آخر الأخبار
الرئيسية » كلمة حرة » أدبُ الرَّاهنيــــة

أدبُ الرَّاهنيــــة

بقلم: ميرفت أحمد علي

يظنُّ بعضُ المُتأدِّبينَ من أهلِ اليراعِ أنَّهم بتوصيفِ الحدثِ المُستجدِّ و بتضمينهِ آدابَهم، خليقونَ بتصدُّرِ المشهدِ الإبداعيِّ، وبإحلالِ أنفسِهم في مقاماتهِ الأولى، ما يفسِّرُ تهافُتَ عددٍ غيرِ قليلٍ منهم على المناسباتِ الاجتماعيةِ و الوطنيةِ و السياسيةِ البارزةِ، و استثمارِها لتجذيرِ أسمائِهم في مدوَّنةِ الوطنِ و التاريخِ، و انتزاعِ حقِّ الصدارةِ، و تخليدِ المُنجزِ الأدبيِّ خاصَّتهم في المناهجِ المدرسيةِ، و المقرراتِ الجامعيةِ، و منافذِ الإعلامِ، و منابرِ المهرجاناتِ التي تتحيَّزُ غالباً إلى هذا الصنفِ منَ الآدابِ المرتبطةِ بالمناسبةِ، بالرَّاهنيَّةِ، باللحظةِ المُعاشةِ، بتدفُّقاتِها الحدثيَّةِ و الانفعاليةِ المُوازيةِ، و هذا ما نسمِّيهِ بـ (تَمويضِ) الأدبِ، أي اتِّباعه للموضةِ الدارجةِ في مُحاكاةِ عبثيَّةِ القدَرِ، و مزاجيَّةِ الحياةِ، و مخبوءاتِ الأيامِ و خَوافيها، و تقلُّبِ الأممِ بينَ حُلوٍ و مُرٍّ. كما في كوارثِ الحروبِ، و مآسي الشعوبِ، إذ تتدافعُ الأقلامُ إلى تلقُّفِ الحدثِ بطزاجتهِ و رخاوتهِ، و تأطيرهِ في المنشطِ الأدبيِّ، و تسجيلِ موقفٍ أخلاقيٍّ و قيميٍّ حِيالهُ، يطغى فيه الذاتيُّ على الموضوعيِّ غالباً، و تعلِّقُ الأفكارُ على هامشهِ علاماتِ ارتباكِها و خيباتِها، أو استحسانِها و مُباركتِها، فيما يبدو محاولةً لتداوُلِ تلكَ الأحداثِ الوليدةِ كمُنتجاتٍ ثقافيةٍ (مُموَّضةٍ)، تمنحُ أصحابَها (فيزا) العبورِ و الرَّواجِ. و أكثرُ ما نصادفُ ذلكَ في أدبِ الحربِ و الثوراتِ التحرريَّةِ، و في آدابِ الذكرى السنويةِ للمناسبةِ الاجتماعيةِ أو الوطنيةِ (نكسة، انتصار)، إذ يُخالجُ (أديبَ المناسباتِ) الرضا الزائفُ عن الذاتِ، مكتفياً بإحداثِ رجَّةٍ لاسمهِ في الميراثِ الأدبيِّ و الاجتماعيِّ، متصيِّداً الحدثَ تلوَ الآخرِ؛ لتجليةِ أدبهِ و لتلميعِ صورتهِ في الأذهانِ، و لتداولهِ كشخصيةٍ ثقافيةٍ بارزةٍ، و تصعيدِ حسِّ المرغوبيَّةِ بهِ عندَ المتلقِّي فرداً كانَ أم مؤسسةً، أم هيئةً ثقافيةً. و هذا الحسُّ النرجسيُّ الغائرُ، و السلوكُ التَّصيُّديُّ المستفزُّ للمناسبةِ و للقائمينَ على تنظيمِها، يُحيلُ قدْراً لا بأسَ بهِ منَ المناسباتِ و الأحداثِ الراهنةِ إلى ساحةٍ هبائيَّةٍ خاليةٍ منَ الأمجادِ. فقد أثبتَ أدبُ المناسباتِ و الطَّارئاتِ ــ إلَّا ما ندرَ ــ استخفافاً بالأدبِ ذاتهِ، و استعجالاً فرضَهُ الُّلهاثُ و العدْوُ المسعورانِ خلفَ هذا الحدثِ و ذاكَ، على حسابِ القيمةِ الجماليةِ للآدابِ و للفنونِ. و بقولِنا: إلَّا ما ندرَ، نستحضرُ أعمالاً أدبيةً واكبت الراهنيَّةَ السياسيةَ، و مستجداتِ مصائرِ الأممِ في وقتِها، و أرشفتْها بكثيرٍ من مفرداتِ البلاغةِ الفنيَّةِ، و تَزاويقِ الأصالةِ و الجودةِ، ما أثمرَ عنهُ خلودُ تلكَ الأعمالِ في البالِ، حتى بعدَ زوالِ (المناسبةِ) بعقودٍ مديدةٍ، مثلُ روايةِ (عدَّاء الطائرة الورقيَّة) للروائي (خالد الحُسيني)، التي أدانت الإرهابَ في (أفغانستان) إدانةً تعرويَّةً فاضحةً، جامعةً كلَّ أسبابِ المقبوليَّةِ و الموضوعيةِ في الطَّرحِ، فبقيتْ خالدةً إلى يومِ الناسِ هذا. و مثلُها روايةُ (الأم) لـ (مكسيم غوركي). و تكثرُ الاستشهاداتُ و الاستدعاءاتُ منَ الشعرِ و الروايةِ بشكلٍ خاصٍّ.

فحَرِيٌّ بأدبِ المناسباتِ الطارئةِ و المألوفةِ الدوريةِ معاً و بمُريديهما، ألَّا يتسلَّقوا سلالمَ المجدِ الموهومِ بأعمالٍ أدبيةٍ مُرتجلةٍ، توسَّلت (المناسبةَ)، و استحداثاتِها، و راهنيَّتَها، و جِدَّتَها، سبيلاً للشهرةِ و للنجوميَّةِ و للألمعيَّةِ على حسابِ جَودةِ الإبداع!

(سيرياهوم نيوز21-3-2022)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

من التشجيع إلى (التعجيز)!

  غانم محمد   التحوّل إلى الطاقات المتجددة عنوان كبير، وتوجّه مهمّ رغم صعوبة امتلاك مقومات هذا الأمر لدى النسبة الأكبر من الناس العاديين، بسبب ...