| نقولا ناصيف
مع أن تحديد موعد جلسة انتخاب الرئيس واجب دستوري لا يملك الرئيس نبيه برّي التخلص منه لعدم جدواه في الوقت الحاضر، إلا أن ما يحدث منذ الجلسة الثانية إلى الرابعة أمس ثم في الجلسات المقبلة، يجزم بأن الوقت مبكر جداً لهبوط «الروح القدس» على ساحة النجمة
قدر اتفاق الطائف منذ عام 1989 أن يعطي لبنان أربعة نماذج غير متشابهة لرؤساء للجمهورية: أولها رئيس لم يتسلّم من سلف ولم يتح له أن يحكم كي يسلّم إلى خلف كرينه معوض، ورئيس لم يتسلم من سلف لكنه سلّم إلى خلف كالياس هراوي، ورئيس تسلّم من سلف ولم يسلّم إلى خلف كإميل لحود، ورئيس لم يتسلّم من سلف ولم يسلّم إلى خلف كميشال سليمان وميشال عون.
بمرور أكثر من ثلاثة عقود في عمر اتفاق الطائف، تعذّر على لبنان أن يشهد مرة انتخاباً طبيعياً لرئيس جمهوريته في أبسط الشروط المنصوص عليها في الدستور، يشبه قليلاً ما كان يحدث قبل الحرب.
في كلٍ من الاستحقاقات الخمسة المتوالية منذ اتفاق الطائف، ثمة قيصرية ما تسبق انتخاب الرئيس أو تليه: إما بالاغتيال، أو بتعديل الدستور لتمديد الولاية، أو بتعديله للمجيء بمَن يحظر الدستور انتخابهم ما لم يستوفوا شروطاً صارمة، أو باضطراب أمني، أو أخيراً في آخر شغور بحرد الطوائف إما أنها تقاطع المرشح أو تقاطع الانتخاب. ليست مرحلة ما بعد سوريا أحسن حالاً من تلك. بيد أن فضيلة دمشق في إمرار الاستحقاقات في أوان نفوذ قواتها في لبنان، أنها حافظت على المهل الدستورية – وإن بالإرغام كما فرض مرشحها – في مواعيد انتخاب الرئيس. مذذاك، ما إن خرجت، أٌفلت الزمام من أصحاب الأمر الجدد. ثلاث مرات على التوالي، من دون سوريا، أدار الأفرقاء اللبنانيون ورثة دورها الاستحقاق الرئاسي، ودفعوا به إلى شغور المنصب بسبب الانقسام الداخلي. حدث ذلك عامي 2007 و2014، ويوشك أن يحدث بعد أسبوع من اليوم.
ربما لأن الشغور أضحى متوقعاً ومحسوباً ووضعاً عادياً يسهل التعوّد عليه، وتالياً الاستغناء عن وجود رئيس الجمهورية وقتاً يقصر أو يطول، يتقدّم عليه الاهتمام بالمرجعية التي ستحل في صلاحياته لإدارة المرحلة المقبلة. ما حدث في مجلس النواب البارحة، في رابعة جلسات الانتخاب، دليل إضافي على أن ترتيب الأولويات بات معكوساً. من ذلك الفارق الجوهري في مقاربة هذين الحدثين: الشغور واقع بدءاً من منتصف ليل الاثنين المقبل، إلا أن تأليف حكومة جديدة لا يزال محتملاً أكثر مما هو مستبعد لأسباب شتى:
لأسابيع خلت سمع مسؤولون لبنانيون من السفراء هؤلاء، واحداً تلو آخر، حضّاً متواصلاً على استعجال تأليف حكومة جديدة انطلاقاً من يقينهم بأن انتخاب الرئيس مؤجل إلى أمد غير معروف. بعض المهم الذي أدلى به السفراء ضرورة انبثاق شرعية دستورية موقتة وانتقالية من خلال حكومة جديدة يسهل مخاطبة الدول إياها والتعامل معها، والتعويل على مرجعيتها في الوقت الحاضر. عزا أحدهم أمام مسؤول رسمي كبير الحاجة إلى الحكومة هذه، ليس إلى ملئها صلاحيات رئيس الجمهورية فحسب، بل للحؤول دون أي فوضى محتملة يكثر الحديث عليها في ظل الانقسام الحالي من حول الحكومة المستقيلة.
ثانيها، المهمة المحددة المنوطة بالحكومة الجديدة – غير المدعوة إلى إنجاز الإصلاحات البنيوية التي تعذرت عليها في الأشهر المنصرمة – هي الاكتفاء بإدارة مرحلة الشغور بأقل أضرار ممكنة وبأفضل فسحة من الاستقرار الأمني. بيد أن شرط الإدارة هذه يكمن في تمكينها من الاجتماع دونما تحميلها ما لا يسعها حمل وزره.
مفاوضات الأيام الأخيرة: إبدال ستة وزراء في الطوائف الست
ثالثها، تقلصت في الأيام الأخيرة الفجوات الواسعة بين الرئيس نجيب ميقاتي ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل بإزاء شروط كل منهما حيال الحكومة الجديدة. باتت الأحاديث الدائرة بينهما بالواسطة تقتصر على تبديل ستة مقاعد – لا حقائب ـ في الحكومة المستقيلة، يُعطى لكل طائفة – والمقصود المرجع السياسي المفترض أنه يمثلها – إبدال وزير بآخر دونما مسّ توازناتها الحالية. بعدما طلب ميقاتي إبدال ثلاثة وزراء مسلمين (شيعي وسنّي ودرزي) أضحى لباسيل حق طلب إبدال ثلاثة وزراء مسيحيين. لم تعد المشكلة تدور من حول الأسماء الستة المرشحة للتغيير، بل في العقدة الكأداء غير المنطقية وغير المبررة، وهي رفض رئيس التيار الوطني الحر – الذي سيمسي بإبصار الحكومة الجديدة النور شريكاً حقيقياً فيها – منحها ثقة كتلته النيابية. ذلك ما رفضه ميقاتي ولا يزال بأن أقرنها بإعطائه حق إبدال الوزراء الثلاثة.
بالتأكيد يفضّل توفير العناء على نفسه بالإبقاء على حكومته المستقيلة كي تستمر في مرحلة الشغور بصلاحيات رئيس الجمهورية كاملة، بيد أن وطأة الضغوط الخارجية بمَن فيها أصدقاؤه الفرنسيون كما حزب الله تحمله على التروي.
كلاهما، ميقاتي وباسيل، سيمثّلان في الواقع قابيْ قوس الصدام في مرحلة الشغور.