نبيه البرجي
تمنينا على الرئيس بشار الأسد دعوة المعارضين الذين لم تتلوث أيديهم بالدماء أو بالوحول، والذين لم يتبعثروا كما أكياس القمامة على باب هذا البلاط أو ذاك، للعودة الى بلادهم. بين هؤلاء مثقفون، وأكاديميون، وفنانون، ورجال أعمال، وصناعيون. أخطأوا في الرؤية، دون أن يدروا من، وما، وراء تلك الشعارات البراقة التي رفعت آنذاك حول الديموقراطية، والعدالة، والحرية.
ما حدث بعد ذلك أظهر الغاية من السيناريوات السوداء التي تم اعدادها لازالة الدولة السورية. التفكيك، أو الاحتواء، أو التدمير الاستراتيجي، والتاريخي، فيما كان هناك من يسعى لاقامة الكوندومينيوم التركي ـ الاسرائيلي لحكم سورية، ودائماً تحت المظلة الأميركية.
الاجابة وردتني في اليوم نفسه. أبواب دمشق مفتوحة أمام كل من يرغب في العودة، دون المرور على غرف التحقيق، أو على أي تكشيرة تقشعر لها الأبدان، كما درجت على الترويج لذلك بعض وسائل الاعلام المبرمجة على توقيت واشنطن، أو على توقيت أورشليم.
ما يمكن تأكيده في هذا السياق أن خطوات هامة قد بوشر تنفيذها ليس فقط لاعادة هيكلة المؤسسات الأمنية، وانما لاعادة تأهيلها أخلاقياً، ونفسياً، بالتخلي عن ثقافة التشبيح، وكذلك تقنياً ومهنياً، ليتسق ذلك مع المسؤوليات الهائلة الملقاة على عاتق تلك المؤسسات، أذا ما أخذت بالاعتبار الظروف الكارثية التي أحدثتها حرب مثلما شاركت فيها قوى عظمى وصغرى، شاركت فيها حثالة بشرية، خرجت للتو من تلك الايديولوجيات الرثة والصدئة.
منذ البداية، بدا جلياً أن ألف يد ويد تعبث بالدم السوري وبالأرض السورية. استخبارات البنتاغون أحصت 1200 فصيل مسلح، لكل مرجعيته الخارجية، وتمويله الخارجي. خليط سريالي بلغة السواطير، وبلغة الأنياب التي كما لو أنها أنياب الوحوش. ولنتصور أي سورية أمامنا لو سقط النظام. غرنيكا سياسية، دون أن يكون بالامكان لملمة الأشلاء. المهم أن تتحول سورية الى خراب، كما دعا النص التوراتي، وكما هي النظرة الاستراتيجية لاسرائيل التي طالما توجست من “ذئاب الشمال”.
رجب طيب اردوغان الذي كان يراهن على اعادة دمشق ولاية عثمانية، وتختال فيها خيوله، بعدما اطمأن الى استيلاء “الاخوان المسلمين” على مصر، حتى اذا سيطر على سورية، تشكلت الكماشة التي تتيح له ادارة العالم العربي باسره. ولكن ليفاجأ بعد حين بسقوط النيوانكشارية التي استتبعت، تلقائياً، سقوط النيوعثمانية. بعد أكثر من عقد من الزمان، ها هو يمد يده الى بشار الأسد على اساس استعادة “الأخوة” بين الرجلين.
أشياء كثيرة أحدثت تغييراً دراماتيكياً في المشهد الدولي كما في المشهد الاقليمي. الأميركيون ضاعوا في أوكرانيا التي ان خسروا الحرب فيها خسروا أوروبا، وهي الأداة السحرية لمشروعهم الخاص بقيادة العالم. معلقون تحدثوا عن أميركا المستقبل. جزيرة منسية وراء المحيطات…
الاسرائيليون، وبالرغم من كل ذلك الضجيج العسكري، أمام أزمة وجودية، كنتيجة منطقية للحرب المجنونة التي شنوها على غزة. رجال الادارة أبدوا ذهولهم حيال وديعتهم المقدسة في الشرق الأوسط، وقد أطلقت صيحات الاستغاثة منذ الأيام الأولى للحرب من أجل تزويدها بالأسلحة والذخائر، والاحداثيات ليتداخل الفشل العسكري مع الفشل الاستخباراتي، وعلى ذلك النحو الفضائحي.
لكنه الحصار الجهنمي على سورية، وبذرائع تثير الذهول اذا ما لاحظنا أن الولايات المتحدة هي الدولة الأكثر انتهاكاً لـ “الحق في الحياة” بحسب الفرنسي ريجيس دوبريه. الذريعة الحقيقية هي الضغط على سورية لعقد اتفاق سلام مع “اسرائيل”، ما يجعل هذه الأخيرة في “أمان مطلق”، كما قال الأميركي اليوت آبرامز.
العرب ماضون في رحلة العودة الى سوريا. ولكن ليس من الباب التركي، ولا من الباب الأردني، بعدما تحوّل الأردن الى غرفة عمليات أميركية ـ اسرائيلية لاضرام النار في الجنوب السوري، والى حد الاستعداد لغزو دمشق.
لا شك أن أهل النظام الذين يدركون مدى استغلال البعض للضائقة الاقتصادية، ليتغلغلوا، وبكل اشكال الفساد، في مفاصل الدولة استفادوا الكثير من التجارب المرة التي واجهوها على مدى أكثر من عقد من الزمان. ما المشكلة اذا ما فتحوا أبوابهم وفتحوا صدورهم لأصحاب الآراء الأخرى، والذين لم يقعوا في الاغراءات المكيافيلية التي وقع فيها الآخرون ؟
هذا قرار بشار الأسد. انه الوقت المثالي لاعادة اعمار سورية لا بالحجارة فقط، وانما بالأدمغة النظيفة، وبالأيدي النظيفة…
(سيرياهوم نيوز ١-الديار)