ريما النخل
«لا ننسى التاريخ الإجرامي للغرب الذي فاق، خصوصاً مع الهنود الحمر، إجرام داعش»، تلك كانت أحد آخر مواقف التشكيلي اللبناني الرائد الذي انطفأ أمس بعد مسيرة مديدة مشبعة بالألوان النابضة والأشكال الهندسية التي استدعت تارةً بيكاسو، وطوراً ماتيس، والأهم المخزون الشرقي والمناخات التجريدية المستلهمة من الفنّ الإسلامي والخط العربي
مسيرة إبداعيّة مديدة انطوت مع غياب أحد روّاد الحداثة التشكيلية اللبنانية والعربية حسين ماضي (1938 -2024) أمس. الرسام والنحّات والأكاديمي الذي حمّل رسومه ومنحوتاته أبعاداً روحانية وفلسفية وملأ لوحاته ألواناً زاهيةً نابضةً بالإيقاع والأشكال الهندسية التي استدعت غالباً تكعيبيّة بيكاسو وفنّ القصاصات لدى ماتيس، أضحى على مرّ السنين اسماً عَلَماً بين فنّاني الشرق، هو الذي نهل في روما من معين الغرب طوال 22 عاماً بين دراسة وإنتاج وبحث في المدينة المتحف.
درس ماضي الرسم في «الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة» (ألبا) زمن مؤسّسها ألكسي بطرس بين عامي 1958 و1962، ثم سافر إلى بغداد حيث عمل رساماً غرافيكيّاً وأنجز بعض أعماله التشكيليّة الأولى، قبل أن يسافر إلى روما عام 1963 ليمضي فيها اثنين وعشرين عاماً. في مدينة الفنون والآثار العريقة، عمّق معارفه في اللوحات الجدارية والفسيفسائية والبرونزية، وطوّر مهاراته في النحت مبتكراً طريقة طيّ للأشكال غير الملحومة. لدى اطّلاعه المعمّق على تاريخ الفن الكلاسيكي، أسره حضور المرأة في اللوحة، فأكثر منها في أعماله بوضعيات مختلفة مع مَيل إلى تجريد الشكل الأنثويّ لبلوغ الجوهر بأبسط الخطوط وأكثرها توليداً للمشاعر… هو الذي قال: «عندما تُفهم آلية الجسد الإنساني على نحو كامل، يصبح الرسم اختباراً للفنان الحقيقي».
رغم حداثته ومنحاه التجريدي، لم تغب المفردة الشعبية عن لوحاته ومنحوتاته وعناصرها الجماليّة. بقيت ذاكرته مليئة بمفردات الانتماء إلى الناس والأمكنة والمنظر الريفيّ، فهو من مواليد بلدة شبعا في الجنوب اللبناني، شكّلت الطبيعة الصامتة موضوعاً كثير الحضور في أعماله إلى حدّ القول «الطبيعة معلمتي الوحيدة»، فأكثر ما انطبع في ذاكرته فتى يافعاً النزهات البرية التي كان يقوم بها برفقة «معلّمه»، وهو جدّه موسى ماضي، الطبيب العربيّ، على دروب شبعا المحاذية لجبل الشيخ بتعرّجاتها وأنهارها، فسبح فيها وقطف الجوز عن ضفافها وافتتن بالأزهار والأشجار وترسّخت علاقته بالطبيعة التي ملأت رسومه لاحقاً. منها استمدّ زهو الألوان التي برع فيها، خصوصاً البرتقالي و blue cobalt الذي يؤثره على باقي الألوان. فضلاً عن اللون، يعتبر ماضي لاعب أشكال ماهراً، وصانع أشكال خطوطية وهندسيّة ميّزت أسلوبه رسماً ونحتاً، فكل شيء بالنسبة إليه مرسوم في الكون بخطّين: المستقيم والمنحني، ومبدأ التكوين ثابت لا يتبدّل. أيضاً لا تغيب ملامح الفن الشرقي عن أعماله والخط العربي بامتداداته الغرافيكية، مدعّماً بها مناخات التجريدية التي يستلهمها من الفن الإسلامي والبيزنطي وينفذها بتقنية الغرب، محتفظاً بأبعاد الجماليات الصوفية والإيحاءات الأرابيسكية والنظم الهندسية المتوازنة. في مفردات نصّه التشكيلي حصان عربيّ غزير الحضور في لوحاته ومنحوتاته والطير والديك والثور… يُسقط عليها مضامينه الإيحائية، تجريديته المبسطة وزخرفاته المعاصرة .
حسين ماضي ـ «موسم الرمّان» (طباعة بالحفر ـــ 50 × 95 سنتم ـ 2003)
لا تنفصل التفاصيل الصغيرة لدى ماضي عن قيم الحياة الجوهرية. يُمتعه مثلاً الظلّ الذي تخلّفه غيمة عابرة في ظهيرة يوم مشمس، وحركة شجر النخيل التي تداعبها الرياح. بالنسبة إليه، كل ما ينطوي عليه العابر والجوهريّ على السواء، كافٍ لمواصلة الفنان انغماسه في الفن والحياة معاً، وتعريض كل ما هو زائل للتفكيك والتركيب، حتى تستيقظ الطبيعة بين يديه. ذاكرته البصرية التي راكمها في طفولته رافقته باستمرار. نزل من قريته النائية إلى بيروت مع زوّادته ومخيلته الوفيرة بالأشكال والأحلام والحكايات. درس في الـ «ألبا»، ومنها إلى إيطاليا التي اكتسب جنسيتها. بيد أنّ وفاءه لبلده وحنينه إليه أعاداه عام 1972 إلى بيروت حيث التحق بالجامعة اللبنانية أستاذاً محاضراً مميّزاً.
عن علاقته بالطبيعة التي تحتل مكانةً رئيسية في أعماله والعوامل والمؤثّرات التي تحكم تلك العلاقة، يقول حسين ماضي: «لا أخفي أنني منذ طفولتي مررت بتجربة باكرة كان لها تأثير مباشر على تشكيل علاقتي الحميمة مع الطبيعة، فأنا لست في الأساس ابن بيروت. ولا أغالي إن قلت إنّ جدي الذي علّمني معنى الحب والوفاء لمفردات الطبيعة ومخزوناتها الوفيرة كان فناناً قبل أي شيء ، خاصة في الحفر على الخشب. أما منطلقات الرؤية الفنية وتشكّلها، فلا تنفصل عن التجربة. كل شيء في الطبيعة قائم على نظام الوحدة الشكلية المتكرّرة في التنوّع والاختلاف ألواناً وأحجاماً، وعملي قائم على قراءة هذا النظام».
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية