يدرك العالم بأغلبه، أنّ الشيء الوحيد الذي أبقى الدولار الأميركي في دائرة التداول العالمي، هو نظام القطب الواحد، أما اليوم فقد أصبح العالم، أكثر جرأة في اتخاذ قرار التحوّل هذا، بعد بدء انزياح نموذج الهيمنة إلى غير رجعة.
مع ازدياد طباعة الولايات المتحدة لكميات غير مسبوقة من الدولار، خلال حربها على فيتنام، اهتزت الثقة بالدولار الأميركي للمرة الأولى، منذ مؤتمر “بريتن وودز” 1944، الذي اعتمد الدولار العملة المرجع دولياً.
وفي إثر ذلك، طالب عدد من الدول الأوروبية في سبعينيات القرن المنصرم، بسحب احتياطاته من الذهب، من البنك الفيدرالي الأميركي، بعد إدراكها أن الولايات المتحدة لا تغطي ما تطبعه من عملة بالذهب.
وقتها، رفض الرئيس الأميركي الطلب، وابتلعت الدول الأوروبية المشكلة على مضض، ثمّ أكملت كأن شيئاً لم يكن. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الولايات المتحدة، تطبع الأوراق النقدية من دون أدنى تغطية موازية بالذهب.
لاحقاً تم فصل تغطية العملة بالذهب بشكل نهائي، وربطت قيمتها بقوة الاقتصاد، والهندسات المالية التي تقوم بها البنوك المركزية، للموائمة بين حجم الاقتصاد وحجم الكتلة النقدية المطبوعة.
استخدمت الولايات المتحدة دولاراتها كأسلحة عاقبت بها كل من خالفها، مع اضطرار الدول إلى استخدام الدولار في التبادلات الدولية، فبلغت حصّة الدولار الأميركي من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية في نهاية العام الماضي 2022، نحو 58.36% بحسب إحصائيات صندوق النقد الدولي.
ومع استعار الحرب التجارية مؤخراً، بين بكين وواشنطن، وتأثيرات الحرب في أوكرانيا على العالم أجمع، تتضاعف فرصة دول “بريكس”، في تأدية دور واعد في قيادة عالم متعدد الأقطاب، خاصةً مع اهتمام نحو 40 دولة ذات اقتصادات متنوعة، بالانضمام إلى التكتل.
ويتعزز هذا الدور، مع مساحة هائلة لدول الكتلة، تبلغ نحو 40 مليون كيلومتر مربّع، وإجمالي عدد سكان يوازي 40% من سكان العالم، وتوقعات أن تساهم الكتلة، بأكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بحلول 2040، إضافة إلى تصنيف اقتصاداتها كأسرع الاقتصادات نمواً على الإطلاق.
الدولار والمقترحات البديلة
مؤخراً صرّح وزير المالية الروسي، أنطون سيلوانوف، خلال مقابلةٍ مع قناة “سي جي تي أن” الصينية، أنّ التعامل بعملات مثل الدولار واليورو خلق بعض المخاطر، مثل إمكانية تجميد الأصول، وإنهاء التسويات المالية، وهذا الأمر يعني تقويض الثقة بهذه العملات.
وبالتالي فإنّ منظمة “بريكس”، تبحث عن فرص لإنشاء “أنواع بديلة عن العملات الأجنبية، بالعملات الوطنية”، مفصّلاً “أنّ الأمر لا يتعلق بعملة نقدية واحدة، كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي، بل بوحدة حساب بديلة للدولار، من دون الاعتماد على عملة واحدة أو مركز إصدار واحد”.
بدوره، أكد نائب رئيس جنوب أفريقيا، بول ماشاتيلي، الذي تستضيف بلاده قمة بريكس الحالية، أنّ التركيز سيكون خلال اجتماع أعضاء المجموعة بشكلٍ رئيسي، على مناقشة تقليل اعتماد دول التكتل على الدولار.
وبالتالي يدرك العالم بأغلبه، أنّ الشيء الوحيد الذي أبقى الدولار الأميركي في دائرة التداول العالمي، هو نظام القطب الواحد الذي سيطر على العالم، في إثر انهيار الاتحاد السوفياتي. أما اليوم فقد أصبح العالم، أكثر جرأة في اتخاذ قرار التحوّل هذا، بعد بدء انزياح نموذج الهيمنة إلى غير رجعة.
هل انتهت هيمنة سويفت؟
ظل الجزء الأصعب هو التبادلات المالية الدولية، فشكّل نظام سويفت (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك)، الذي أسس عام 1973، واتخذ من بلجيكا مقراً له، عماداً لهذه العملية دولياً.
وتستخدم البنوك هذا النظام لإرسال رسائل موحّدة، بخصوص عمليات تحويل المبالغ فيما بينها، وتحويلات المبالغ للعملاء، وأوامر الشراء والبيع للأصول.
بالتالي يغطي النظام جميع المراسلات المتعلقة بالتعاملات المالية والبنكية التي تتم بين البنوك والمؤسسات المالية، ويوفر الحماية والسرعة الكاملة، لهذه التعاملات ومتابعة تسليمها للجهات المعنية.
وتستخدمه أكثر من 11.000 مؤسسة مالية في أكثر من 200 دولة حول العالم، مما يجعله العمود الفقري لنظام التحويل المالي الدولي.
لا توفّر الدول الغربية فرصة لتسييس واستخدام أي قوة كسلاح، إلا وتستغلها. عام 2014، هددت باستبعاد موسكو من النظام بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ولأسباب مختلفة لم تجرؤ على تنفيذ التهديد يومها، خاصة مع استخدام 300 مؤسسة مالية روسية للنظام، ما جعل روسيا ثاني أكبر مستخدم في العالم لـ”سويفت” بعد الولايات المتحدة.
لاحقاً اتفقت الدول الغربية على استبعاد روسيا من النظام ذاته، رغم حاجتها إليها في تسديد مدفوعات الغاز، ومنتجات الطاقة الروسية.
وشبّه عدد من الخبراء استبعاد بنوك روسية من نظام “سويفت” بـ”النووي المالي”، لكنّ آخرين رأوا أن خيار “سويفت” لا يُبقي للدول الغربية أوراقاً للضغط على روسيا في المستقبل.
بينما توقّع فريق ثالث، أنّ العقوبات الاقتصادية “تقوّي سلطة النظام القائم، وتزيد الشعور القومي”، بل وتدفع موسكو لتعزيز التحالف مع الصين.
وفي إثر فصل روسيا من نظام سويفت، قرّر البنك المركزي الروسي، الاعتماد على النظام الروسي لتبادل الرسائل بين البنوك “SPFS”، للعمل كبديل لنظام “سويفت”، والذي تم إنشاؤه في إثر التهديد بطرد روسيا من سويفت عام 2014.
من جهته، يوفر “SPFS” تدابير أمنية متكاملة، تبطّئ المعاملات وتزيد من تكاليفها المالية، علماً أنّ أول تجربة ناجحة له أجريت عام 2017، كما بات يسيطر على 20% من سوق التحويلات الداخلية في روسيا، وتستخدمه حتى الآن، 400 مؤسسة.
يذكر أنه تم ربط النظام الروسي بنظام التحويلات الصيني “CIPS” في عام 2019، بعدما أطلقت بكين نظامها للتحويلات المالية في عام 2015.
نظام CIPS الصيني
شكّلت الأزمة المالية العالمية حافزاً قوياً للصين، لإنشاء بنية مالية دولية، فأنشأت شبكة “CIPS” التي يعني اسمها، نظام المدفوعات بين البنوك عبر الحدود، والذي يشرف عليه بنك الشعب الصيني (البنك المركزي في الصين).
ويعتبر نظام “CIPS” نظام مراسلة، يقوم بتحويل وتأكيد المعلومات بين الدافع (المؤسسة المالية المرسلة) والمدفوع له (المؤسسة المالية المستلمة). ويقدّم خدمات المقاصة والتسوية للمشاركين في المدفوعات والتجارة عبر الحدود باعتماد اليوان عملة موحّدة.
ويبلغ عدد المشاركين المباشرين في الخدمة، نحو 80 مصرفاً، أما غير المباشرين فقد وصل عددهم إلى 1357 شريكاً، يغطون أكثر من 148 دولة، وبحجم رسائل يومية تبلغ عشرات الآلاف، بحسب موقع “CIPS”.
ربما لن يكون النظام الصيني، بديلاً عن “سويفت” في القريب العاجل، لكنه بالتأكيد يتمتع بجاذبية كبيرة، للبلدان المعرّضة لعقوبات من قبل الولايات المتحدة، وتلك التي تتلقّى أموالاً لمشاركتها في مبادرة الحزام والطريق الصينية.
وبالتالي فإن انتقالاً اضطرارياً لعدد من القوى حول العالم، يتم بسلاسة إلى النظام الجديد، عدا عن أصدقاء الصين الكثر حول العالم، الذين تخطّط بكين لضمهم بهدوء للنظام.
ورغم الهيمنة المستمرة للدولار على الاقتصاد العالمي، إلا أن العديد من المؤشرات، تدلّ على انخفاض بطيء في اعتماد الاقتصاد العالمي عليه، مقابل تشكّل تكتلات، غير تصادمية، تكبر بهدوء، وتركّز على استخدام العملات الوطنية، بعيداً عن الهمينة، وتحقيقاً لمبدأ رابح-رابح في عالم الأقطاب المتعددة الجديد، الذي تهدف بريكس إلى الانتقال الهادئ إليه.
سيرياهوم نيوز1-الميادين