الرئيسية » كتاب الأسبوع » كتاب “تولستوي- شهادات معاصرين” 

كتاب “تولستوي- شهادات معاصرين” 

 

 

 

بقلم:فلاديمير كورولينكو

 

رأيت ليف نيكولاييفيتش تولستوي ثلاث مرات فقط في حياتي. أول مرة كانت عام 1886. والثانية – عام 1902. والأخيرة قبل وفاته بثلاثة أشهر. هذا يعني أنني شاهدته في بداية المرحلة الأخيرة من حياته، عندما تحوّل تولستوي – الكاتب العظيم، صاحب روايتي “الحرب والسلم” و”آنا كارينينا” – إلى فوضوي وإلى مبشِّر بالعقيدة الجديدة وباللاعنف. ثم رأيته عند مفترق طرق عندما بدا وكأنه مستعد لأن يشكَّ مرّة أخرى فيما يؤمن فيه ولأن يبتعد ويتخلى عن كلّ ما اكتشفه وما بشّر به: من فوضوية ولا عنف. وأخيرًا، لقد تحدثت في المرة الأخيرة مع الكاتب العظيم عند خاتمة طريقه الحياتي وسمعتُ منه مرة أخرى ما هو جديد ومباغت وربما غامض وملغز… وهكذا نجد أنه قام على درب تلك الشكوك الأبدية والحركة الدائمة إلى الأمام بخطوة مفاجئة وغير متوقعة نحو المجهول الذي سعى طيلة حياته من أجل كشف أسراره وسبر أغواره ومن ثمّ ربطه مع الحياة الدنيوية بوثاق متين لا تنفصم عراه.

لقد بقيت تلك اللقاءات الثلاثة محفوظة في ذاكرتي بصورة حية وساطعة، كما لو أنها جرت قبل وقت قصير تمامًا. مع العلم أنه تفصل بينها فترات زمنية تتراوح بين خمس عشرة سنة وسبع سنوات. وعندما أستعيدها في مخيلتي، ينشأ لديّ انطباع كما لو أنّ الضباب الحياتي على مدى الدرب الطويلة المليئة بمختلف أنواع التجارب والخبرات الحياتية: الساطعة والباهتة، الكبيرة والصغيرة، المهمة والسخيفة – ينقشع ويتبدد ثلاث مرات، لتظهر في المكان النظيف تلك الصورة الواضحة لذلك الإنسان العظيم والرائع… الإنسان الذي يمضي إلى مكان ما بخطوة واثقة ومن دون أي كلل. وفي كلِّ مرّة كان الانطباع مختلفًا: كما لو أنها كانت ثلاث لقطات أو ثلاثة مشاهد مختلفة، ولكنها تجتمع وتتحد مع بعضها البعض في النهاية فقط لتشكِّل صورة واحدة لهذه الشخصية البشرية العظيمة…

عدتُ عام 1885 من منطقة إركوتسك واستقريتُ في مدينة نيجني نوفغورد، حيث رحت أعمل وأكتب، وكنت أزور موسكو في بعض الأحيان. وهناك كانت تعيش، بالمناسبة، السيدة دموخوفسكايا، والدة أحد المحكومين والذي توفي عام 1881 في السجن في سيبيريا. كانت ابنتها خطيبة سجين آخر، المدعو ك. وقد تعرّفت على الاثنين خلال توقفي لبرهة من الوقت في إركوتسك، وحتى أنني تصادقتُ مع السجين دموخوفسكي قبيل وفاته. وعندما عرفت ذلك الأم البائسة، وكانت على معرفة مع زوجتي، فقد أرادت أن تراني وهكذا رحنا أنا وزوجتي نتردد عليها من حين لآخر. وكثيرًا ما يزورها تولستوي أيضًا.

قالت لي ذات يوم أنها أخبرت تولستوي عن معرفتها بي. وبالمناسبة، كانت ثمة علامة في مسيرتي في المنفى يمكن لها أن تصلح حجة للتقارب بيني وبين ما كان يبشِّر به تولستوي. وقد أبدى تولستوي اهتمامًا كبيرًا وقال للسيدة دموخوفسكايا:

– يبدو أنني أعرف السيد كيريلينكو. وفي حال كانت لديه رغبة لكي يأتي لزيارتي بقصد إيجاد حل لشكوكه واستفساراته، سوف أكون سعيدًا باستقباله وبالحديث معه.

كنت آنذاك قد بدأتُ في الكتابة، ولكني لم أكن قد أصبحتُ كاتبًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، أي أنني كنتُ شخصًا صاحب اهتمام كبير وجدٍّي بالمراقبة والملاحظة. بالطبع، كنت سعيدًا أن ألتقي تولستوي، ولكني حين عرفت لماذا يدعوني إليه وما الذي يتوقعه من زيارتي له، شعرتُ بنوع من الحرج والتردد وانتابتني نوبة من الخجل المعروف عندي، فقررت ألا أذهب إلى تولستوي لأنه خُيل لي وكأني أكذب بمجرد أن أذهب إليه. لم أكن لأجرؤ أن أتعامل مع تولستوي باعتباره مادةً للمراقبة. وفي الوقت نفسه لم تكن ثمة مسائل مريبة من ذلك النوع التي كانت تتطلب مني البحث عن حلٍّ أكيد لها عند تولستوي. كنتُ على استعداد لأن أذهب بقصد المجادلة وحسب. لم أكن إرهابيًا في أي يوم من الأيام، ولكن الحاجة للمقاومة والعنف كانت تبدو لي ضرورة واضحة وماسة إلى درجة أنني لم أستطع أن أسمع رأيًا معاكسًا لذلك. وفي نفس الوقت كان تقدير واحترام الكاتب الكبير عائقًا بالنسبة لي لكي أتصوّر نفسي مجادلًا له.

وهكذا قررت عدم الذهاب لزيارة الكاتب العظيم الذي كان ينكر الفن التشكيلي، والمفكِّر الذي يرفض العلوم، والباحث عن الحقيقة الذي اكتفى بصيغة مختصرة ومحدودة من الهدوء Quietism المسيحي المصطنع أو الشبيه بالمسيحي. “في حال كان ثمة حديث عن إنجيل ما – كانت هذه العبارة التي قالها أحد ما شائعة في موسكو – فإني سأفضل إنجيل يوحنا على إنجيل تولستوي”.

 

من كتاب “ليف نيكولاييفيتش تولستوي- شهادات معاصرين” صدر قبل بعض الوقت في دار سؤال للطباعة والنشر في بيروت…

الكتاب متوفر في معرض الدوحة الحالي للكتاب…

 

*كاتب وصحفي وناشط اجتماعي روسي ١٨٥٣ – ١٩٢١

ترجم الكتاب للعربية:د.ابراهيم استنبولي

(سيرياهوم نيوز-صفحة المترجم)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

ديوان (شغف الأسئلة)

  حسن ابراهيم الناصر     “الوجد زيت القناديل ” التي تضيء الليل البارد وتملأ الأمكنة دفئاً وحميميةً حيث فلسفة الوجد يكتبها الأديب الشاعر : ...