لدى دمشق فرصة كبيرة لاستثمار التحولات الإقليمية لمصلحتها، لكنَّ هذا الأمر يقتضي بنية وإرادة سياسية واقتصادية داخلية غير متوفرة حتى الآن.
تلاحقت جملةٌ من المؤشرات المتتابعة حول سوريا ولبنان، تحمل في طياتها محاولات لإعطاء السوريين واللبنانيين رسائل إيجابية لإخراجهم ببطء وحذر مما هم فيه، بينما تضمحل يوماً بعد يوم آمال السوريين وأشقائهم بإمكانية حدوث تحولات نوعية تغير مجرى حياتهم، وتدفعهم إلى البقاء في أوطانهم التي تقلَّصت خياراتها، وانعكست في موجات جديدة من البحث عن الهجرة.
لم يكن اجتماع عمَّان لوزراء الطاقة في كل من لبنان وسوريا ومصر والأردن سوى خطوة في جملة من الخطوات التي سبقتها. واللافت للنظر أنه ما كان له أن ينعقد إلا بعد أن بدأت الإدارة الأميركية الجديدة للديمقراطيين بتحديد أولوية التهديدات التي تتعرض لها مكانتها الدولية كقطب مهيمن وحيد على مسارات الاقتصاد والسياسة العالمية.
سيطر الإرباك على معظم الدول والقوى السياسية المرتبطة بالولايات المتحدة بعد مرحلتين متناقضتين لإدارتين أميركيتين متعاقبتين في سياساتهما الدولية، وزاد الانقسام الداخلي الأميركي المتصاعد ليدلّ على حجم المخاطر التي تتعرض لها الدول التي تستظل بالمظلة الأميركية لحمايتها وأخذ أدوارها الإقليمية، بما يخدم مصالح سُلطاتها وفق الساعة الأميركية.
في المقابل، تندفع موسكو أكثر من أية مرحلة نحو فرض نفسها كلاعب وحيد في المنطقة، بمحاولات إثبات قدرتها على تشكيل نظام إقليمي جديد يجمع بين دول إقليمية متناقضة المصالح والأهداف، والعمل على تأمين بيئة آمنة لبقاء “إسرائيل” في محيط لا ينسجم معها وجودياً من منطلق طبيعة النشوء الشاذ والأدوار الوظيفية المنوطة بها غربياً.
تلاقت المصالح الروسية الأميركية في الجنوب السوري، رغم الخلافات الكبيرة على مستقبل سوريا، وسعي موسكو لإخراج القوات الأميركية من منطقة الجزيرة السورية، ومن قاعدة التنف التي تشكّل تهديداً مستمراً للطرق البرية بين سوريا والعراق، ثم إلى الصين عبر إيران وباكستان، فكانت حاجة موسكو إلى إعادة سوريا إلى إطارها العربي، بعد أن فشلت عدة مرات بعودتها إلى الجامعة العربية.
تلقَّفت موسكو فرصة قرار “حزب الله” استيراد حوامل الطاقة من إيران لكسر الحصار الأميركي عن لبنان، والذي ذهب به بعيداً نحو قرب انهياره، والقلق الأميركي من تداعيات كسر الحصار على سيطرته على مجمل القوى اللبنانية المرتبطة به، وهي القوى الأكثر تضرراً جراء الحصار الأميركي، والخشية من تهيؤ الشروط الموضوعية لربط لبنان بالمشاريع الآسيوية الصاعدة، وارتباطه بالعمق الآسيوي عبر دمشق بغداد طهران، ما يتيح لموسكو التحكّم في غاز شرق المتوسط وممرات نقله والسيطرة عليهما، بما في ذلك حقول الغاز في “إسرائيل” التي عجزت حتى الآن عن تسويقها إلى أوروبا، فتمّ إحياء أنبوب الغاز العربي من مصر إلى لبنان عبر الأردن وسوريا.
استثمرت دمشق قلق أميركا من انهيار مشروعها في لبنان، وهي التي تشهد حصاراً من كل الجهات المحيطة بها، ما عدا القوى الحليفة لها في لبنان والعراق، ففرضت شروطها كي تبدأ خطوتها الأولى نحو فك الحصار السياسي عنها، وطلبت أن يكون هناك تواصل رسمي بينها وبين لبنان، وهو ما غضّت واشنطن النظر عنه، وسمحت للحكومة اللبنانية بإرسال وفد وزاري أمني إلى دمشق، الذي استقبلته دمشق بحفاوة إعلامية واضحة، باستقباله على الحدود اللبنانية من قبل وزير الخارجية السوري.
استبقت دمشق وموسكو الحدث السياسي بالتحرك العسكري الكبير للجيش السوري، للإعلان عن انتهاء الوجود العسكري للمجموعات العسكرية الخارجة عن سلطة دمشق، وفرض شروط مصالحة جديدة مغايرة لما كانت عليه مصالحة 2018، مستفيدةً من تغير احتياج واشنطن للتهدئة في غرب آسيا، ومنع توجه لبنان قسراً نحو الشرق، ما أدى إلى عدم ظهور ردود أفعال أميركيّة على حصار الجيش السوري لدرعا البلد وفرض مصالحة جديدة تعيد هذه المناطق التي سيمر منها الغاز العربي والكهرباء إلى لبنان، وهي بذلك استطاعت إعادة السيطرة على المنطقة الجنوبية بكلفة منخفضة الثمن، وحقنت دماء كل الأطراف، بمن فيهم المسلحون أنفسهم.
تزامنت سيطرة الجيش السوري على درعا مع انعقاد مصر وسوريا ولبنان والأردن في عمَّان، التي أدت دوراً مهماً مع موسكو بتفويض من واشنطن، برفع الغطاء الدولي والإقليمي عن المجموعات المسلَّحة. وعلى الرغم من أن الاجتماع أخذ طابعاً تقنياً، فقد كان للدول الأربعة ذو مغزى كبير، وله دلالته الرمزية الكبيرة، إن كان بالنسبة إلى دمشق التي استطاعت أن تحقق الإنجاز السياسي الثاني على طريق عودتها إلى المجال العربي وبشروطها، كما للدول العربية الثلاث التي تقف خلفها غالبية الدول العربية، عدا قطر، بانتظار العودة إلى دمشق من جديد.
تراهن دمشق على إمكانية تشكيل إطار عربي يحيط بها لمواجهة تركيا والضغط عليها للانسحاب من المناطق التي احتلتها في شمال سوريا، وتراهن أيضاً على استعادة دورها كجسر وسيط بين حليفتها الأقوى إيران والدول الخليجية، وخصوصاً المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
كما تراهن على تغيير المسار السياسي والاقتصادي لمصلحتها، فالدول العربية الثلاث، ومن خلفها السعودية والإمارات، تسعى لتغيير الموقع الجيوسياسي لسوريا وإعادة إحتوائها ضمن المنظومة العربية تحت المظلة الأميركية، بما يحسم الأدوار الإقليمية على حساب إيران وتحجيم الدور التركي.
خط الغاز العربي الذي تُثار الأسئلة حول مصادره، ليس سوى شكل من أشكال الصراع الناعم، وهو يدخل في إطار اختبار النيات وقدرات معظم الأطراف المستفيدة منه مباشرة في تطويع احتياجات الجميع، لنقل الصراع الإقليمي والدولي في سوريا والعراق ولبنان إلى مستوى منخفض الحدة، والعمل على استخدام الاحتياجات الاقتصادية للدول الثلاث كفرصة لتثبيت الأقدام الأميركية خلف ستارة العمل العربي المشترك، رغم الهامش الكبير المتاح للدول العربية للعمل على بناء مشروعها الخاص، بفعل الانكفاء الأميركي المستمر.
لدى دمشق فرصة كبيرة لاستثمار التحولات الإقليمية لمصلحتها، لكنَّ هذا الأمر يقتضي بنية وإرادة سياسية واقتصادية داخلية غير متوفرة حتى الآن، بل هي في الواقع ما زالت في طور الاضمحلال يوماً عن يوم، بانتظار معجزة في زمن لا يعترف سوى بالإرادة والإدارة والعمل، والأبواب التي تُقرع في دمشق لن تُفتح في المدى المنظور، بفعل استمرار صراع القوى الكبرى والإقليمية على الأدوار وتغير أشكاله
(سيرياهوم نيوز-الميادين١١-٩-٢٠٢١)