آخر الأخبار
الرئيسية » كلمة حرة » (فيس بوك الأجداد)

(فيس بوك الأجداد)

بقلم: ميرفت أحمد علي

(الميجنا) ضربٌ من المواويلِ الشعبيةِ الساحليةِ جميعُنا يعرفُها، و قليلٌ منَّا يعرفُ قصَّتها التي اختُلفَ حولَها، شأنُ أيّةِ حادثةٍ يمتزجُ فيها الواقعُ بالخيالِ. و الغريبُ في قصةِ (الميجنا)، أنَّ بعضَ الرُّواةِ قد نسبَها إلى البيئةِ البدويَّةِ، و ما تقومُ عليهِ منَ التنقُّلِ و التَّرحالِ، علماً بأنَّها ترتبطُ (فلكلوريَّاً) بالساحلِ السوريِّ، و بحياةِ الاستقرارِ التي فرضَتها زراعةُ الأرضِ و حصادُ محاصيلِها، و تقولُ الروايةُ:ماتَ رجلٌ بدويٌّ، و تركَ وراءَهُ زوجةً و ابنةً جميلةً، و كانَ يحكمُ القبيلةَ زيرُ نساءٍ ظالمٌ، فأشفقتِ الأمُّ على جمالِ ابنتِها مِن عيونِ شيخِ القبيلةِ البصَّاصةِ الشَّبِقة، و مِن نواياهُ الخبيثةِ؛ فهربتْ بابنتِها ليلاً إلى أرضٍ بعيدةٍ حيثُ عاشَتا على رعيِ الأغنام.و ذاتَ يومٍ زارَ الأمَّ و ابنتَها فارسٌ جميلٌ ومهيبٌ، كانَ يلفظُ أنفاسَهُ الأخيرةَ على صهوةِ حصانٍ متعبٍ، فقامتِ الأمُّ و ابنتُها بإيواءِ الفارسِ و بتضميدِ جراحهِ، و اتَّضحَ لهما أنَّه شيخُ قبيلةٍ مخلوعٌ، اغتصبَ أحدُ السُّفهاءِ حقَّهُ في زعامةِ القبيلةِ و حاولَ قتلَهُ. ومعَ الأيامِ نشأتْ قصةُ حبٍّ بينَ الفارسِ و الفتاة. واستأذنَ الفارسُ بالسفرِ بعدَما تعَافى من جراحهِ للأخذِ بثأرهِ من عدوِّهِ، و وعدَ الحبيبةَ بالعودةِ لزيارتها بعدَ عامٍ؛ ليخطبَها مِن أمِّها.و يمضي عامٌ و نيِّفٌ، و الفتاةُ العاشقةُ ماكِثةٌ تنتظرُ، و يطولُ الانتظارُ؛ فتُصابُ بالجنونِ، و تهيمُ في الصحراءِ المُوحشةِ و هي تُخاطبُ أمَّها قائلةً:ـــ يُمَّه، ما جَانا، ما جَانا (أي لمْ يأتِ إلينا).

ومعَ الأيامِ حُرّفت: (ماجَانا) لتصبحَ: (مِيجَنا)، وراحَ الناسُ يُعبّرونَ مِن خلالِ هذا الموَّالِ عنْ غدْرِ المحبوبِ، و طعمِ فراقِهِ المُرِّ.هذا هوَ كنزُنا الكبيرُ، و إرثُ الأجدادِ النَّفيسُ..(التُّراثُ الشعبيُّ) الذي شغلَ الناسَ و انشغلَ بهم، بهمُومهم ،بمَآسِيهم و بأفراحِهم، و شكَّلَ جسراً للتواصلِ الاجتماعيِّ الحَميميِّ العاطفيِّ المُتَّقدِ فيما بينهم، في زمنٍ انعدمَتْ فيهِ أيَّةُ وسيلةٍ أخرى للتَّواصلِ. ونجحَ هذا الموروثُ بأغانيهِ الجميلةِ، بتعابيرهِ البسيطةِ، و بألحانهِ الفريدةِ، في الاستحواذِ على المشاعرِ و الألبابِ. وامتلكَ مِن قوةِ الجذبِ و الإدهاشِ ما مكَّنهُ من عبورِ الأجيالِ وصولاً إلى اللحظةِ الراهنةِ، بفضلِ المُسنّينَ و العجائزِ، و بالاتّكاءِ على مخزونِ ذوَاكرِهم الذي لا يَنضبُ.

تلكَ الذَّواكرُ الوفيَّةُ لزمنِ البراءةِ و البَداءةِ.هذا ما كانَ مِن أَمرِ أَجدادِنا، يتواصلونَ بمواويلَ فيها مِن خفَّةِ الظلِّ و الظُّرفِ و الإمتاعِ و التَّآنُسِ الشيءَ الوفيرَ. و (الميجَنا) مثلُها مثلُ (أبو الزّلف) و (العتابا) و (الِليَّا) و (جَفنة) و (المُوليَّا)، تؤسِّسُ لعلاقاتٍ اجتماعيةٍ وشيجةٍ في بيئةٍ جغرافيةٍ وتاريخيةٍ محددةٍ، وهيَ مِرآةٌ تعكسُ أَمزِجةَ الحياةِ و أَهلِها. ففي الموَّالِ نجدُ العشقَ و الهُيامَ، وحبَّ الأرضِ، و الرَّهبةَ منَ البحرِ و الأسفارِ، و الاحتفاءَ بالمولودِ الجديدِ، و تأبينَ الميتِ، وزفَّةَ العروسِ، و إحياءَ طقوسِ الحصادِ و الحراثةِ.و اليومَ، لم يَعُدْ أحدٌ يذكرُ هذا التراثَ أو يتغنّى بهِ في الأماسي الباردةِ. و لولا فضلُ الباحثينَ و جهودُ الدَّارسينَ لاختفى هذا الجانبُ الأثيرُ مِن ماضينا. و تتحمَّلُ وسائلُ الاتصالاتِ الحديثةِ مسؤوليةَ هذا التغييبِ و الإقصاءِ للمخزونِ الشعبيِّ المتأصِّلِ المُعتَّق؛ فقدْ تسبَّبتْ في القطيعةِ بينَ أفرادِ الأسرةِ الواحدةِ، و في التَّجَافي بينَ الأجيالِ. و أهمُّها: (الفيس بوك) و (التويتر)، أجارَنا اللهُ من الوحشةِ و التبلُّدِ العاطفيِّ اللذيْنِ يُشيعانِهما في الأجواءِ.و الشكرُ الجزيلُ للأيادي البيضاءِ التي حفظتْ مواويلَنا و أهازيجَ و أغاني أجدادِنا من التبدُّدِ و الاندثارِ. و في هذا المقامِ أَتوجَّهُ بالتحيَّةِ للباحثةِ الدكتورة (فريال سليمة شويكي)، التي زوَّدتِ المكتبةَ العربيةَ بثلاثةِ إصداراتٍ توثيقيَّةٍ للفلكلورِ الشعبيِّ الساحليِّ، و للأغاني و للتقاليدِ المرتبطةِ بالحياةِ في الساحلِ السوريِّ، عبرَ كُتبها الشَّائقةِ الماتعةِ: (كنوزٌ منسيَّة)، و (الزمنُ السعيد)،و (الأغاني الريفيَّةُ الساحلية). فكمْ كانتْ موفَّقةً في رحلةِ التوثيقِ و الوفاءِ لبلدِهاـ و لأهلهِ الطيّبينَ الأخيار!.

(سيرياهوم نيوز11-1-2022)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الدول لا تُبنى على الانتقام بل على التسامح

  إلياس حبيب مراد   كثر الحديث عن المؤتمر الصحفي للسيد حسن صوفان، عضو لجنة السلم الأهلي، وعُقدت لقاءات وندوات تلفزيونية، وامتلأت صفحات التواصل الاجتماعي ...