بقلم: أحمد. م أحمد
عرفتُه في مرحلة دراستي الثانوية، وتأثّرتُ به. وكم كنتُ سعيداً لأنه يعرف أهلي، وكان يزور والديّ ويجلس معهما في (دربيّة) بيتنا. وكانت أوّل زيارة لي إلى بيته في (الحمرات) حين رُزِق وزوجته فاطمة حسين بابنه الأكبر(إياس).
كنتُ قارئاً صغيراً، وكان أحمد غانم القارئَ الكبيرَ الذي يجيب عن أسئلتي الكثيرة، ويقترح عليَّ رواياتٍ وكتباً شكّلت وعيي الأوّل، وعززتْ موهبةَ الكتابة الوليدة لديّ في ذلك الحين؛ ولذا فإنّه لم يكن صديقيَ الكبيرَ وحسْب، بل كان الملاذَ، والمُصْلِحَ لكل عطبٍ بُنيوي في تكويني الهشِّ الحائر، وكان الأخَ الكبير الذي لم يتوانَ لحظةً عن مدِّ يدِ العون إليّ، وعن مداواة الأسى المزمنِ الذي رافقني على امتداد عمري، وأنا أطرقُ الآن أبوابَ السّتين.
وقد أمضيتُ عشر سنواتٍ من عمري خارج البلاد. وكان النّذرُ الوحيد الذي نذرتُه: أن أقبّل يديه حين أعود، وقد فعلتُ. ثمّ كان النّذرُ الثاني أن تكونَ النسخةُ الأولى التي ألمسها من أولِ كتاب أترجمُه، أو أكتبه: ليديه، وقلبه، وعينيه اللتين ترقرقتا حبّاً وفخراً بتلميذه الذي لم يتوقّف عن إهداء أستاذه النُّسخَ الأولى من الكتب الكثيرة التي نُشرتْ له فيما بعد، وعندما غدا لي حبيبةٌ في حياتي، اعترفت له مازحاً: “هذه هي النسخة الثانية، أما الأولى فقد ذهبتْ إليها”، فردّ باسماً: “من الخطأ ألا تكون الأولى لها”.
ومع أنّني لا أعرفُ قيمةَ ما كتبتُ وترجمتُ حتى الآن، لكنني كنت أقول لكلِّ مَن أعرف: ” إنّ أحمد غانم وراء كلّ كتاب، لأنه هو الذي أعاد تشكيل وعيي؛ وهو الذي حَدَّ من عدميتي، وشدّني إلى الحياة، وتفهّمَ ضعفي، وعالج جروحي العميقة، وسَدَّ فجواتيَ المعرفية الخطيرة”، إذ كنت مع كلِّ جلسةٍ، وكلِّ كأس متّة أو عرَق، أحتسيه معه أتغيّر، وأغدو أكثر سعادة ومعرفة، وأقول في سرّي: “كأنّي قرأتُ رفّاً في مكتبة”. وذات يوم قلتُ له، وأنا أقدِّم نسخة من ترجمتي لكتابٍ أفتخر به هو (المكتبة في الليل) لـ ألبرتو مانغويل: “يا أبا إياس، أنتَ مكتبتي الأولى”.
ومع ذلك بقي هذا المعرفيّ الكبير مجبولاً من طينةٍ أصيلةٍ متفرّدة قِوامُها الأخلاق العالية، والعاطفة، والحساسية، والانتماء الحقيقيّ للعائلة والزّوجة والأطفال والأصدقاء، بل الانتماء إلى المنبت، وإلى كلّ حبة تراب في ضيعةٍ تلفّعَتْ نهاراتُها الـمُضْنية ولياليها الطويلة بالفقر وجُور الإقطاع.
***
ثمّ….!!
وفجأة يتنامى إليّ أنّ ثمّة مشكلة في رئتي أبي إياس، وثمّة آلام مبرِّحة في كتفيه وذراعيه. ويصل إليّ خبرٌ مفاجئ أنّ ولده عصام قدم من ألمانيا، ولا يعرف متى سيعود..!
فأدركت أنّ ثمةَ فَقْداً يلوح في الأفق.
وتساءلت في نفسي: هل سأستطيع تحمُّل خسارة جديدة في حياتي بعد خسارة أخي الأكبر؟
كان الأستاذ أحمد غانم قد تقبّلَ تعازيَّ الحارّة بوفاة أخي.
وأنا أيضاً تقبّلتُ تعازي السيدة فاطمة حسين بوفاة أحمد غانم.
***
الروحُ يا أحمد غانم، يا معلِّمي الأوّل الحبيب، بلادٌ يغمرها الاخضرار، لكن سرعان ما يبدأ اخضرارُ منطقةٍ منها بالذبول كلّما نظرْنا إلى الخرائبَ والأنقاض، وكلماً فقدنا حبيباً يبدأ التصحُّرُ بالزحف.
الآن، بعد رحيلكَ، ورحيل أخي محمود، ورفعت عطفة، وحيدر حيدر، وملهم جديد، وناظم مهنّا، وخالد خليفة، وبعد أن هاجر الشبابُ، وجارتْ علينا نحن الباقينَ قوارضُ البلاد، بعد الزلزال ودمار غزة، أنظرُ إلى جغرافيا روحي، وبالكاد أرى عشبةً واحدة تذكِّرني بالأخضر… بالكاد تمرُّ كلمة (أمل) دون أن تستفزَّ البكاءَ، ثم السؤال: ماذا تبقّى؟
ربما، في هذا الـ (الزمكان)، هناك عزاءً أخير يمكن اختصاره بأنّ ما بقي من الحياة.. قصيرٌ.
السلام لروحك …
*هذه مشاركة الاديب والمترجم أحمد م أحمد في الندوة التكريمية التي اقامتها مديرية ثقافة طرطوس بالتعاون مع أصدقاء الراحل المفكر والانسان احمد غانم يوم الثلاثاء الواقع بتاريخ 12-12-2023 بمناسبة الذكرى الاولى لرحيله
(موقع سيرياهوم نيوز١)