شاهر أحمد نصر
في ربيع سنة من سنوات أوائل سبعينات القرن العشرين دخل صفنا في المرحلة الثانوية مدرسٌ شاب فتي بارع القامة معتدل البنية وضاء المحيا، تزين طلته غرة خرنوبية مندفعة قليلاً إلى الأمام، ويرتدي سروالاً أبيض اللون ناصعاً، وقميصاً خمرياً زراه العلويين حرّان، كلّ ما فيه نظيف براق يشي بتشوفه إلى المستقبل، وعشق الحرية… يومها تعرّفنا إلى أحمد غانم الطالب الجامعي الحماسي، الذي سيدرسنا مادة علم الاجتماع، وقد خصص أول درس للتعارف، وبناء أواصر الصداقة مع طلابه، وسعى منذ الدرس الأول إلى أن يغرس أهمية ربط نظريات علم الاجتماع بالواقع الاجتماعي الموضوعي في أذهان طلابه، وأهمية الصدق والمحبّة في العلاقات الاجتماعية، فجذبهم بأسلوبه الشائق، وسعة مصادره العلمية، وواظبوا على حضور دروسه الممتعة حتى آخر درس، وآخر ساعة…
وفي نهاية الفصل الدراسي تغيب أحد الطلاب عن آخر درس لمساعدة أهلة في زراعة أرضهم، وتأسف الأستاذ أحمد أنّه لن يستطيع وداعه، وحينما غادر القرية استقل مع عدد من المعلمين والركاب سيارة اللاندروفر العمومية صلة الوصل الوحيدة مع المدينة، وفي الطريق شاهد ذلك الطالب عائداً من السهل، فاندفع وأخرج رأسه ونصف جسده العلوي من السيارة، وراح يلوح له مودعاً منادياً باسمه… أجل، لقد حافظ على علاقات الصداقة مع طلابه طوال المرحلة الثانوية، وبعد إتمامهم لها، وعدّهم زملاء له، وكثيراً ما كانوا يتندرون في جلساتهم بذكر مناقبه ودماثة خلقه، وعشقه للحرية، وهو يسعى لبثّ المعرفة والبهجة حيثما حلّ، ودفعته خصاله النبيلة تلك إلى المساهمة في تشكيل النادي السينمائي في طرطوس، والمشاركة في إدارته، ولم يكتف النادي بعرض الأفلام السينمائية التنويرية في المدينة وحدها، بل أخذ يتنقل في الريف الذي يعشقه… كيف لا وأغلب أعضائه ترعرعوا في جنباته، وراحوا يتنقلون من مكان إلى مكان غير طالبين أي أجر، أو منصب، أو شكر، هدفهم الوحيد هو نشر الوعي…
أجل، نستطيع أن نعدّ جيل المثقفين الذي نشأ في ستينات القرن الماضي استمراراً بالعطالة لجيل العهد الوطني في خمسينيات ذلك القرن، ذلك الفضاء الاجتماعي والسياسي والثقافي، الذي شغلت المثقفين فيه قضية رئيسة هي قضية التنوير ومسألة النهوض بالمجتمع وتنميته من مختلف النواحي، فنشأت فئة من المثقفين لم تشغلها المناصب، ولا المال، ولا الفوائد الشخصية؛ بل سخرت حياتها كلّها، وصبّت جهودها بأكملها لقضية عامة من دون أي منفعة شخصية، إذ رأت في المنفعة العامة منفعة شخصية لها؛ وجه مثقفو تلك المرحلة اهتماماتهم إلى القضايا النظرية، لتستهلك متعة البحث عن الحقيقة، والاكتشافات العلمية، والفنون، والهموم الإنسانية كلّ شيء في حياتهم، فبدلاً من بناء البيوت وفرشها، وشراء الملابس، أخذوا يشترون الكتب، واللوحات، وأشرطة التسجيل والأسطوانات الموسيقية، ويؤسسون المنتديات الثقافية، ويقضون أوقاتهم في النقاشات الفكرية، وكلّهم ثقة بأنّ العقل المستنير هو الوسيلة الرئيسة لتغيير الواقع، إنّهم نُسّاك الفكر الزاهدون في الحياة المتعصبون لمعتقداتهم، المتعطشون إلى الجمال والحرية، الذين يشيخون، وتنحني ظهورهم، ويشيب شعرهم، إنّما تبقى أرواحهم وتطلعاتهم شابة دائماً، هؤلاء هم أبناء رجال العهد الوطني، ومثقفو ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد ترعرع الأستاذ أحمد غانم في فضاء متواصل مع فضائهم…
إنّما في الستينيات بدأت في الظهور وتتشكل إرادة أخرى في بنية سياسية أخافها التنوير، عرفّها الدكتور طيب تيزيني بـ”الدولة الأمنية”، ونشأ تناقض بين جيل المثقفين التنويريين وتطلعاته، وبين تلك الإرادة والبنية الغريبة عن التنوير، التي تركّز همّها في امتلاك السلطة والثروة، مع تغييب العقل، ولم تبالِ بالتنوير ولا بالتنمية، وترافق ذلك مع بدء اندحار المشروعين النهضوي العربي، والتنويري العالمي، وهيمنة عولمة رأس المال العابر للحدود المترافق مع الهيمنة على وسائل الإعلام والقوة، وتفرق جيل المثقفين الأوائل، وتشتت وراحت تُفرض القيود على المنتديات الثقافية، وأضحى اقتناء الكتاب تهمة، وقراءته جريمة، ووجد المثقفون أنفسهم في أُتون هذه المحرقة، على هذا النحو أو ذاك، وبدأ الظلام ينتشر، وراحت تتلاحق الخيبات… وعلى الرغم من ذلك أحبّ الأستاذ “أحمد غانم” أن يقاوم بطريقته، وحَسْب إمكاناته، فأسس داراً للنشر لعلّه يسهم في نشر العلم والمعرفة والتنوير، وأصدر عدداً من الكتب، وكانت له محاولة متميزة في كتابة القصة القصيرة… لقد تميزت قصصه وجميع أعماله بنصرته للمظلومين، ونصرة الشعب العربي الفلسطيني لنيل حقوقه المشروعة (تحية لصمود الشعب العربي الفلسطيني في وجه العدوان الهمجي المستمر ضدهم)… لو أتيح له ناقد يغني عالمه، وقرر التفرغ لكتابة القصة لأبدع نمطاً خاصاً به من القصة القصيرة ذات البعدين الاجتماعي والنفسي… إنّما تفاقمت معاناة المجتمع والمثقفين بسبب الحرمان من النشاط الاجتماعي والبحث الفكري الحقيقي، ومن حدة الانقسامات وظهور مفهوم: من هم “جماعتنا”، ومن هم ليسوا من “جماعتنا” العائق لأي تقدم، وطغت عملية ترويج الفكر القزمي، والغيبي والظلامي صاحب الامتيازات والترف، فعانى المثقفون الحقيقيون غربة مروعة ترافقت مع اليأس والإحباط والسوداوية المشبعة بأحلام اليقظة، وأضحوا أقرب إلى الطوباويين، والرمزيين الذين يؤمنون بجمال ربيع الأمل المرتقب، الذي يستمدونه من ذخيرتهم الثقافية، ومن جمال الكون؛ على الرغم من معرفتهم باحتمال عدم قدومه إبّان حياتهم… فلجأ أديبنا ومفكرنا إلى الفلسفة؛ إلا أنّ ظروف تطور الفلسفة لم تكن مواتية تماماً، فقد عانت مع الثقافة التنويرية الاضطهاد… وحلّت مرحلة تستدعي تأسيس منتديات ثقافية معارضة للتجهيل والحرمان من النشاط الاجتماعي والثقافي والسياسي، وتدعو لبناء المجتمع على أسس مدنية متحضرة تنسجم مع متطلبات وتحديات عصر المعلوماتية والتغيير، لكنّها جوبهت بالرفض، ولم تجد الحاضنة والتربة الاجتماعية التي تحميها، فازداد تبعثر المثقفين، وانكفأوا على ذواتهم في صفحات إلكترونية تتيح لهم قليلاً من التواصل الافتراضي، واستمر فقيدنا يؤدي دوره… ومهما اتفقنا أو اختلفنا مع آرائه ظلّ هذا الإنسان الوطني عاشق الجمال والأخلاق السامية يسعى دؤوباً لتحقيق هدفه وأمله الرئيس في نشر الفكر التنويري للسمو ببني قومه ونهضتهم… وفي هذا السياق أودّ أن أثمّن تفاعله الموضوعي مع الحوارات التي عرفتها صفحات التواصل الاجتماعي، وأورد مثالاً على ذلك تفاعله مع موضوع محاضرة أعددتها تحت عنوان: “الأدب الروسي في الفضاء الثقافي العربي، وأثر الأدب الروسي في تربية الشباب”، الذي أثرته في شبكة الانترنت في شهر آذار (مارس) 2022، إذ جاء في جوابه:
“شكّل الادب الروسي مصدراً رئيساً في ثقافة الشباب الثوري وخاصة مع نمو التيارات والأحزاب السياسية اليسارية القومية منها والأممية… ويكاد لا يخلو منزل في سوريا من وجود أعمال (عباقرة الأدب الروسي)… وحالياً والآن يضع ولدي “عصام غانم” المقيم في ألمانيا صورة دوستوفسكي كبروفايل لحسابه على فيسبوك… إضافة إلى أن مشتركات كثيرة بيننا وبين المجتمع الروسي، كمجتمع يقترب من الشرق أكثر مما هو أوروبي غربي. فكثيرٌ من القيم مشتركة لهذا يدخل الأدب الروسي بيوتنا كجار قريب وليس كضيف غريب. أرجو لك التوفيق في بحثك ومحاضرتك، وأعتذر عن المساهمة المتواضعة، فليس لدينا الوقت، ولا الظرف للتفكير كثيراً والبحث، وهو موضوعك على كلّ حال”
ويُعدّ سعي الأستاذ “أحمد غانم” الحثيث والمستمر لنشر الفكر العلماني العقلاني، والثقافة الإنسانية المتحضرة استمراراً لإرادة جيل الآمال التنويرية، وعدم الاستسلام لإرادة تغييب العقل، ونشر ثقافة الخيبات والإحباط الرجعية…
“أبا إياس”، المفكر الوطني الغيور، لن تضيع جهودك وجهود أبناء جيلك، وخير دليل على ذلك هذا الاهتمام الذي يبديه أبناؤك وأصدقاؤك في إحياء مشروعكم التنويري الوطني النبيل… فضلاً عن أنّه لا يمكن لمخزون الطاقة الإبداعية، والأفكار الإبداعية أن يتبدد ويضيع سدى، أو يفقد أهميته المستقبلية، إنّما ما نعيشه يُعرف بمُكر التاريخ، إذ يجري عبر مجموعة متنوعة السبل، يضيق فيها الوعي تارة، و يتسع تارة أخرى، ويتغلغل في أعماق الذاكرة الإنسانية، كأنّه يختفي من السطح، إنّما لا بدّ أن ينهض ويعبّر عن نفسه من جديد، لا يمكن أن تتلاشى الثقافة الإنسانية، إنّها خالدة، ما دام الإنسان يبحث عن مغزى الحياة… وستستمر البشرية تبحث، وتبحث، بانتظار قفزة ما في وعيها، أو خرق تقني علمي ينفض كلّ هذا العفن عن كاهلها، وتلعب الأفكار والثقافة التنويرية دورها…
لروح الأستاذ أحمد غانم السلام، ولذكراه أعطر الورود.
*كاتب ومترجم
(موقع سيرياهوم نيوز٢)