رنا بدري سلوم:
يستحضرني وصف امرئ القيس عن الحرب وخاصة أنّنا نعيش أجواءها، ونتتبّع أخبارها ونحن مجبرون على ملاحقة أحداثها على شريط العاجل، فقد شبّهها بالفتاة الجميلة قال حينها:
«الحَرْبُ أَوَّلُ ما تكونُ فَتِيَّةً
تَسْعَى بِزِيْنَتِها لكلِّ جَهُولِ
حتى إذا اسْتَعَرَتْ وَشَبَّ ضِرَامُها
عَادَتْ عَجُوزًا غيرَ ذاتِ خَلِيلِ
شَمْطَاءَ جَزَّتْ رَأْسَهَا وَتَنَكَّرَتْ
مَكْرُوهَةً لِلشَّمِّ والتَّقْبِيلِ».
هكذا الشّعراء والأدباء عبر التاريخ لهم دور بارز في المعارك لا يقلّ عن دور الفرسان فيها، فصوّر الشعر العربي والأدب العالمي الحرب تصويراً عميقاً، دقيقاً، حسناتها، وسيئاتها، دوافعها، وفواجعها، ضروراتها، والمآسي الناجمة عنها أيضاً، ووفقاً للدراسات التاريخية مثلما حُرّض على الحرب دُعي إلى اجتنابها ما لم تكن حاجة إليّها.
وهناك فرق بين الشّعراء الحكماء، يقول عنترة بن شداد وقد قيل له صف لنا الحرب، فقال: “أولها شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى”.
وقد قيل عنها ” الحرب مُرّة المذاق، إذا كشفت عن ساق” وصف يُشير إلى قسوتها وشدّتها، عندما “تكشف الحرب عن ساق” يعني أنّها وصلت إلى مرحلة الذروة، وأصبحت أكثر ضراوة ودمويّة.
هذا الوصف يبرز الطبيعة القاسية للحرب، وأنها ليست مجرّد مناوشات أو صراع سطّحي، بل هي تجربة مريرة لمن يشارك فيها.
ملاحم شعريّة
عكس أدب الحرب منطلقات تاريخيّة واجتماعية، ففي الماضي سادت القصص الأسطوريّة كالتي في الكتب الدينيّة أو الملاحم مثل “الإلياذة” القصيدة الشعريّة الملحميّة التي كتبها “هوميروس” وتمثل، بجانب “الأوديسة”، أهم قصيدتيّن ملحميّتين في اليونان القديمة.
تُعد الإلياذة إحدى أقدم الأعمال الأدبيّة الموجودة بين أيدينا اليوم. و”الأوديسا” هي حروب الأبطال الشعبيين وقدراتهم الخارقة، وصولاً إلى الأبطال التاريخيين الذين يحمون شعوبهم أو ينتصرون لها بعد أن يقودوا معاركاً يتباهون بها.
وفي كلّ مرّة تكون هناك أسباب للحرب كإنقاذ الحبيبة المختطفة أو غزو أرض الأعداء والانتصار للقبيلة أو للوطن، وقد تكون لأهداف غامضة أو غير مفهومة للمقاتلين كحالِ أبطال الروايات التي كتبت بعد الحربين العالميّتين في القرن العشرين، حيث ظهر الجنود فيها متذمّرين من حروب سيقوا إليها دون إرادتهم.
وقد قرأنا روايات مهمة صوّرت قسوة الحرب في المعارك أو ما تخلّفه من آثار بعد انتهائها على الصعيدين الاجتماعي والنفسي، كروايات “تولستوي وستندال وأريش ماريا ريمارك” وذلك وفقاً لما ذكرته بحوث ودراسات عن أدب الحرب.
فوضى عارمة
عجن الصحفي والروائي الأميركي «أرنست همينغوي»روايته «لمن تقرع الأجراس» من طينة الحرب الأهليّة في إسبانيا، فكانت معظم أعماله بين منتصف عشرينيّات ومنتصف خمسينيات القرن العشرين، وحصل على جائزة نوبل للآداب في عام 1954 ، إذن فالحرب أرضيّة متشبّعة بالمادة الأدبية، فهي تجمع معينات الكتابة، وتسرّع الأحداث وتخلق الوقائع والأشياء الكثيرة التي قد لا يصادفها المرء لو عاش حياة بأكملها، الحرب تجربة قاسية ووحشيّة تؤثر بشكل عميق على الأفراد والمجتمعات، وتترك آثاراً نفسية واجتماعية مدمرة.
ركز همنغواي في كتاباته على الجانب الإنساني للحرب، وكيف أنها تحوّل الأفراد إلى آلات قتاليّة، وتدمّر القيم والأخلاق، كما وصف الحرب بأنها «فوضى عارمة»، وأنها لا تجلب سوى الموت والدمار، وأنها تحول الناس إلى مجرد أرقام. ووصف كيف أن الحرب تترك ندوباً عميقة في نفوس الجنود، وكيف أنهم يعانون من صدمات نفسيّة واضطرابات ما بعد الصدمة.
وأظهر كيف أن الحرب تدمّر الأمل والإيمان بالمستقبل، وكيف أنّ الجنود يعودون من الحرب محطّمين نفسيّاً.
ركز همنغواي على الجانب المادي للحرب، وكيف أنّها تتسبب في دمار هائل للمدن والممتلكات، وكيف أنها تحوّل الأماكن المسالمة إلى ساحات قتال، غير أنها تدمّر القيم والأخلاق، وكيف أن الجنود يضطرون إلى ارتكاب أعمال وحشيّة لا تتفق مع طبيعتهم. وأن الحرب ليست مجرد قصة أو رواية، بل هي حقيقة واقعية يجب مواجهتها، وأنها جزء من تاريخ البشرية.
ويرى همنغواي أن الحرب تسبب ضياعاً روحيّاً نفسياً للأفراد، وأنها تجعلهم يشعرون بالوحدة والعزلة.
بشكل عام، الحرب عند همنغواي هي تجربة قاسية ومؤلمة، وأنها تحول الأفراد إلى كائنات أخرى، وتدمر كل ما هو جميل في الحياة. وفي تعليقه على هذه التجربة بعد سنوات في رواية «رجال في الحرب» كتب همنغواي: “عندما تذهب إلى الحرب وأنت صبي، يراودك وهم عظيم بالخلود، يُقتل أشخاص آخرون، وليس أنت.. ثم عندما تُصاب بجروح بالغة في المرة الأولى، تفقد هذا الوهم وتعرف أنه قد يحدث لك”.
ليس للحرب وجه أنثوي
اشتهرت “سفيتلانا أليكسييفيتش” الصحفية والكاتبة البيلاروسية الحائزة جائزة نوبل في الأدب، بكتاباتها التي تتناول آثار الحروب والنزاعات على الأفراد والمجتمعات، وخاصة في الاتحاد السوفييتي السابق، تقول :” إنّ الحرب ليست مجرد تاريخ رسمي أو سرد بطوليّ، بل هي تجربة إنسانيّة عميقة ومؤلمة، تركت آثاراً نفسيّة واجتماعيّة عميقة على الأفراد والمجتمعات، وخاصة على النساء.
في كتابها «ليس للحرب وجه أنثوي»، ركزت أليكسييفيتش على تجارب النساء في الحرب، وكشفت عن المعاناة والآلام التي تعرضن لها، وكيف أثرت الحرب في حياتهن وعلاقتهن بأنفسهن والمجتمع.
قالت أليكسييفيتش: “نحن أناس الحرب، إما أننا قاتلنا أو استعدنا للحرب، ولم نعش يوماً آخر”، كما وصفت الحرب بأنها “تجربة بلا نهاية، كحياة الإنسان”.
أكدت أليكسييفيتش على أن الحرب لا تقتصر على ساحة القتال، بل تمتد إلى داخل الأفراد والمجتمعات، وأنها تترك آثاراً عميقة ودائمة على الذاكرة والوعي الإنساني.
خلفية لأحداث الرواية
“ستندال” علامة بارزة في الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر، قرن الثورة الصناعيّة والثقافيّة معاً، خاصة في روايتيه الشهيرتين «الأحمر والأسود» و«دير بارم» وتأتي أهمية أدب ستندال في التحليل النفسي الواقعي للشخصيّات، وكانت علاقته بالثقافة الإيطالية مصدراً لإغناء تجربته.
لم يكتب ستندال بشكل مباشر عن الحرب كتجربة شخصيّة واسعة النطاق، لكنه تناولها في أعماله من خلال تحليل نفسية الأفراد المشاركين فيها، خاصة في روايته، يركز فيها على آثار الحرب على الأفراد، وكيف تشكّل دوافعهم وسلوكياتهم، وكيف تؤثر على حياتهم، ويستخدم الحرب كخلفية للأحداث في رواياته، مثل حرب نابليون في “الأحمر والأسود”، لتسليط الضوء على التناقضات الاجتماعية والسياسية في عصره.
ويظهر لنا كيف أن الحرب تغير الفرد، وكيف يمكن أن تؤدي إلى تناقضات بين الطموحات الشخصيّة والمصالح الوطنيّة، وكيف يمكن أن تتحول إلى صراع داخلي.
يميل ستندال في كتاباته إلى الواقعيّة، حيث يصوّر الحرب كواقع مرير ومؤلم، وليس كحدث مجيد أو مثالي.
ويوضح كيف أن الحرب غالباً ما تكون مرتبطة بالسياسة والصراع على السلطة، وكيف تستخدم لتحقيق أهداف سياسية. ويتعامل مع الموت الناتج عن الحرب كحقيقة قاسية، ويظهر كيف يمكن أن يكون الموت في الحرب نهاية مأساوية لحياة شخصية.
باختصار، يرى ستندال الحرب ظاهرة معقّدة تؤثر على الأفراد والمجتمع، وتكشف عن جوانب مختلفة من الطبيعة البشريّة، سواء كانت إيجابيّة أو سلبيّة
أخبار سوريا الوطن١-الثورة