لا أهمية تذكر لأبواب البيوت في العمارة الحديثة، يكفي أن يكون خشبها متيناً وطلاؤها سميكاً، مع حجم متعارف عليه بين ورشات النجارة، غير أن دمشق القديمة احتفت بتفاصيل الأبواب في البيوت والأماكن الدينية والدكاكين والحمامات، وأعطت كلاً منها أشكالاً وزخارف ومواد بناء تناسب مكانتها وموقعها، وتتماشى مع نمط الحياة والهوية الخاصة بواحدة من أقدم المدن المأهولة.
ترصد الصحفية والمستشرقة البريطانية “بريجيت كنان” في كتابها الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب “دمشق القديمة وكنوزها الدفينة”، ترجمة محمد علام خضر، نماذج من أبواب البيوت القديمة بعد أن زارت سورية برفقة زوجها الدبلوماسي وعاشت فيها عدة سنوات. تقول: “يحتوي البيت الدمشقي على أشكال متعددة من الأبواب، تتميز أبواب المدخل عادة بالبساطة وتصنع من الخشب الثخين وترصع بمسامير حديدية كبيرة، وغالباً ما تشتمل هذه الأبواب على أخرى أصغر منها ضمن الإطار الواحد، لتسهيل عملية الدخول والخروج. أما الأبواب الموجودة داخل المنزل فتميزت بتزيين أكبر، حيث طعمت بالصدف أو صنعت من قطع خشبية ذات أشكال هندسية متشابكة مع بعضها، في حين كانت تزين أبواب الخزائن بالرسوم أو بزخارف مطلية بالذهب”.
أبواب ورشات النجارة لها زخارف خشبية، ودكاكين النحاسين لها أبواب مزينة بقطع نحاسية، كأنها إعلان صامت عن طبيعة العمل داخلها
تؤيد الصحفية ملاحظاتها بصور التقطها “تيم بيدو” صاحب كتاب “رحلات السفاري” والمختص بتصوير الرحلات والديكور الداخلي وفن العمارة، خلال جولات لهما في المدينة القديمة.
إحدى الصور تلحظ الإطار المحيط بالباب في “بيت نظام”، وهو مزين بالكثير من الزخارف على نمط الركوك والنباتي، وفي “بيت المجلد” باب خشبي ذو أشكال هندسية مرصع ومطعم بالصدف لمدخل قاعة الاستقبال، وفي أرض ديار “بيت الطيبي” تصاميم مختلفة مركبة مع بعضها تبدأ من المدخل المصنوع من الرخام والحجر.
العناية الكبيرة بأبواب البيوت في دمشق تمهيد لما ينتظر الضيف في الداخل من إكرام وترحيب
اللافت في الأمر أن هذه العناية لم تقتصر على بيوت الأغنياء أو القصور الفخمة، بل انسحبت أيضاً على بيوت الحرفيين والتجار، التي كانت أبوابها تصمم ببساطة عملية، لا تخلو من لمسة فنية تعكس شخصية صاحبها وحرفته، فأبواب ورشات النجارة لها زخارف خشبية، ودكاكين النحاسين لها أبواب مزينة بقطع نحاسية، كأنها إعلان صامت عن طبيعة العمل داخلها، أما الأبواب البسيطة الخالية من كل ما سبق، فكانت إشعاراً بكثير من الود والأمان. هكذا يحكي كل باب حكاية أهله، فهو أكثر بكثير من مجرد مدخل، كان هوية تعرف بساكنيها قبل أن يتحدثوا عن أنفسهم.
هذه التفاصيل التي تبدو اليوم ترفاً لا مكان له، امتدت إلى طريقة الطرق على الأبواب، اعتماداً على صوت قرقعة “المطرقة” أو ما يسمى “الخاتم”، حيث صممت لكل باب مطرقتان، واحدة ثقيلة للرجال، وأخرى خفيفة للنساء، وكأنها لغة صامتة يتحدث بها أهل البيت مع ضيوفهم حتى قبل أن يروا وجوههم.
وفي سياقها إشارة إلى طريقة الاستعداد السريع لاستقبال القادم، وكيفية ضيافته، فالرجال يكرمون بطريقة، والنساء بطريقة أخرى، حتى أن لكل منهم كلمات ترحيب محددة.
وفي زمن مضى، كانت “اليد المفتوحة” أو ما يعرف بـ”خمسة أصابع”، رمزاً حاضراً بقوة على الأبواب الدمشقية، فهي دلالة ترتبط بالإله جوبيتر، إله السماء والرعد في المعتقدات الرومانية، وتستخدم كتعويذة للحماية من الأرواح الشريرة، كما وجدت نقوش تمثل شجرة التين المقدسة، إضافة إلى شجرة اللبلاب، وحمامة السلام مع غصن الزيتون، كما تظهر نقوش تمثل القمر، وإلى جوارها رموز للكواكب السبعة المعروفة في العصور القديمة، حتى أن صورة زحل كانت جزءاً من باب كيسان، كرمز للحكمة والتأمل، وإلى جانبها الرموز الدينية، الإسلامية والمسيحية.
تلك الأبواب لم تعرف ما يسمى حالياً “العين الساحرة”، فالقادم محط اهتمام وقبول أياً كان وفي أي وقت
العناية الكبيرة بأبواب البيوت تمهيد لما ينتظر الضيف في الداخل من إكرام وترحيب، ودلالة على ما تتميز به بيوت دمشق من سعة وجمال في البحرة والليوان وغيرهما. واللافت أيضاً أن تلك الأبواب لم تعرف ما يسمى حالياً “العين الساحرة”، فالقادم محط اهتمام وقبول أياً كان وفي أي وقت، لا يمكن تجاهله أو رد طلبه. لعل هذا يتوازى مع ما قالته الأديبة غادة السمان في “الرواية المستحيلة”: “كأن قدر أبواب بيوت دمشق، أن تكون كالقلوب لا تنفتح إلا من الداخل”، أما الصحفية كنان فتقول في مقدمة كتابها: “وجدت نفسي أقع في غرام دمشق، وخفق قلبي لها حين دخلت لأول مرة إلى أحد البيوت الدمشقية الكبيرة في الجزء القديم من المدينة”.