آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » أزمة الخليل ونبوءة ادوارد سعيد

أزمة الخليل ونبوءة ادوارد سعيد

نادبة عصام حرحش

تتزاحم الأحداث التي من شأنها إطلاق صافرات الإنذار بأصوات متلاحقة صاخبة أمام السلطة الفلسطينية، في وقت تتفاقم فيه ازمة تفشي الكورونا وفقدان السيطرة على الوباء. فالعالم كله يغلق أبوابه ويعلن الطوارئ متحسّباً لفقدان السيطرة وتفشي الوباء، ونرى السلطة تستشهد بما يجري بالعالم، فتارّة تحملنا على حافلة المتحدث باسمها لينقذ من يصعد معه، وتارة تستهزئ او تمازح كما حصل على لسان متحدث آخر بالاستشهاد بألمانيا وإغلاقها المرتقب.

ولكن وفي كل الأحوال، بين المزاح او الاستهزاء، السلطة في واد آخر من الاهتمامات والحسابات. فنصحى على أخبار لا تمت لخطورة الوضع العالمي والوبائي بصلة. كل ما يؤرق السلطة هو حفاظها على تواجدها أمام متغيّرات لا يستطيع أصحابها حسمها، بانتظار لتغيير قادم حتميّ يفرضه “رحيل” الرئيس الطاعن (أطال الله في عمره) ربّما، أمام محاولة حقيقية من أصحاب السلطة مجتمعين، الرئيس او المسترئسين بالحفاظ على الوضع كما ما هو عليه “مرحليا” حتى يفرض أحدهم (المسترئسين) نفوذه بقوة التنظيم والسلاح وبطش اليد ويسمي نفسه الرئيس الأبدي القادم- عندما تأتي الفرصة.  وطبعاً، لم يعد موضوع الانتخابات وارد. فلم نعد نسمع عن مرسوم انتخابي قادم. فالانتخابات كما الحِلّ والتّحلل من الاتفاقيات مع إسرائيل، تستخدم فقط للتلويح والتهديد والهاء الشعب. وعليه، يجب ان تفرض السلطة زمام التحكم والبطش من كل الاتجاهات. فتستمر الاعتقالات على خلفية الرأي، ليتم اعتقال الناشط صهيب زاهدة من جديد، وشاب اخر يدعى قتيبة عازم وإحالة وفصل مديرة مدرسة سحر أبو زينة على خلفية مشاركتها بإضراب المعلمين. وحراك أصحاب الاحتياجات الخاصة المستمر منذ أشهر، ولا حياة لسطلة ينادي عليها أحد. وطبعاً هناك الحراك الحاصل في الخليل والذي زعزع أمن السلطة، لترد بعمليات أمنية تشبه ما يقوم به الاحتلال من قمع، واستخدام أعلام السلطة وإعلامه التحريض وإطلاق شعارات الاجندات الخارجية المشبوهة على المتظاهرين، وأكثر، اتهامات العمالة والخيانة لبعضهم.

ربما لم نعد نعبأ كثيرا لما يصدر عن السلطة، او بالأحرى لم نعد نستغرب تخطي السلطة وأدواتها كل الخطوط الأخلاقية والمهنية والإنسانية في التعامل مع الشعب.

ولكن يبقى ما هو مرعب بحق: من جهة هناك كورونا متربصة بالفعل دخلت الى بيوتنا وبدأت تخطف أرواح احبّتنا يوميّاً، وليس من الصعب فهم نشاط الفيروس مع انخفاض درجات الحرارة المتزايدة وعودته على ما يبدو بصورة أكثر شراسة. وفقدان الشعب الثقة بكل ما تقوم به الحكومة حتى ولو كان به بعض المنطق والصحّة. وما جرى من إعلان إغلاق بعض المحافظات أمام عدم إغلاق بعضها يؤكّد على أن ازدواجية المعايير التي تقوم عليها السلطة والمحاباة في كل القرارات يعتمد على ما لا يخص المنطق والصحة بصلة. وعليه، ما قام به أهل الخليل من تظاهرات، كرست من ناحية، انتشار الفيروس المتفشي، الا انها من ناحية أخرى فسّرت وبكل بساطة حال الشعب الذي بدأ ملتزماً وبشدة وداعماً للسلطة في الأشهر الأولى، وانعدام ثقة الشعب ذاته الذي أطلق أكبر شعارات الدعم لهذه الحكومة ومارسها. لأنّ الشعب هذا، وبعد معاناة قطع الارزاق واستمرار الحكومة في محاباتها وعدم الجدية بالمعايير واجبة التطبيق والإلزام، تحوّل من أفراد الى جموع شكّلت الشعب المنتفض على ظلم المحاباة في إعلان الاغلاقات. فما الفرق بين رام الله والخليل؟ وما الفرق بين نابلس وجنين؟ وما الفرق بأي مكان من قرية الى مدينة. من شارع الى حي. لا التزام. الكورونا توطّنت من قلة الالتزام الذي كرست له معايير الحكومة المزدوجة وغير الفاعلة ولا الحازمة. فالمواطن المسكين هو من يدفع الثمن دوماً.

وقد يبقى ما حصل في الخليل مهمّاً بقدر ما هو إشكاليّ. من جهة، التفاف أهل الخليل في حشد واحد، مهم جداً ولا يقول أنّ أهل الخليل يعلنون دولتهم، بقدر ما يقول أنّ قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق. والأهم أنّ الكيل بمكيالين من قبل الحكومة سيغلق اذان المنطق أمام مشهد الظلم. وكذلك لا يمكن الاستهانة بأن أهل الخليل يلتفون التفاف رجل واحد حول القضايا المهمة بالنسبة لهم. فما جرى سابقاً بالحراك ضد الضمان الاجتماعي يؤكّد أنّ الخليل ليست فقط رقماً سكانياً ومحرك الاقتصاد بيد اباطرة رجال أعمال السلطة. وهنا، التفاف الأضداد والمختلفين بالخليل من أفراد وشخصيات كان مؤشراً هامّاً. ويبدو أنّ ما راهنت عليه الحكومة قبل أشهر، مثلا بتشجيع الحراك- او السكوت- ضد سيداو من قبل العشائر، وسيطرة العشائر على المشهد الأمنيّ البديل الحامي لقوانين المجتمع وقيمه لمؤسسات الأمن التقليدية، هو ما لم تراهن عليه اليوم من التفاف ضد ما تريده الحكومة من فرض إغلاق تم اعتباره جائر بسبب محاباة الحكومة لا بسبب أحقّيته. فالخليل تختلف بالفعل، لأن أهلها لا يحتاجون إلى انشاء صندوق وقفة عز ليعزّوا أبناء مدينتهم. فتبقى الخليل دائماً مضرب الأمثال بكونها المدينة التي لا ينام فيها إنسان جائع. والتظاهرات كان محركها شعور وحاجة جمعية لا مصالح متعلقة بفئة محددة برجال الاعمال مثلا او أصحاب المصالح الكبيرة.

الإشكاليّ هنا، هو تحوّل المواقف، فمن دافعت عنهم الحكومة قبل أشهر والحقيقة قبل سنوات كثيرة ومكّنتهم ليقحلوا مكان القانون، هم من تقف الحكومة ضدّهم اليوم بالتشهير من خلال أعلامها وإعلامها ببعض شخصياتهم. ووقوف بعض الجهات- او الشخصيات التي تم محاربتها في السابق من قبلهم (العشائر) مع الحكومة بالدعوة الى فرض الأمن هو الاشكاليّ. فهؤلاء بدعوتهم الحكومة لبسط النفوذ، لا يقفون ضد النظام الابوي، ولكنهم يقفون مع ظلم الحكومة – في هذ الحالة ضد الخليل- ان استخدام – بعض المثقفين- لما يجري بالخليل لتصفية حساباته مع العشائر مجحف بحق ما يجب ان تمثله الثقافة في هذه الحال. نحن لا نصفّي حسابات شخصيّة هنا- كما تعاملنا الحكومة-. منذ سنوات ونحن نرفع الأصوات نحو عدم ترك العشائر لتكون البديل لسيادة القانون، ولكن لا يمكننا كذلك التغاضي عن أهمية التكاتف التي تشكله العشيرة – بالخليل- تحديدا عند الحديث عن التأثير. وربما، ليست مصادفة – على الرغم من تأكيدي ان ما يجب أن يحكمنا هو سيادة القانون- وأن خطر استحكام عرف العيرة على القانون مرعب. الا ان الأمور في الخليل تعتبر أكثر أماناً لأنّها مرهونة بقوة العشائر لا قوة التنظيم وسطوته.

في حوار ادوارد سعيد الأخير (٢٠٠٣)، تكلم عن زيارته للخليل عندما توقف مع رفاقه امام رجل مسن يواجه جندي. وعندما

وبعد حوار جرى بين سعيد والجندي تبين بوضوح أنّ ما كان يجري من توسيع للشوارع لمصلحة المستوطنات لم يكن يحصل بمعزل عن السلطة. فكانت إسرائيل تعلن عن نيتها بتوسعة الشوارع والأراضي المرشحة للاستيلاء، وذلك بما يتماهى مع الاتفاقيات المبرمة في أوسلو (أي اعلام الطرف الاخر)، والسلطة كانت على دراية كاملة بالأمر، تعلن رفضها أمام الجمهور الفلسطيني بالعلن وتوافق إسرائيل او تسكت بالسر.

بدا الامر لسعيد متوافقاً مع توقعاته من تفاهمات أوسلو التي أسقطت بالنسبة له ورق التين عن السلطة بقيادة عرفات. وكان هذا المشهد كما مشهد البدو على مشارف القدس (الجهالين) وهم في العراء بعد اخلائهم وهدم خيامهم بنفس تلك الرحلة.

مع الأسف، ان ادوارد سعيد أعلن عن هذا الموقف، ليكون موقفه الأخير قبل وفاته ليؤكد حينها – كما نتأكد نحن اليوم- “عدم مقدرة هذه السلطة على حماية شعبها، ليس هذا فقط، بل عدم اكتراثها أصلا للشعب.”

في حوار ادوارد سعيد- او بالأحرى في شهادته على أوسلو والسلطة ممثلة بعرفات. سأله المحاور السؤال الذي ندور جميعنا حوله- ومرة أخرى هذا السؤال جرى- بعد عقد على مرور أوسلو-: “خلال فترة أوسلو، يبدو أنّ السلطة الفلسطينية تعاونت مع الإسرائيليين بمسألة مصادرة الأراضي، أكثر من ذلك، الوزراء في حكومة عرفات كانوا يستفيدون مالياً من خلال بيع مواد البناء والمشاركة بالبناء الفعلي بالمستوطنات. لماذا انتهى الأمر بالفلسطينيين على الرغم من مستواهم التعليمي مقارنة بالعالم العربي والتطور، بقيادة تخدمهم بشكل سيء؟” (استخدام لمحاور لكلمة تخدم مضحكة، إذا ما فكرنا بأن أصل تفكير القيادة هو خدمة الشعب لها لا العكس)

ردّ عليه ادوارد سعيد قائلا بأن الجواب على السؤال مستحيل. ويتابع: “على الرغم من أنّنا تلقينا ومنذ البدء على مدار القيادات الفلسطينية خدمات سيئة من القادة مقابل إخلاصنا لهم”. فعزا سعيد التفسير الى “الإحساس المشحون تماماً بعدم الاستقرار الذي يحيط الفلسطينيين كجماعة. وعليه عندما يظهر أمامنا شخص من نوع “الأب المطمئن” فإنّ الناس يتدفقون اليه، لأن حياتنا وعوالمنا عبارة عن تسلسل للأخبار السيئة. وعرفات بشّر دائماً بالخير. والأهم أنّه لا يفعل شيئا على الإطلاق. أعني منذ بداية أوسلو وحتى الآن لم يخاطب شعبه الّا ما ندر، على الرغم من سهولة ذلك، كما فعل غيره من القادة كمانديلا على سبيل المثال. ومع ذلك، فان الشعب بقي مخلصاً له كلّما تعرّض للإذلال كما يحصل مؤخراً من قبل الإسرائيليين.”

ذكّرتني هذه العبارة بأمرين متشابهين لسلوك شعبيّ واحد: الأول تصرفات أبو مازن تجاهنا بنفس السياق، وكأنّ سعيد يتكلم عن أبو مازن لا عرفات، مما جعلني أتذكّر كم هي شحيحة ذاكرتنا. والثاني هو التفاف الناس عند بدء أزمة وباء الكورونا نحو الحكومة وتأثير تحديثات المتحدث الرسمي باسمها على الناس. فكرة حاجة الناس الى أب مطمئن. وكأنّ الامر الوحيد الذي أتقنته السلطة خلال وجودها هو فهم سيكولوجية الجمهور الفلسطيني.

تابع سعيد طرح تفسيره بما اعتبره المعضلة الحقيقية في أزمة الشعبي الفلسطيني، وهي النخبة المثقفة. وبرأيي أن ما وضع سعيد إصبعه عليه هو المشكلة المستمرّة اليوم. والحل عندها إذا ما أردنا تغيير فعليّ.

يقول سعيد: ” أعتقد أن أسوأ المذنبين في هذا ليسوا الناس العاديين المتمسّكين بالحياة كما يعرفوا التمسك بها. فهؤلاء من السهل الوصول إليهم والتأثير بهم. لكن طبقة المثقفين هي التي استفادت من المنظمات غير الحكومية والمبالغ الضخمة من المشاريع التي سكبت من أجل حقوق الانسان وما ترتب عليها كذلك، من انشاء لمراكز دراسات وكل ما يمكن تصور إنشاؤه، تغاضت عن دراسة المجتمع الإسرائيلي الذي يعتبر أهم ما يحتاج إليه الفلسطيني ليعرف كيف يتعامل مع الواقع.”

وهنا أرجع لما جرى بالخليل والهجوم والتخوين الذي طال أحد الشخصيات العشائرية بسبب علاقته بالمستوطنين. وقد يبدو هذا الشخص مجسدا لما رآه ادوارد سعيد من فراغ شكله التمويل مما يحتاجه الإنسان الفلسطيني من أجل التعامل مع واقعه الذي يحتّم عليه إسرائيل.

يؤكد سعيد أنّ غياب القدوة لدى الشعب الفلسطيني هو ما أوصلنا الى هذا القبول لقيادة سيئة. والقدوة التي يشير لها ليست بالضرورة انسان يضحي بحياته من اجل ان يحيا الشعب، ولكن وجود نموذج او نماذج يحتذى بها لشخص نستطيع ان نشير اليه ونقول – نحن بخير- نموذج مخلص لقضية لا يموّلها المال ولا يتم استقطابها من قبل نظام يدفع اجرا، او ينفذ أوامر من الخارج.

فيؤكد سعيد هنا “إن هذه الأنواع من الناس اختفت بالفعل من المشهد. والامر الأخير هو الفساد الكامل للإعلام. فعندما تصبح الصحافة ملكاً للسلطة سواء بشرائها او شراء موظفيها، يصير الاعلام جزء من السلطة لا مصدرا مستقلا للأخبار.” (يذكر ادوارد سعيد هنا حادثة لاحد محرري الصحف الذي تم زجه بالسجن لمدة أسبوعين بسبب عدم نشره صورة عرفات والكاردينال بالصحفة الأولى للجريدة في أحد احتفالات الأعياد المسيحية ببيت لحم).

ثم يتابع: ” أعتقد أنها الطبقة المثقفة. هي التي لم تقف في وجهه قط.”

ولكنه يضع أمله بقوة المجموعات من معلمين وأطباء ومحامين وغيرهم بالحفاظ على استمرارية المجتمع وتماسكه في الظروف الصعبة التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي عند كل فرصة.  وهنا يرى هذه المجموعات من الافراد كالعائلة. تستطيع ان تلعب دورا أكثر صحة واهمية. ويؤكد سعيد ان: “العائلة وليس العشيرة، فالعشيرة أو القبيلة أمر مختلف- سلبي الملامح-. لكن العائلة والارتباط بالأرض هي التي تبعث الإلهام. ما نفتقده هو نموذج لما قدّمه إبراهيم أبو اللغد بالعودة من أمريكا وتركه لمنصبه بالجامعة ليقدم خدمات مجانية للجامعة وفلسطين…. انه ومن المفارقات حقا ان ما ينقص ليس وجود أناس كأبو اللغد، ولا بعدم وجود أولئك الذين لا يحتاجوا الى المعاشات والوظائف، ولكن ما يجري هو انّ أولئك الذين لا يحتاجوا الى الوظائف والى المال هم الذين يغازلون النظام من أجل ان يتم استدعاءهم لمنصب في حكومة. هذا هو المحبط بالفعل.”

ما قدمه ادوارد سعيد من أفكار، يبدو وكأنه نبوءات مفصلة إذا ما قرأناه بمعزل عما عاركه ادوارد سعيد وواجهه من قبل السلطة ممثلة بعرفات في حينه. الا اننا وبعد كل هذه السنوات، ولقد حفظنا لعرفات في اذهاننا صورة متقنة للتضحية والنضال، ليوقظنا ادوارد سعيد بكلامه الذي لم يتوقف ابدا عن ترديده على مسامعنا حينها، ان الحالة العرفاتية مستمرة بتجسيد نفسها لا بصورة التضحية والنضال التي نحفظها للأموات، ولكنها مستمرة بإدارة السلطة التي لا ترى من المواطن الا غاية لسيادتها.

وكما في حينها، وقبل ذلك، كانت مشكلة الفلسطينيين كشعب بقيادات لا تمثل مقدراتهم وامكانياتهم وذكائهم. لا تزال النخبة الثقافية هي العامل الأهم في احداث التغيير او إبقاء الأمور بانزلاق نحو خراب أكبر.

 

سيرياهوم نيوز 5 – رأي اليوم 16/12/2020

x

‎قد يُعجبك أيضاً

غزة ما بين مأزق بايدن وهذيان نتنياهو

الدكتور خيام الزعبي اختياري لعنوان مقالتي هذه لم يأتي من فراغ وإنما جاء بعد نظرة شمولية لما لهذا الموضوع من أهمية على الصعيدين الإقليمي والعالمي، ...