آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » رواية (المياه الشمالية)..المكان بارد ومظلم وكأنها نهاية العالم ..

رواية (المياه الشمالية)..المكان بارد ومظلم وكأنها نهاية العالم ..

علي الرّاعي  2020/11/7

في كلِّ مرةٍ؛ أبدأُ فيها بقراءة روايةٍ مُترجمة، أحبسُ أنفاسي حتى الصفحة الخامسة منها على الأقل، ذلك أني أتوجسُّ ريبةً ما؛ باعثها عددٌ غير قليلٍ من الروايات المُترجمة التي كانت تبعثُ على الإحباط قبل أن أتجاوز الصفحة الخامسة، حيث تكون لغة السرد في الترجمة العربية كأنها قُدّت من خشبٍ لا روح فيه، ناهيك عن أن الرواية المُترجمة قد تكون ضعيفة فنياً، وحتى في الأفكار لدرجة تسألُ نفسك، وما الجدوى من نقلها إلى العربية..
غير أن صاحب رواية (المياه الشمالية)، وهي للكاتب البريطاني (إيان ماغواير)؛ وهو مُحاضر في جامعة مانشستر، ومُهتمٌ بالرواية الواقعية؛ والذي ليس في رصيده الكثير من الأعمال الإبداعية، حيث لديه إضافة ل(المياه الشمالية؛ أجساد غريبة، وريشارد فورد ونهايات الواقعية)؛ سيأخذنا ماغواير في هذه الرواية إلى مناطق إنسانية وجغرافية مختلفة وغامضة بطريقة أقرب للتشويق البوليسي في رحلة مغامرات غريبة الأطوار والحظوظ لطبيب إيرلندي في بريطانية.
صحيح أن حيز سرد الأحداث بالدرجة الأولى؛ هو فضاء متن سفينة لتاجرٍ يهودي بريطاني تبحر في مياه الشمال بحثاً عن زيت الحيتان، غير أنّ الكاتب يُضيف لشخصيته المحورية فضاءات أخرى من أزمنة مختلفة، وإن كانت أحداث الرواية كلها تدور في زمنٍ ما من القرن التاسع عشر، حيث بريطانيا في ذروة تغولها الاستعماري الرهيب.. ذلك الزمن الذي لا يُمكن قراءته كما يجب إلا من وجهة نظرٍ إيرلندية لتضع نقاط التوحش البريطاني على حروف الجشع والطمع والاغتصاب كما يجدر بعين – كاميرا إيرلندية لا تُخطئ مشاهدها، وهو الطبيب (سامنر) التي تجعله الظروف شاهداً على أحداث الرواية بل والذهنية البريطانية، أقرب لمحقق يربط الأحداث ببعضها، ليصل إلى المفاجأة التي لا تخطر حتى على ذهن كبار المُحققين البوليسيين..
كل ذلك تمت ترجمته إلى العربية بلغة حية دخلت مع مؤلف الرواية إلى “جوانيات” الشخصيات، لتنقل “واقعية” الأحداث، أو ما توحي به من واقعية، إلى عوالم نفسية، وجدلٍ طويل في الوجود لاسيما في التقاء (سامنر) مع شخصيتين، سيكون لهما مساحة واسعة للحديث في فلسفة الوجود من عبثيةٍ وعدمٍ وتأملٍ وروحانيات دون أن ينتصر رأيٌ على آخر، وإنما يترك المجال واسعاً لكل شخصية لتقدم ما لديها من تبريرات، وأسباب لما تؤمن به، وتقتنع..
غير أنه لابدّ لمن يقرأ رواية (المياه الشمالية) التي ترجمتها نور مأمون العظمة، والصادرة مؤخراً عن الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة؛ من أن يستحضر للذهن المسرحية الذائعة الصيت (تاجر البندقية) لكاتبٍ بريطاني آخر هو أيضاً، بل لسيّد اللغة الإنكليزية، وأقصد بذلك (وليم شكسبير).. وأمّا دافع استحضار تلك المسرحية لشكسبير؛ فهي الشخصية المُحركة للأحداث (التاجر اليهودي) في كلا النصين الإنكليزيين: “شايلوك في تاجر البندقية، و “باكستر” في المياه الشمالية..
و(إيان ماغواير) في هذه الرواية؛ تراه يذهب حدّ الشغف في وصفه لشخصياته، سواء وصفهم كمن يصوّر بكاميرا، وفي حالة أقرب صورة ل”البورتريه”، أو بالدخول إلى جوانياتهم، وما يعتمل بداخلهم من مشاعر، تذهبُ في التناقض إلى أبعد الجهات المتنافرة، حتى لتبدو لعبة الراوئي الفنية تكمن في هذه المسألة في تفاصيل حكاية وجودية تغرق في فلسفتها إلى حدود السريالية، وذلك في المصائر التي تصل إليها الشخصيات في بحثها عن المال بالدرجة الأولى، وفي الغاية من هذا الوجود كله، لاسيما عندما تضيق الفضاءات الحياتية، وتختزل لمساحة فضاء.. سفينة في مواجهة إعصار على حدود القطب الشمالي، بقيادة قبطان يُعرف عنه سوء الحظ، هذا السوء الذي سيكشف فيما بعد أنه (سوء حظ) مُتعمد في إغراق السفن في رحلاتها العبثية لتاجر يهودي وصل به الجشع إلى ذروته في الوحشية..
ف(الرجل) الذي لا نعرف اسمه حتى الصفحة (15) الذي تبدأ الرواية بوصف سلوكه، وهو يتحضر للرحيل، كان الراوي يسرد سلوكه من الداخل والخارج، يغوص إلى أقصى ما يُفكر به، وهو في ذلك الوصف، وبتلك اللقطات السريعة، التي كانت كمن يُقدم (برومو) لفيلم سيُعرض بعد قليل، هذا الشخصية التي تبدو شراً خالصاً منذ بداية الفيلم، ويمكن أن تكون اليد القذرة لأي مجرم يُمكن له أن يستخدمها، والتي ستنتهي الرواية بآخر فصوله الإجرامية، حتى ليبدو أنه المحرّك، أو الأداة لكل ما حصل من شرور في تفاصيل الرواية، باعتبار الشر الأكبر كان المالك اليهودي للسفن القديمة التي تتحطم في البحر بحوادث مُتعمدة لأجل قبض مبالغ التأمين عليها بدل وضعها في مرحلة الاهتلاك والتنسيق الأخير..

والكاتب في لعبة الوصف التي تبدو (لعبته الفنية) الأثيرة لنفسه الإبداعية.. في لعبة الوصف الطويلة هذه؛ نراهُ يُقيم علاقات انجدال بين المشاهد الخارجية والأحداث، فهي تصفو بفجرٍ رمادي يتجلى بين الغيوم، أو تنوس بضوءٍ بعيد على وقع خُطى أقدام على البلاطات القديمة للشارع الطويل، حيث تُغطي
الغيوم الداكنة الرمادية القمر المُكتمل.. هذا المشهد الطبيعي الذي يُنذر بحدث مُريب، وربما مُرعب، وهو يُلاحق (الرجل) الذي سيرتكب أكثر من جريمة خلال ساعات قليلة، وهنا يصبحُ الأمر لا شيء غامض، ولا شيء ينجو من شهيته العنيفة الغاضبة، لتصبح الساحة الأخيرة المكان الأمثل لسحرٍ شرير، لعملية تحوّل مُغرقة بالدم ..
إنه (دراكس – الرجل) اليد القذرة لصاحب السفينة العتيقة التي ستبحر إلى المياه الشمالية، هنا حيث دراكس هو مُصممها المتوحش الآثم.. الذي سيكون وجهاً لوجه مع الطبيب الإيرلندي (سامنر) المهزوم من داخله، والمكسور منذ الطفولة، منذ أن فقد أبويه وهو طفل ، ليُنقذ حياته طبيب مجاور، ويعتني به حتى دراسته الطب، ومن ثم ليلتحق بالقوات البريطانية الغازية في الهند، وهناك كان ينجو فقط بأعجوبة المصادفات، وهو ما سيبقى يميزه رغم معاناته وآلامه من ظلم وإحباط من أطباء وضباط أصحاب نفوذ عالية في القوات البريطانية، ليصل لمرحلة العبث واللاجدوى، لاسيما عندما يُحملونه فسادهم، وهو الأمر الذي يدفعه للمجهول على متن سفينة ذاهبة لتتحطم في مياه بحر الشمال، وعلى متن هذه السفينة الذاهبة إلى حتفها ستبقى (الصدف) وحدها القادرة أن تُبقي (سامنر) على قيد الحياة ليضع هو نفسه خواتيم هذا العبث من الإجرام على مختلف الشخصيات.. ذلك أنه دائماً كان يمرّ بالأسوأ، ومع ذلك لايزال حياً على الأقل، صحيح أنه ليس الشخص المهم الآن، بل هو مجرد طبيب على سفينة صيد حيتان، وكم هو زهيد الأجر الذي يتقاضاه مقابل أعماله الطويلة، لكن إذا نظر من زاوية مختلفة؛ يجد أنّ كونه لا شيء؛ هو إنجاز بحدّ ذاته.. إذاً هي حكاية الشخص الذي يلتبس عليه الأمر بين الضياع والحرية لوضع اللامنتهي.. تلك الحرية الخاوية لشخصٍ شريد، تلك الحرية التي سيكون لها معنى عندما تترافق مع الأعمال وعيش الحياة بأقل ما يُمكن من الفداحة..
في تناول الشخصيات بداية السرد، أو الروي؛ يُمكن للمتلقي أن يُخمّن أكثر من شخصية، ويظنها أنها ستكون المحورية في أحداث الرواية، غير أن ما لا يُمكن توقعه أن تذهب “المحورية” هذه صوب أضعف الشخصيات: طبيب فقير، يبدو وكأنه مقطوع من شجرة، يخرج من محنة ليدخل في مأساة جديدة، قصير القامة، ضعيف البنية، ويعرج من إصابته خلال الحرب البريطانية على الهند، وبعد ذلك ليدخل في محن مائية، كاد أكثر من مرة أن يموت غريقاً ومطحوناً بين الألواح الجليدية.. هذه الشخصية التي ستتبلور كشخصية مُفعمة بالتراجيديا تتلقى ضربات الحياة المُخزية، إلى أن بدأ يفكر بجدوى ما.. تماماً كأي إيرلندي يُحب العمل بطبيعته، وهو هدفه بالحياة، تماماً كهدف الإنكليزي في أن يصبح غنياً من عمل الآخرين !!

(سيرياهوم نيوز-تشرين)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

عرب أميركا ينهلون من السوشال ميديا: في عقر دار الامبريالية… فلسطين أم القضايا!

علي عواد في ظل الانتخابات الرئاسية الأميركية المرتقبة غداً، تتجه الأنظار إلى آراء العرب الأميركيين حول المرشحين وتأثير نتائج الانتخابات المحتملة على القضايا الإقليمية، ولا ...