في بيئةٍ ريفيةٍ حموية، كانت “الشيحة” الناعسة على قمم الجبال بمنطقة مصياف، تنقش أثرها الجمالي في الذاكرة العميقة للفتى أحمد نصرة، ومن ثمّ لتظهر في وعيه الشعري والإنساني المبكّر.
الأمر الذي مكنّه فيما بعد من أن يتميز بأسلوبٍ إيحائي يُضاعف الصور الشفافة، من خلال اعتماده على التكثيف ولعبة ترك نصوصه “على عفويتها” من دون تعديل أو تنقيح يقتل لحظتها الشعرية كما قد يوحي بذلك للمتلقي.
بهذه العدة الشعرية أنتج احمد نصرة: “توضأتُ بنبيذ” (2013، دار أرواد)، “يشبهني هذا الموت” (2014، دار الينابيع)، و”أنعم بالعمى” (2016، دار بعل).. حيث تحمل نصوصه، هموم الإنسان من خلال البحث عن عالم يسوده الفرح والحرية، وذلك بأسلوبٍ يقاوم التكلف والتصنّع، ويؤمن ببساطة التعبير والصدق الشعري القادرين على الوصول إلى القلب دون استعراض أو زخرفة مفرطة من خلال تعبيرات إيحائية نثرية مفعمة بالشعر.. متكئاً على الإيقاع الداخلي والصورة الشعرية في جوانيات النص حيث تصدح الجملة الشعرية في مناخات الأدب الوجيز، وحيث قصارى القول المحملة على الدهشة الخفيفة والمراوغة الفكرية الناعمة، التي تشبه الومضة أو التوق.
“كلّما اقتربتُ من ظلّي،
تراجعَ في الصمتِ،
كأنّه لا يعرفني.”
كل ذلك يقدمه نصرة بلغة يومية مشبعة بالدلالة، لغة بسيطة، غير متكلفة، لكنها مشبعة بالإيحاءات، ومُتجنباً الثرثرة اللفظية أو الصور المجازية الثقيلة، ودون أن يهمل الفكر العالي بالتماهي بين اليومي والفلسفي. حيث يأتي التصوير بالاقتراح لا بالتصريح، الصورة الشعرية لديه لا تُفَجِّر المعنى، بقدر ما تقترحه وتلوّح به، تاركة المجال للمتلقي لملء الفراغ الدلالي من خلال بلاغة الصمت والتكثيف..
نص شعري يستند إلى الإيحاء أكثر من الإخبار، ويعتمد على الاقتصاد اللفظي الذي يخلق فراغاً تأويلياً خصباً. هذه البلاغة الصامتة تشبه ما يُعرف في النقد بـ”بلاغة الغياب”. وهو ما يفسره البعض بغياب المجاز الفخم، وحضور المجاز الهمسي، فهو لا يلاحق الاستعارات المعقّدة أو الصور المذهلة من حيث الشكل، بل يعتمد على مجاز داخلي حميمي، يخلق نغمة وجدانية خافتة.
نصوص تبحث في الوجود الإنساني والقلق الوجودي، تظهر بمعناها الفلسفي الجاف، لكنها المشبعة بأسئلة الحياة، الوجود، الموت، الانتماء. رغم كلّ هذه الأبعاد تبقى القصيدة لديه ذاتية في جوهرها، لكنها لا تنغلق على الذات، بل تُسائلها وتفكّكها عبر مرآة الآخر والعالم.. من خلال إشاراتها إلى الوطن، الحرب، والنزوح، من خلال منظور إنساني، داخلي، عميق.. فيما تظهر المناخات العاطفية شبه صوفية أحياناً، مشوبة بالغياب والرغبة والخسارة.
“استنيرُ بالعمى،
واكتبُ حكمتك ببدائية التكوين
لحركة الحياة
أنا المائي،
المستقر،
المتحرك،
ابن التضاد
بين الطبيعة والكلمة.”
وإذا ماأخذنا أحدث إصداراته نموذجاً، (أنعم بالعمى)، فهو يستدرج القارئ بهذا العنوان اللافت، الذي يحمل تناصاً ومفارقة، ومن ثمّ نصوص ببنية إيقاعية تكتفي بالإيقاع الداخلي: تكرار، تنغيم لفظي، توالي صوري.. مستخدماً ضمير الـ”أنا” غالباً، لكن بطريقة غير استعراضية، تُشرك القارئ في “الأنا الجمعية”، وهي تتنزه في فضاء مكاني تتكرر إشاراته: الريف، الظل، الجبل، الطريق، لكنها رمزية، لا سردية.. كما يحضر الزمن الشعري كزمن وجداني غير الخطي، المشوش أحياناً، والذي يمتدُّ بين الماضي واللحظة الآنية.
الشاعر أحمد نصرة يقف على تخوم الشعر والنثر، ويمتلك خصوصية تقوم على الهدوء البلاغي، والتكثيف العاطفي، والعمق الوجودي. لا يكتب ليدهشك بجمال اللغة، بل ليفتح لك باباً على ألمٍ إنساني ناعم وهادئ. فتأتي قصيدته كأنها نفس داخلي مشحون بالمعنى، خالية من الزخرفة، لكنها مشبعة بالضوء الخافت.
من هنا لا يجعلك الشاعر؛ تنتظر طويلاً، وأنت تقرأ مجموعته الشعرية “أنعم بالعمى”؛ لتعرف شواغل القول الشعري، وتتعرف على مفردات قاموس القصيدة لديه. فهو منذ البداية يُعلن انحيازه لعائلة الشعراء الحزانى، الذين بقوا يتفيؤون برج الخسارة، شعراء لا يعتبرون “الفرح” مهنتهم، ذلك أن “الحزن” يطلُّ من أولى عتبات المجموعة، التي هي في حكم “الإهداء”:
“مرجُ أحزانٍ هذا القلبُ
مواسم..
إلى نوال والدتي..
رفيقة ما تبقى من العمر الحزين.”
من تلك العتبة “الإهداء” سيكرر الشاعر مفردة الحزن، وسينوُع عليها في أكثر من تركيبٍ شعري، بل سيدعو لمرافقتها أسراباً من المُرادفات؛ لتُسلي الحزنَ في عزلته، وربما لتنشئ فرحاً لهذا الحزن أو تُقيمُ له مواسم الشجن الطويلة، حتى بدت غاية الكتابة عنده هي الاكتفاء بما تيسر من سرد مشهد الفجيعة.
“لمَ تكتب؟
لأنعمَ بالعمى!”
وكنّا نظنُّ؛ أنه بالكتابة يُمكن للمرء أن ينعمَ بفتح نوافذ جديدة، وأن غاية الكتابة؛ أن تُعطي أمداء أرحب، ونطلّ من خلالها إلى فضاءات جديدة.. فيما شواغل الكتابة عند الشاعر نصرة؛ أن يُسدلَ أستاراً لأجل إطباق العتمة، وللوصول لأوسع قدرٍ من العزلة.
بكل الأحوال؛ تبدو الفعالية الشعرية عند صاحب “أنعم بالعمى” في اللعب على هذه المفارقات، ليصل بها حدّ التناقض، ذلك أن المُفارقة تبدو غاية خواتيم القصيدة، التي يأتي بها كمن يدلق بوجهك دلو ماءٍ بارد. ذلك ما ذهب الشاعر يُرتبه على مدى طاولة البياض، في سرد حكائيةً حزينة غالباً ما يستعذبُ سردها وروايتها في ومضات غالباً ما تأخذ من قصارى القول سمةً لها، حتى لتبدو في وثبات غزال رغم كل ما توحي به المفردات الحزينة من تأويلات الإيقاع البطيء، وربما يكملُ نصرة هنا لعبته الأثيرة في الاشتغال على المتناقضات لأجل المفارقة الإبداعية التي تهفو نفسه لاستحضارها، وربما هنا ثمة تحدٍّ شعري يسعى نصرة لخوضه، بعد أن يكون قد حضرّك، لنوبةٍ إيقاعٍ طويلٍ من الحزن. مع ذلك غالباً ما تشعر بأحمد نصرة كصيادٍ يصيدُ عصافير المفاجأة التي تُحيل القول إلى الشعر العالي..
ذلك، ما يجعلك في مواجهته منذ عنوان المجموعة، الذي يُشير بطريقة ما، إلى هذه النظرة الآسية، التي تضعك في دائرة التساؤل: أية نعمةٍ يُمكن للمرء أن يجنيها من بساتين العماء. وهو يفتح المشهد المُفعم بالمرارة، هذا الحزن الذي يبدو كتركات نتوارثها من أحبةٍ رحلوا، وهو هنا إرث يزن أطناناً، حزن يتجلى كلبوساتٍ نرتديها في مواسم الخذلان والتي تبدو “مُزدهرة” في كلِّ الفصول، تماماً كزراعاتٍ محمية.
“فستان الليل الذي
ارتدته أمي منذ خمسين عاماً،
وكانت تنوي بفرحٍ غريب
أن تأتي بي إلى هذا العالم
أرتديه اليوم،
أبحثُ عني.”
ولأنّ صوت الحزن؛ هو الأعلى بين “شخصيات” الشاعر الدرامية؛ من هنا نتفهم كثرة هذه المفردات التي ينسجها الشاعر في تراكيب تشي هي الأخرى بما يُقارب هذا الشعور الإنساني الموجع، فتكثر مفردات الليل، العمى، الموت، الفقد، الخريف.. وغير ذلك من المفردات التي “يستثمرها” الشاعر في غواية شغله على المتضادات الشعرية، حتى وكأنه يوحي لك أنه يستعذب بفرحٍ الهدأة في جلباب هذا الليل الحزين. هل لأجل ذلك؛ أهمل أحمد نصرة عناوين النصوص، ولم يشر لنصٍّ بعنوان، وإنما قام بتوزيع النصوص على صفحات البياض تاركاً لدار مجموعته باباً وحيداً ولا نوافذ، بابُ دارٍ لا تُفتح بغير مفتاح وحيد، يغوي بالنعيم، وأي نعيمٍ يرصد له اسم التفضيل “أنعم” في عنوانٍ من كلمتين.
“والفقدُ، قالوا
شوقٌ لا يسكن بلقاء
الفقدُ أيضاً
لقاء
لا يحققه شوق.”
ولأنّ الحزن النبيل، الذي يشفّ، غالباً، ما تتخلله الرقة المُفرطة، فكان أن ألبس أحمد نصرة نصوصه مثل هذه التواشيح الأقرب إلى الترانيم.. لعبة لغوية تصير كنسيم عند مساءٍ صيفي، أو تنعش كمداعبة هواء فجر الحقول. وأخيراً نختمُ بهذا النص الذي يبدو أنه دخل خلسةً في مجموعة “أنعم بالعمى” لنحصل على ذلك الضوء في آخر زوايا هذا الليل الطويل:
“ويسألون عن الجنون،
قل:
الجنون
أن تكوني حبيبتي
وأكون عاقلاً.”
اخبار سورية الوطن 2_وكالات _الحرية