مايا سلامي
صدر عن اتحاد الكتاب العرب دراسة بعنوان «أدونيس وهج الحداثة الشعرية»، تأليف رجاء كامل شاهين، تقع في 232 صفحة، وتهدف أن تكون تنويراً لحقبة زمنية أدبية تمتد حتى أيامنا هذه، أي من جيل الرواد حتى هذا الجيل، وأن تكون رؤية وسجلاً نقدياً لثيمات الشعر الحديث، وخاصة القصيدة أو النص الأدونيسي الذي لا يزال في الميدان، فأدونيس ما زال يكتب وما زال يراجع أعماله وتنظيراته، وما زال يطلع إلينا بتنظيرات جديدة.
ولعل مبادرة اتحاد الكتاب العرب بطباعة هذا الكتاب تشكل انزياحاً مهماً في وعي المؤسسات الثقافية الرسمية لقيمة المثقف العضوي الذي يمثله أدونيس وأمثاله، والتي نأمل أن تكون الحلقة الأولى في سلسلة الانزياحات المتتالية والمبادرة الملهمة للآخرين في خلخلة توضع جبل الجليد المخيّم على جسد الثقافة العربية عموماً.
وهو حشد كامل في رجل من منطلق تعدد المشارب الثقافية التي غرف منها مفكرنا زاده المعرفي وأعاد إنتاجها بحلة جديدة سواء في مجال الشعر أم الترجمة أو التنظير الأدبي أو الثقافي أو التاريخي وبدعوته الدائمة لإعادة إحياء التراث والثقافة العربية بقراءات جديدة، إنه أدونيس الظاهرة الثقافية الكبرى التي تشكل إضافة لمفهوم المثقف العضوي الذي يجب أن يحتفى به بما يليق وحضوره العالي في المشهد الثقافي العالمي وأن نفتخر بأنه ابن هذه الأرض الولّادة سورية.
اختراق المألوف
وفي البداية تتحدث الكاتبة عن الحداثة في شعر أدونيس وإبداعه في الخروج عن كل ما هو نمطي ومألوف، فتقول: «لقد نشط أدونيس في اختراق المألوف من الأشياء وجنح عميقاً في اختراقه وسعيه إلى رؤية الأبدية والحقيقة الكونية، فبذل جهوداً مضاعفة لتهشيم الحواجز القائمة بين الواقعي والأسطوري، بين المهيم والمتماسك حتى استطاع الوصول إلى معادلة دقيقة بمزجه الرومانسي مع الصوفي، أنتج علواً في روحه الباطنة الجموحة نحو الحقيقة الشمولية فبحث عنها في أسرارها وبحث عنها في الطبيعة والأشياء الخارجية».
وتشير إلى أن أدونيس أوجد لغة أكثر حركية متعددة الطبقات، عمد في أكثر الأحيان إلى تفصيحها، وصالح العامية أحياناً أخرى، أوجد لغة متعددة الطبقات ترتاح للتوليد اللغوي وتحتاج لطبقات المعنى المتعددة واحتمالاتها، لغة مرسومة ليس في ظاهرها فحسب بل في ما ورائها أو إيحائها، فيها التوهيم والسحر والبذخ الخيالي والإيماء الخفي.
وتوضح أن الكتابة في القصيدة الأدونيسية تبالغ في ابتكارها وخصوصيتها وأسلوبها وثقلها الإيحائي، كتابة فيها الازدواجية بين العمق والإيهام والإيحاء بالعمق عن طريق الإيهام للارتحال الدائم نحو الخصوصية المعمدة بالقلق في سبيل الأنا العالية، كتابة فيها الهوس بالسيرة الذاتية والمبالغة في الفرادة والذهاب بعيداً في تأمله لنفسه.
كما تبين أن مقلدي الأدونيسية الذين لم يفهموا ما الحداثة وماذا يكتب أدونيس وقعوا في متاهات كبيرة وأخطاء كثيرة أدت لتمحل لغوي وهذيان غير إيقاعي وإنتاج لغوي شعري بلا أي نظم، فوصلت بهم هذه الكتابة إلى إحباطات نفسية ووقعوا في متاعب لغوية وبلاغية فضلاً عن الفنية.
محطات حياتية
وتتناول الكاتبة في دراستها محطات من حياة أدونيس الشعرية والوطنية وأبرزها لقاؤه بالمفكر الكبير أنطون سعادة الذي قام بتأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي انتسب إليه أدونيس ورأى فيه ذاته المتأتية من سورية البلاد التي تمتد بعيداً في الزمان والمكان.
كما تبين أن أدونيس كان قارئاً نهماً للتراث العربي والإسلامي، ولا شك أنه قد خزّن في فكره وذاكرته كل ما قرأه وقد استوعبه بمنظور نقدي وأبدى بعض الملاحظات عليه ليستكمل من بعد دراسة هذه الملاحظات وينطلق في مشروع جديد واسع الأبعاد أجج صراعاً لا ينتهي، فقد أصدر ديواناً شعرياً هو «قصائد أولى» عام 1957، وأصدر «أوراق في الريح» عام 1958 فكانا الأكثر أهمية في بداية مسيرة أدونيس في مشروعه الجديد من حيث كونهما يمثلان بداية ولادة مشروع الشعرية العربية.
وتكشف أنه في مطلع عام 1957 تقرر إطلاق مجلة «شعر» بالاتفاق بين أدونيس ويوسف الخال وقد نشر أدونيس دواوينه تلك فيها، وجوبهت المجلة ومعها القصائد الحديثة بنقد عنيف واتهامات كثيرة، فقد أحدثت «الشعر» صدمة شعرية في الذائقة العربية المعاصرة لسعيها منذ البداية لنشر قصائد شعرية خلخلت مفاهيم ثابتة مستقرة للوصول بتوظيف الشعر إلى آخر من الرفض والغموض الفني واللغة المزدحمة بالموحيات الغريبة.
ديوانه الأول
وتستعرض رجاء شاهين تفاصيل ديوان أدونيس الأول الذي أطلق عليه عنوان «قصائد أولى» وافتتحه بقصيدة «قالت الأرض» التي يعدو فيها نحو مشروعه القائم على الأنا الزمنية الممزوجة بمشروع الحداثة لديه، وتذكر: «قالت الأرض وبين السطور قالت أنا الأدونيسية المنطلقة من نسيج قصيدة تكشف عن منجز فيه إشارات إلى الزهو بالأنا الجمعية التي تدركها أنا الشاعر الكبيرة».
وتشير إلى أنه في هذه القصيدة يكشف أدونيس عن سلطانه الشعري وعن سلطة اللغة وسيرورتها الحاملة للحدث المبطن بالنور والإشراق عبر هذه الجمل القصيرة والتراكيب الخلاقة، فكل مفردة فيها دور يخدم المعنى ولا يستهلكه، فتوغل في الأبعاد من دون حدود أو حواجز متفاعلة مع الموروث الثقافي السوري بما حمله من خفايا معرفية اكتنزها أدونيس ليسكبها في قالب صنعه لنفسه، فيحاول في بداية القصيدة أن يقوّل الأرض ما يريده هو:
قالت الأرض في جذوري أباد
حنين، وكل نبضي سؤال
بي جوع إلى الجمال، ومن صدري
كان الهوى وكان الجمال
سيرياهوم نيوز1-الوطن