آخر الأخبار
الرئيسية » تربية أخلاقية وأفعال خيرية » لماذا يُعد الاحتفال بمولد خاتم الأنبياء تقليدا محمودا؟.. أو الذكرى التي لا يمكن تجاوزها

لماذا يُعد الاحتفال بمولد خاتم الأنبياء تقليدا محمودا؟.. أو الذكرى التي لا يمكن تجاوزها

فوزي حساينية

الجزء الأول:

في هذا المقال سأحاول أن أبين لماذا يعد الاحتفال بالمولد النبوي الشريف أمر محمود وتقليد ماجد،  وذلك بعيدا عن أي جدل فقهي أو مذهبي متشنج ، أي أنني سأحاول أن أوضح وجهة نظر معينة أتبناها ، ولكنني بكل تأكيد أحترم موقف من يرون عدم الاحتفال بهذه الذكرى أيا كانت مبرراتهم ، فالإسلام دين عالمي واسع يشمل الإنسانية كلها ، ويمكنه بكل تأكيد أن يتسع لهؤلاء وهؤلاء ، إذن الأمر يتعلق بنقاش فكري ثقافي وليس بتخندق مذهبي فقهي أو سعي لإدانة وجهة النظر الأخرى أو مهاجمتها.

 الاحتفال بالمولد النبوي من العادات الثقافية والاجتماعية الراسخة في المجتمع الجزائري وسائر المجتمعات العربية الإسلامية عبر الأجيال، ويبدو لي أن تبني بعض المسلمين ومنهم عدد من الجزائريين لفكرة عدم الاحتفال بالمولد النبوي لا تعود إلى دخول مذاهب جديدة أو الانقلاب على المرجعية الدينية وما إلى ذلك، نعم قد يكون لهذه العوامل بعض التأثير، لكن التفسير الرئيس لهذا السلوك الطارئ يعود بالأساس كما أعتقد إلى عدم إدراك هؤلاء بشكل كاف أو بسبب تضييعهم للفهم الصحيح والعميق لمعنى كون محمد عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء النبي الذي ختم زمن الأنبياء فلا نبي ولا رسول من بعده.

لماذا نحتفل بذكرى ميلاد خاتم الأنبياء ؟ نفعل ذلك لعدة أسباب منها :

أولا : أن القرآن الكريم نفسه خاتم الكتب السماوية كلها يحتفي بمولد الأنبياء، القرآن احتفى بالأنبياء مولدا وسيرة وأعمالا، وسمى القرآن الحديث عن ميلاد الأنبياء وسيرهم ومنجزاتهم بأحسن القصص، بل إن القرآن اهتم بالأنبياء حتى قبل ميلادهم إذ كان يبشر بهم ويحتفي بهم وهم لايزالون في ضمير الغيب كما حدث مع يحي عليه السلام عندما بُشر به كرياء، وكما حدث مع المسيح عيسى بن مريم الذي كان ميلاده ميلادا استثنائيا احتفاليا مهيبا ، وبُشرت به القديسة مريم وهو لا يزال غيبا محضا، وكما كان الشأن مع موسى عندما بُشرت والدته لحظة ميلاده بنبوته والشأن العظيم الذي سيكون له، وإذن فميلاد الأنبياء كان يشكل بالنسبة للقرآن حدثا مهما يُحتفى به ” والسلام علي يوم ولدت.. ” فيما يخص المسيح، و كذلك ” والسلام عليه يوم ولد… ” فيما يخص يحي، فميلاد الأنبياء يرمز للسلام بكل أبعاده الدينية والثقافية والاجتماعية والروحية، ولذلك فإنه من باب أولى أن لا يكون ميلاد خاتم الأنبياء الذي ختم النبوات وجاء بالرسالة إلى العالم كله مجرد لحظة عابرة في زمن الأمم، إن لحظة ميلاد النبي الخاتم هي لحظة مفصلية في تاريخ الإنسانية، وقد تم التبشير بميلاده على لسان موسى وعيسى بقرون سابقة، فكيف لا نحتفل بها ؟

ثانيا : بالنسبة للمجتمع الجزائري والمجتمع التونسي وهذا كمثال فقط ، هناك من يجيز هذا الاحتفال وهناك من لا يجيزه،ولكل تبريراته بدون شك، لكنني لا أعرف عالما من علماء المغرب العربي مثلا يرى عدم جواز إحياء المولد النبوي، ولنقف مع عينة من علماء الجزائر في فترة فارقة وصعبة جدا من التاريخ الوطني وتحديدا  ثلاثينيات القرن العشرين زمن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين فابن باديس رئيس وقائد هذه الجمعية الإصلاحية كان يحتفي احتفاء كبيرا بالمولد النبوي ويراه مناسبة عظيمة لايمكن تجاوزها أبدا ، ولم يكن بن باديس وحده في هذا فقد كان إلى جانبه علماء كبار أمثال البشير الإبراهيمي ومبارك الميلي والطيب العقبي والعربي التبسي وغيرهم ، وهؤلاء جميعا كانوا يحرصون ويشاركون في إحياء ذكرى المولد النبوي ، فهل يصح أن نقول أن بن باديس ورفاقه كانوا يمارسون بدعة في الدين بإحيائهم لذكرى ميلاد خاتم الأنبياء، وهم علماء معروفون بالعلم والموسوعية والالتزام بتعاليم الإسلام وسنة الرسول الكريم ؟ يصف بن باديس في إحدى مقالاته ذكرى المولد النبوي بـــــــ” الذكرى العظيمة ” ويقول: ” لسنا وحدنا في هذا الموقف الشريف لإحياء هذه الذكرى العظيمة، بل يشاركنا فيها البشر في أقطار المعمورة كلها ” ثم يتساءل ” ما الداعي لإحياء هذه الذكرى ” ؟ ويلخص الداعي في ” المحبة لصاحبها  وضرورة إحياء القيم التي عاشها  لصالح المسلمين وغير المسلمين ” فابن باديس يرى في الاحتفاء بالمولد النبوي فرصة لإصلاح النفوس وإصلاح المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية،والأكثر من ذلك كان بن باديس “يحتج بكل بشدة ” على الفرنسيين عندما يمنعون المسلمين في بلد ما من إحياء ذكرى المولد النبوي كما حدث عندما منعت سلطات الحماية الفرنسية المسلمين في مدينة مراكش المغربية من إحياء هذه المناسبة ، فأرسل بن باديس باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين رسالة إلى وزير الخارجية الفرنسي في باريس وإلى المقيم العام الفرنسي في المغرب يحتج على ذلك ويعتبر منع سكان مدينة مراكش من إحياء ذكرى المولد النبوي  ” اعتداء فادحا على الحرية الدينية وعلى شرف المسلمين في المغرب” ويوضح بن باديس قائلا للفرنسيين : ” أن استمرار هذه الممارسات سيؤثر على العلاقات بين فرنسا وبين المجتمعات المسلمة التي هي تحت سلطانكم “.

أما إذا تركنا الجزائر وذهبنا إلى تونس المجاورة وفي نفس الفترة التاريخية سنجد أن عالما كبيرا ومشهورا مثل الطاهر بن عاشور وهو من العلماء الذين بلغوا مرتبة الاجتهاد المعترف بها عبر كل العالم الإسلامي، وصاحب “التحرير والتنوير” و الكثير من المؤلفات كان يحتفل بذكرى المولد النبوي الشريف في جامع الزيتونة أحد أكبر وأقدم وأشهر الجامعات الإسلامية، إذن العلماء المسلمون بصورة عامة يحتفلون بالمولد النبوي بكل حب وتفان وتقدير، ويعتبرونه مناسبة سنوية لنشر القيم الإنسانية والتفكير في رسالة الإسلام.

ثالثا: هنا نتساءل عن الاحتفال بالمولد النبوي بين التاريخ والمجتمع ونفعل ذلك لأن هناك ممن لا يوافقون على إحياء ذكرى المولد النبوي من يحاولون التأسيس لرفض الاحتفال بالقول أن الفاطميين الشيعة أو الروافض كما يقولون هم أول من قاموا بإحياء ذكرى الميلاد النبوي في الجزائر وفي المغرب العربي ككل ! ومن الواضح أن مثل هذا التأسيس يستند إلى التمذهب الضيق الذي لا يتفق مع الفضاء التاريخي والجغرافي الواسع للحضارة العربية الإسلامية، ولا مع مقتضيات الواقع الإنساني في راهنيته ، والأهم هو كيف يمكن أن نفهم الاحتفال بالمولد النبوي من الناحية التاريخية، فعلى مدار أجيال وأجيال كان المولد النبوي بالنسبة للجزائريين وكثير من المسلمين بمثابة الحدث الذي لا يمكن تجاهله ويتم الاحتفاء به دولة وشعبا والدليل على ذلك من التاريخ الجزائري الدولة الزيانية التي كانت تتخذ من مدينة تلمسان عاصمة لها وعاشت دورين تاريخيين كبيرين وسط صراعات طاحنة مع الحفصيين في تونس والمرينيين في المغرب، في هذه الدولة كان الاحتفال بالمولد النبوي يشكل جزءا أساسيا من تقاليدها الرسمية والثقافية إذ كان الأمراء والأشراف والعلماء والجموع ككل يخرجون في مسيرات منظمة بالشوارع بكل أبهة وإجلال وهم يحملون الشموع والرايات ويصطف الناس على جوانب الطرقات فرحا واستبشارا بالذكرى التي يُتلى فيها القرآن ويكرم حفظته ومدرسيه، والدولة الزيانية لم تكن شيعية المذهب، وأنا أقول هذا من باب التذكير والرد لا أكثر ،  إذ من

الجزء الثاني :

حق كل المسلمين أيا كان مذهبهم أن يحتفلوا بذكرى النبي الذي جاء رحمة للعالمين وليس للمسلمين فقط.

ويتضح تمسك الجزائريين بهذه الذكرى عندما نعلم أنه حتى بعد سقوط الدولة الجزائرية سنة 1830 على يد الغزو الفرنسي الوحشي واصل الجزائريون وفي كل الظروف حتى في ظل غياب دولتهم إحياء المولد النبوي كثقافة وممارسة يضطلع بها المجتمع في غياب الدولة ، وهو ما يعني أن الاحتفال بالميلاد النبوي لم يكن مفروضا بسلطة الدولة الفاطمية ولا سلطة أي دولة أخرى قبلها أو بعدها، وصولا إلى اللحظة الحاضرة التي تحتفل فيها الدولة الجزائرية والمجتمع الجزائري كله على غرار الملايين عبر العالم بالمولد النبوي ، وهو أمر رائع بكل المعايير والمقاييس السياسية والأخلاقية والثقافية.

إذن من زاوية التاريخ والمجتمع فالاحتفال بالميلاد النبوي كان حاضرا بكل أبعاده ، وهو احتفال لا يرتبط حصريا بالجانب الديني أو المذهبي بل يعكس تفاعل المجتمعات المسلمة ومنها المجتمع الجزائري مع قيمها وتاريخها ، لأن الجماعات الإنسانية بصورة عامة بغض النظر عن أديانها لها حاجات تتجدد مع الزمن وتعبر عن هذه الحاجات بالمظاهر الاحتفالية المختلفة، أي أننا إزاء حاجات سوسيوثقافية ترتكز إلى خلفية أو منطلقات دينية ، ولذلك فإن الذين يحرمون الاحتفال بالمولد النبوي الشريف يصدمون المجتمع في أخص خصائصه الروحية والثقافية.

والذي حدث في التاريخ الإسلامي أنه بعد تأسيس الدولة الإسلامية بأجيال واتضاح عظمة الحدث القرآني على مسرح التاريخ العالمي ، أدرك المسلمون عبر القرون مدى ضخامة وأهمية حدث الميلاد النبوي، أي عاينوا بأنفسهم كيف غير ميلاد النبي والقرآن الذي أُنزل عليه تاريخ العالم ، وكيف أصبح للعرب والمسلمين دولا في مختلف أرجاء المعمورة من الهند إلى أعماق إفريقيا، ونحن نعرف أن الاحتفال بالمولد النبوي هو احتفال بالقرآن وبمن يحفظونه وبمن يجيدون تفسيره وترتيله من أبناء مختلف الشعوب والأمم، أي احتفال بعالمية القرآن .

رابعا: بالنسبة لمن يقولون أن الاحتفال بالمولد النبوي مجرد بدعة محدثة ، نقول لهم ، لا ليس بدعة ولا شبيها بالبدعة فالأمر يتعلق كما سبق القول بظاهرة تاريخية اجتماعية أكثر منها دينية ولذلك فإن التشدد في هذا الصدد ليس في محله، والقرآن الكريم نفسه يعلمنا أن إنشاء مجتمع جديد وضمان ازدهاره يتطلب التحديث، ففي الآية الثانية من سورة الأنبياء نقرأ: ” مايأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون ” ويأخذ القرآن على هؤلاء أنهم لا يلتفتون إلى أهمية الذكر المحدث معزيا الأمر إلى قلوبهم اللاهية كما جاء في الآية الثالثة من نفس السورة ،فمقولة البدعة المحدثة لا يمكن أن تنطبق على السياقات المرتبطة بإحياء الميلاد النبوي إنما تنطبق على المس بأصول الدين لأننا نعرف بأن الدين مكتمل ” اليوم أكملت لكم دينكم ..” فلا يحق لأحد أن يدعي الإضافة في الدين ، لكن خارج الأصول المؤسسة للدين المكتمل تملك المجتمعات حرية العمل في بناء تقاليدها وتلبية حاجاتها الثقافية والاجتماعية من خلال تفاعلها مع تطورات  الحاضر والمستقبل، ولا يستقيم رفض ذلك باسم الدين.

خامسا : مما يعزز من أهمية القول بجمالية وأهمية إحياء المولد النبوي هو أنني أستطيع مثلا أن أقسم تراثنا عبر القرون إلى قسمين : التراث الحافز والتراث العبء ، التراث العبء هو التراث الذي يتضمن الأمور السلبية التي تنتمي للماضي أو حتى للحاضر ولكنها لا تستطيع إسعافنا ولا تخدم المجتمع في مختلف أحواله الراهنة ، أما التراث الحافز فهو الجانب الذي يشمل القيم الإيجابية التي نستطيع أن ندرجها ضمن ديناميكية الحاضر بما يخدم سير المجتمع نحو مستقبل أفضل، وأنا أنظر للاحتفال بالمولد النبوي باعتباره جزءا من التراث الحافز بكل إيجابياته وانعكاساته على حاضرنا ومستقبلنا،وهكذا فإن اعتبار المولد النبوي كجزء من التراث الحافز يشرعن- على فرض الحاجة لذلك – عملية الاحتفاء به على الصُعد الثقافية والفكرية والاجتماعية بعيدا عن أي جدل مذهبي أو سياسي.

سادسا : هناك من يقول أن الرسول وصحابته الكرام لم يحتفلوا بذكرى المولد النبوي فكيف نجيز لأنفسنا مالم يجيزوه لأنفسهم ؟ ونسي هؤلاء أن الرسول والصحابة كما لم يحتفلوا بالمولد النبوي فإنهم أيضا لم يستنكروا أو ينهوا الناس عن ذلك، وبدون الدخول في الجدل إذ  توجد أحاديث نبوية تشير إلى أهمية المولد النبوي وأهمية الاحتفاء به، نقول : إن الصحابة لم يحتفلوا بالمولد النبوي لأنهم لم يشعروا بالحاجة إلى ذلك سواء حال وجود النبي بينهم أو بعد موته عليه الصلاة والسلام، أي أنه في عهد المجتمع المسلم الأول لم تطرأ الحاجة الثقافية والفكرية التي تدعو إلى إحياء الميلاد النبوي، لكن في عهود تالية شعر المسلمون بهذه الحاجة فأحيوا ميلاد النبي الخاتم وأدرجوه ضمن احتفالاتهم الكبرى.

سابعا: يقول آخرون أن يوم ميلاد النبي الخاتم هو نفسه يوم وفاته ، فلذلك نكون كمن يحتفل بوفاة النبي عندما نحتفل بميلاده ! فبما أن يوم الميلاد هو نفسه يوم الوفاة ، فبماذا نحتفل بالميلاد أو بالوفاة ؟ والجواب : نحن نحتفل بيوم الميلاد بكل تأكيد فلا توجد أمة تفرح بذكرى وفاة نبيها ، ويشير آخرون إلى تعذر إحياء المولد النبوي لأن يوم الميلاد النبوي غير معروف على وجه الدقة ، فكيف نحتفل بيوم لسنا نعرفه على وجه الدقة ؟ الواقع أنه لا توجد مشكلة حتى مع افتراض أننا لا نعرف على وجه اليقين تاريخ الميلاد ، لأن واقعة الميلاد النبوي ثابتة كواقعة الوفاة ، وبالتالي فإننا عندما نحتفل نحتفل بما بين الميلاد والوفاة من قرآن وسيرة ومنجزات، فالاحتفال يكون بالميلاد وليس بالوفاة حتى ولو كانا يشتركان في نفس اليوم، ولحكمة ما فإن النبي الوحيد الذي يُعرف قبره على وجه اليقين هو محمد عليه الصلاة والسلام، مع العلم بوجود روايات تعتمد تاريخا معينا لميلاد النبي فلماذا لا نأخذ بها حتى وإن اعتبر البعض أنها ليست مطلقة الصحة.

والخلاصة أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف التي يحييها ملايين المسلمين من اندونيسيا إلى نيجيريا ذكرى مليئة بالجمال والحب والوفاء ، ومناسبة للعلم والأخلاق والتضامن بين أبناء الأمة المحمدية بكل مذاهبها وأجناسها وأمكنتها، ولا يُعقل أن نحرم المسلمين من أن يفرحوا بمولد خاتم الأنبياء بناء على أراء نعترف لأصحابها بالحق في الالتزام بها دون الحق في أن يُلزموا بها غيرهم.

 

 

 

سيرياهوم نيوز 2_راي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

ضمن دورات تدريبية لجمعية السبيل: تخريج اول دفعة من الفنيين المتخصصين في مجال الطاقة الشمسية

  شهدت جمعية السبيل الخيرية بالتعاون مع المركز العالمي للتدريب تخريج اول دفعة من الفنيين المتخصصين في الطاقة الشمسية، والذين أثبتوا خلال دراستهم حرصاً شديداً ...