عبد الباري عطوان
ونحن نُتابِع جلسة التّصويت على الثّقة بالحُكومة الإسرائيليّة الجديدة، ونستمع إلى خِطابيّ الخصمين الرئيسيّين، الجديد الفائز نفتالي بينيت، والرّاحل المهزوم بنيامين نِتنياهو، كانت صُور الصّواريخ الطّائرة من قِطاع غزّة وهي تَهبِط كالمطر على تل أبيب، والقدس وعسقلان وأسدود تُسيطِر على المشهد في أذهاننا وربّما في أذهان الحُضور أيضًا، ليس لأنّها كانت العامِل الحاسم في إحداث عمليّة التّغيير هذه، وإنّما إسقاط عهد نِتنياهو، وإحداث انقلاب سياسي وأمني وعسكري غيّر المُعادلات وقواعد الاشتِباك في منطقة الشّرق الأوسط بُرمّتها أيضًا.
صحيح أنّ ما حدث في الكنيست عصر اليوم كان تغييرًا لأشخاصٍ وتكتّلات ولم يَكُن تغييرًا لسِياسات، فالخِلافات والفوارق محدودة، وربّما هامشيّة، بين سياستيّ الحُكومتين، القادمة والرّاحلة، باعتِبارهما تتبنّيان برامج سياسيّة عُنصريّة، يمينيّة، مُتطرِّفة، ولكنّ الصّحيح أيضًا أنّ جلسة الكنيست، تَعكِس التّغيير الأهم، وهو الذي ضرب “الدّولة” الإسرائيليّة وقاعدتها الشعبيّة في العُمُق، ونحنُ نتحدّث هُنا عن ارتِفاع منسوب القلق والارتِباك العسكريّ، والقُدرة على الحسم في المُقابل.
***
الاعتِراف بوجود أزمة، وتهديد وجودي، والبحث البائِس حول كيفيّة الخُروج منها، وطمأنة المُستوطنين اليهود بالتّالي على مُستَقبلهم، كانت كلّها القواسم المُشتَركة في الخِطابات والتّعليقات، من حيثُ التّركيز على مجموعةٍ من النّقاط التي تَعكِس هذا التّهديد، وما يُخفيه من قلقٍ ورُعب، مثلما تَعكِس عَجزًا مُستَتِرًا عن مُواجهة مصادره وأسبابه:
- أوّلًا: أخَذَ الملف النّووي الإيراني وما يتفرّع عنه من أخطارٍ أو اتّفاقات (مع أمريكا) الحيّز الأكبر من خِطابيّ نِتنياهو وبينيت، وتعهّد الخصمان بمُواجهته، ومنع إيران من امتِلاك أسلحة نوويّة، وعرقلة أيّ اتّفاق نووي معها، ولا ذِكر مُطلقًا لحُكوماتٍ عربيّة.
- ثانيًا: الاستمرار في التوسّع الاستِيطاني في الأراضي الفِلسطينيّة المُحتلّة، ولكن بوعود “مُرتجفة” ونبرة أقل حدّة، بالمُقارنة مع الأشهر والسّنوات، والصّمود البُطولي في حيّ الشيخ جراح وسلوان ونابلس.
- ثالثًا: التّركيز على زيادة قُدرة “إسرائيل” العسكريّة، والالتِزام بالتّصدّي إلى حركة “حماس” “إذا هاجموا إسرائيل”، أيّ تجنّب التّهديد بنوع أسلحتها وصواريخها، والقضاء على بُناها العسكريّة التحتيّة على غِرار ما كان يَحدُث في جميع برامج الحُكومات الجديدة أو المُتَجَدِّدة السّابقة، والاعتِراف المُبَطَّن بتَآكُل التّفوّق العسكري مع انفِضاح قُدرات القُبب الحديديّة، وإبطال مفعول دبّابات “الميركافا” من اقتِحام القِطاع بفَضلِ صواريخ “الكورنيت” المُعجزة.
- رابعًا: جميع النّقاط التي تباهى بِها نِتنياهو في خِطابه “الوداعي” وربّما الأخير، كانت تتحدّث عن إنجازات الماضي، ومُعظَمها للأسف في اتّفاقات الاستِسلام والهزائم العربيّة، وبدَعمٍ أمريكيّ، وخُنوعٍ عربيّ، والتّرويج لأُكذوبَة الأرض مُقابل السّلام، وهو يعلم جيّدًا أنّ هذه “الإنجازات” تتبخّر في غُضونِ أشهرٍ معدودة.
لا يَهمّنا أن يطول عُمر الحُكومة الجديدة أو يَقصُر، كما لا يَهمّنا أن يبقى نِتنياهو زعيمًا للمُعارضة أو يذهب إلى السّجن مُدانًا بالفساد، فهذه اعتِباراتٌ ليس لها أيّ قيمة في رأينا، لأنّ التّغيير المَصيري الذي عكسته حرب الـ 11 يومًا الأخيرة في غزّة جبّ كُلّ ما قبله، فمِئات الآلاف من الصّواريخ ما زالت منصوبةً مرفوعَة الرّأس في مَرابِضها، وتُحيط بدولة الاحتِلال من ثلاثِ جهات، أمّا الرّابعة، أيّ جبهة البحر، فجرى تركها ممَرًّا للهُروب إلى المَلاذات الغربيّة الأوروبيّة الآمنة.
دولة الاحتِلال الإسرائيلي “العُظمى” عجزت عن هزيمة قطاع غزّة، مثلما عجز سِلاحها الجوّي عن منع انطِلاق الصّواريخ من القِطاع، حتّى الدّقيقة الأخيرة قبل سرَيان اتّفاق الهُدنة، واضطرّ إلى تأجيل مسيرات “الأعلام” في القدس المُحتلّة للمُستوطنين إلى الثلاثاء رُعبًا من المَساس بالقدس المحتلّة أو مُقدّساتها وأقصاها ومُواطنيها، ولا نَستبعِد إلغاءها، أو تغيير مسارها تَجَنُّبًا للعواقبِ الوَخيمة.
أخيرًا سقط نتنياهو “ملك إسرائيل” بعد 12 عامًا من التربّع على عرش العُنصريّة، والكذب والخِداع، وستَسْقُط معه جميع اتّفاقات التّطبيع المسمومة، وكانَ أوّل الغيث المُبكِر تصويت البحرين والسودان ضدّ إسرائيل، وإلى جانب مشروع قرار عربي فِلسطيني في مجلس الأمن الدّولي بإدانة جرائم الحرب الإسرائيليّة في قِطاع غزّة، وثاني قطَراته فشَل السّفير الإسرائيلي المُعيَّن في الرباط العُثور على مبنى يستأجره لوضع أوتاد سفارته بسبب النّبذ الشّعبي المغربي، فقائمة “المُتَضرِّرين” من أصدقاء نِتنياهو، المُعلَنين أو المُستَترين، ستَطول في الأيّام القليلة المُقبلة.
***
لن يكون هُناك سلامٌ مُقابل السّلام، ولا سلامٌ مُقابل الأرض، فبعد حرب غزّة وصواريخها المُباركة، لا مكان لمُفاوضات السّلام المغشوشة، ولا لحلّ الدّولتين الوهميّ، وإنّما الدّولة الفِلسطينيّة التّاريخيّة، وعاصِمتها القدس المُوحَّدة الجامعة لكُلّ مُواطنيها وعلى قَدمِ المُساواة، مثلما كان عليه الحال قبل الحرب العالميّة الأُولى.
نِتنياهو بغُروره، وغطرسته، وعُنصريّته، لَعِبَ دورًا كبيرًا لوصول “إسرائيل العُظمى” إلى هذهِ النّهاية، ونُشوء القوّة الفِلسطينيّة الجبّارة، وتصنيعها العسكري الذّاتي، ودفعه بمُهاتَفة جو بايدن ستّ مرّات استِجداءًا لهُدنةٍ في الحرب الأخيرة.. يُمْهِل ولا يُهْمِل.. وسُبحان مُغَيِّر الأحوال.
سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم