعينيات. وفي ما بعد أضيفت سبع سلع إلى اللائحة عام 2003. ولقد كانت كلفة الدعم غير المباشر لأسعار مياه الشفة والكهرباء والمحروقات عام 2005 توازي 15 % من إنفاق الموازنة (ريختر: 187).

 

فعالية الدولة النيو ــ باتريمونيالية

ولاحقاً بيّن هينبوش أن المواصفات المشار إليها أعلاه، وخصوصاً وجود عقد اجتماعي شعبوي يربط النخبة الحاكمة بالجمهور الشعبي، لا تقتصر على الدولة «السلطوية الشعبوية» بل تشمل كل الدول العربية بصرف النظر عن كونها جمهورية أو ملكية (convergence)، وبصرف النظر عن المعسكر الذي تنتمي إليه في العلاقات الدولية. أي إنه يصح وصفها كلّها بأنها دول نيو ــ باتريمونيالية (هينبوش، 2010: 209). وقد اعتمد منهجية السوسيولوجيا التاريخية الفيبرية لتعيين عناصر فعالية الدولة النيو ــ باتريمونيالية العربية. واستند إلى أعمال مايكل مانّ لتعيين معيارين لهذه الفعالية هما المقدرة الإدارية للإدارة العامة أو قدرتها على تنفيذ القرارات الآيلة إلى توفير منافع عامة (infrastructural power) واستقلاليتها (autonomy) (مانّ، 2008: 357). وأطلق صفة الدولة «النهّابة» على الدولة التي تتمتّع باستقلالية تجاه قوى الضغط، وتنحصر فعاليتها في الجوانب الأمنية فقط لهذه الفعالية (هينبوش، 2021: 2-4).

 

دور الإدارة العامة

رأى الباحثون في المدرسة الألمانية أن تجديد مفهوم الدولة النيو ــ باتريمونيالية يكون بالانطلاق من كونها هجينة (hybrid)، أي تنطوي على ممارسات تعكس طابعها الباتريمونيالي بمعنى استخدام الموارد العامة للمنفعة الخاصة، وممارسات أخرى تعكس وجود إدارة حكومية حديثة تعتمد مقاربة عقلانية في رصد الموارد العامة (ايردمان وانجل: 17). وانتقد الباحثان ايردمان وانجل اعتبار بعض الباحثين الإدارة الرسمية للدولة مجرّد واجهة تجري وراءها الصفقات لمصلحة المستفيدين من «دولة الظلّ».

ودعا جان ــ فرنسوا ميدار إلى التعامل مع الدولة النيو ــ باتريمونيالية كنموذج أمثل وتصنيف الدول المختلفة وفقاً لتراتبية تقع على طرف منها النيو ــ باتريمونيالية المنظّمة (regulated patrimonialism)، إذ يستطيع صاحب السلطة عزل عمل الإدارة العامة إلى حد ما عن تدخّلات المحظوظين والمستفيدين، وتقع على الطرف الآخر النيوباتريمونيالية النهّابة (predatory patrimonialism) حيث يطغى نهب الموارد العامة في أداء الدولة وممارسات كل القائمين عليها (ميدار، 2000: 854؛ باش، 2011، 279؛ داغر، 2020).

ويُظهر العرض أعلاه أن الإدارة العامة تمثّل موقعاً محورياً في تعيين طبيعة الدولة النيو ــ باتريمونيالية بشكل عام وفي مدى إخفاقها أو نجاحها في تحقيق مهمات التنمية. والأمر نفسه ينطبق من دون شك على الدولة العربية.

 

المراجع

Bach Daniel, «Patrimonialism and Neopatrimonialism: Comparative Trajectories and Readings», in Commonwealth and Comparative Politics, July 2011.

Bank André and Thomas Richter, “Neo-Patrimonialism in the Middle East: Overview, Critique and Alternative Conceptualization,” paper given at German Institute of Global and Area Studies, Hamburg 23 August, 2010.

Ehteshami Anoushiravan, Emma Murphy, “Transformation of the Corporatist State in the Middle East.” Third World Quarterly 17 (4), 1996, pp. 753–72.

Erdmann Gero, Engel Ulf, “Neopatrimonialism Revisited – Beyond a Catch-All Concept”, GIGA Working Papers, No. 16, 2006, 38 pages.

Hinnebusch Raymond, “Egypt and Syria: The Authoritarian Republics of the Middle East”, In N. Lindstaedt & J. Van den Bosch, Eds., Research Handbook on Authoritarianism, Edward Elgar Publishing Ltd. , 2024, pp. 370-385.

Hinnebusch Raymond, “Statehood in the Middle East and North Africa: Approaches from Historical Sociology”, CERI, 10/2021, part II, 10 pages.

Hinnebusch Raymond, “Toward a Historical Sociology of State Formation in the Middle East”, Middle East Critique, Vol. 19, No. 3, Fall 2010, pp. 201–216, p. 209.

Hinnebusch Raymond, Authoritarian Power and State Formation in Ba’thist Syria: Army, Party and Peasant, Westview Press, Boulder, Oxford, 1990.

Hinnebusch Raymond,“The rise and decline of the populist social contract in the Arab world”, World Development, vol 129, 2021.

Mann Michael, “Infrastructural Power Revisited,” in Comparative International Development, Vol. 43, 2008, pp. 355–365.

Médard J-F, « L›Etat et le politique en Afrique », Revue Française de Science Politique, 50(4), 2000, pp. 849-854.

Richter Thomas, “The Political Economy of Regime Maintenance: Linking External Resources and Domestic Legitimation”, in Oliver Schlumberger (ed.), Debating Arab Authoritarianism: Dynamics and Durability in Nondemocratic Regimes,” Berkeley: University of California Press, 2007, pp. 177‐193.

ألبير داغر، «هل قلت دولة الزبائنية السياسية؟»، الأخبار، 8/ 9/ 2020

 

 

 

 

 

 

 

سيرياهوم نيوز١_الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أما من نهاية للكوميديا الأميركيّة؟

    نبيه البرجي   لم يكن الكاتب والسياسي الانكليزي ديزموند ستيوارت يكرهنا أو يزدرينا. هو من عشاق الشرق الأوسط، الذي تناول تاريخ المنطقة برزانة ...