د. خلف المفتاح
الحديث في موضوع الهوية حديث ذو شجون، ولعل ما يصيب موضوع الهوية من تصدعات وشروخ هائلة إنما هو قرين على لحظة مصيرية تمتحن قدرة الأمة العربية ونخبها ومؤسساتها وقواها الفاعلة على جبه ومواجهة هذا التحدي، فلقد خسرنا معارك كثيرة في الميدان العسكري والسياسي والاقتصادي والتقني، ولكن أخطر ما يمكن أن نخسره هو معركة الهوية وصون الشخصية الوطنية والقومية من المسخ والتبديل، ومع أن البعض يعترض على مفهوم الأمن الثقافي العربي في إطار أزمة الهوية، ويخشى من الانغلاق والشرنقة، فالتحدي كبير للمشاركة في صناعة الحضارة الإنسانية.
وبالعودة للمفهوم فهو حديث الولادة وطرح في إطار مقاربة الأمن القومي العربي بأشكاله وصوره المختلفة العسكري والاقتصادي والغذائي والمائي، وربما تأخر الحديث عن الأمن الثقافي لأسباب لا تتعلق فقط بالشعور بأن الثقافة مجال غير قابل بأن يقارب بأدوات أمنية، ولكن هذا التأخر له أسباب موجبة، ذلك أنه قبل ثمانينيات القرن الماضي لم تكن الثقافات الوطنية تتعرض للمخاطر التي بدأت تتعرض لها عندما أخذت العولمة ترخى بظلالها على الجميع، وعلى التاريخ البشري المعاصر على وجه العموم، ولم يكن قبل ذلك ثمة خطر حقيقي يهدد الثقافات، وربما يبيدها تحت عنوان الهيمنة الثقافية أو الاستتباع الثقافي أو الغزو الثقافي وغيرها من مصطلحات ومفردات.
إن الاختراق الثقافي لمجتمعاتنا لم يكن وليد العولمة، فهو ليس بحديث العهد، ولكنه لم يكن بهذا الزخم والكثافة كما هو حاصل خلال العقود الثلاثة الماضية، فقد تعرض العالم العربي والإسلامي إلى موجة ثقافية غازية منذ القرن الثامن عشر وعصر الاستعمار الكولونيالي لعالم ما بعد البحار، فالغزو الاستعماري لم يكن هدفه فقط هدم البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإطاحة بالسيادات وتغيير مجرى التاريخ في هذه المجتمعات والدول، وإنما فوق ذلك أوجد شروخاً وتصدعات هائلة في النظام الثقافي والتربوي ومنظومة القيم، ما أدخل المجتمعات المستعمرة وما سُمّوا دعاة التجديد في جدال ثقافي بين الأصالة والتغريب، بين دعاة القديم ودعاة الحديث، تحولت الى صراعات تركت آثارها على المنظومة الثقافية والقيمية لتلك المجتمعات وكان هذا هو حال العرب في القرن التاسع عشر، وتحديداً منتصفه الثاني، ومع أن التأثيرات لم تكن ذاتها على المستويين الاقتصادي والسياسي، إذ نجحت الكولونيالية في فتح الطريق أمام مجال اقتصادي مختلف عن العصرالعثماني، إلا أنها لم تضع أسساً قوية لدولة مؤسسات وقانون على النمط الغربي، ولكنها أيضاً لم تستطع القضاء على النظام الثقافي أو لنقل المنظومة الثقافية القائمة، أو تضخ حياة جديدة في منظومة الثقافة الوطنية، حيث استمرت المنظومة الثقافية الإسلامية والعربية الموروثة موجودة بل قادرة على إعادة إنتاج نفسها في مجتمعاتها، والسبب في عدم التجافي بين الآثار المادية والثقافية ناجم عن التفاوت بين الزمن المادي والزمن الثقافي، أي الزمن الاقتصادي والسياسي، وبين الزمن الثقافي، فالزمن الثقافي زمن رتيب وبطيء نسبياً، ولايتغير بسرعة، بينما الزمن المادي سريع التغير.
أما في زمن العولمة فالتفاوت بين الزمن المادي والثقافي ليس كبيراً كما هو قبلها، وفي ظل الدولة الوطنية نشأ نسق ثقافي وقيمي في ظل استقلال سياسي، حيث نجحت الدولة الوطنية نجاحاً باهراً في إدارة تناقضات تصعب إدارتها تناقض بين الدولة السلطانية بكل عجرها وبجرها، والدولة الحديثة أو الدولة الوطنية التي هي خليط من كيمياء عجيبة من معطيين متناقضين، الدولة السلطانية التقليدية والدولة الحديثة التي وضع المستعمر ركائزها في الحقبة الكولونيالية، فتعايش النموذجان القديم والحديث داخل الدولة الوطنية، وكان هذا حال الثقافة الوطنية التي تنهل من مرجعين متناقضين، الثقافة العربية الإسلامية التقليدية والمرجع الأوروبي الحديث، وتشكلت كمساحة مشتركة من هذين الموردين أو المصدرين، ومن حسن حظ الثقافة الوطنية أنها استطاعت أن توجد قدراً ما من الاستقلال النسبي عن المرجعين، فلم تكن ثقافة تراثية خالصة، ولم تكن ثقافة متغربنة أيضاً، وإذا كان السؤال لماذا نسميها ثقافة وطنية، وليست عربية إسلامية فآية ذلك لأنها بنيت على الأمة أو الشعب، وليس على الملة، وكذلك لا نعتبرها ثقافة غربية أو صدى للغرب، لأن مضمونها تحرري واستقلالي في وجه الغزو الأجنبي، فاكتسبت هذه الشخصية وهي الثقافة التي عشنا ونعيش في كنفها منذ عدة عقود حتى جاءت رياح العولمة وغيرت كل الموازين، وهنا نتحدث عن الثقافة بوصفها مجموع أشكال التعبير عن الشخصية، سواء كان التعبير كتابياً أم شفهياً أو حركياً أو علائقياً وقيمياً، فالثقافة والهوية أمران متلازمان.
ولعل السؤال المطروح منذ ذلك التاريخ وحتى الآن: كيف صارت أوضاع الهويات والثقافات في زمن العولمة، وهي التي أبطلت قانون التفاوت الذي كان قائماً قبلها بين المفاعيل المادية والمفاعيل الثقافية، لأن العولمة بوصفها فعلاً اقتلاعياً أحدثت في الهويات والثقافات من الأضرار نظير ما أحدثته في السياسات والاقتصادات وغيرها من مظاهر النشاط البشري، فمع العولمة أصبح الحديث عن الاستقلال الثقافي والهويات الوطنية والقومية يؤخذ بحذر شديد، فلم تعد الثقافات الوطنية قادرة أن تبدي الممانعات التي كانت قادرة على القيام بها قبل عصر العولمة، لأن العولمة أطلت من عوالم الثقافة كالنظام الإعلامي والمعلوماتي السمعي والبصري، وفي عصر التكنولوجيا المتقدمة والفضاء المفتوح وهي الوسائط الأكثر فاعلية في مخاطبة العالم الخارجي، وبهذا المعنى أبطلت مفعول التفاوت الذي أشرنا إليه.
إن الذين تضرروا من العولمة ثقافياً هم حصراً من أبناء الجنوب، ومنها شعوبنا العربية والإسلامية، فكل العالم تضرر من العولمة الثقافية حتى الغرب ذاته مع فارق أن الثقافات الغربية والمجتمعات الغربية المتضررة من العولمة المتأمركة كانت تمتلك آليات للمقاومة أكثر فاعلية، لما نمتلك، وهذا هو الذي خفف من غلواء ذلك الفعل العدواني الذي مارسته العولمة على هذه الثقافات، ما فسر ويفسر عدم قدرتنا على كبح جماح العولمة الثقافية كما هو حال الغرب الأوروبي.
وهنا رب قائل يقول: إن الثقافة شأنها شأن الحرب الاقتصادية محكومة بقانون المزاحمة والتدافع والتنافس، وإن الثقافة داروينية، أي إن الأفكار القادرة على البقاء هي التي تنتصر، فقد يترتب على هذا القول أن الثقافة الأميركية هي الأقوى، لذلك استطاعت أن تهيمن وتسيطر، وهذا أمر ليس صحيحاً، لأن الولايات المتحدة الأميركية نجحت في أن في تحتكر لفترة طويلة إنتاج القيم العولمية الثقافية، لأن العولمة في بداية التسعينيات بدأت أميركية، واحتاجت بلدان كبرى وخاصة اليابان وألمانيا عدة سنوات حتى تدخل غمارها، ثم ما لبثت باقي الدول الأوروبية أن دخلت السباق وصولاً لدخول الصين هذا السباق.
ولكن عندما تحولت هذه الدول إلى شركاء في عملية إنتاج العولمة على الصعد العلمية والتكنولوجية والاقتصادية، لم تستطع أن تجاري الولايات المتحدة الأميركية في إنتاج القيم العولمية الثقافية، حيث ظلت أميركا قابضة في هذا المجال، وهذا ليس قرينة على قوة الثقافة الأميركية إن أخذنا معياراً معرفياً أو معياراً جمالياً، فالثقافة الأميركية متواضعة إن قيست بالثقافة الألمانية أو الفرنسية أو الإيطالية، لكنها قوية بوسائلها وأدواتها فالاختلاف في القوى مع الدول الأوربية هو اختلاف بالقوى الوسائلية، وليس بالمضمون المعرفي أو الجمالي، فالثقافة الأميركية ليست الأقوى في المحتوى أو بالقوة الكامنة، وإنما في الوسائل.
وهذا يجعلنا نقف عند مسألة ما أحوجنا للوقوف عليها، وهي كيف يصنع مجتمع ما قيمه وثقافته ويعيد إنتاجها؟ وما المؤسسات التي تنهض بهذه المهمة؟ وما معامل الثقافة والقيم في المجتمع؟ ولاشك أنهما بشكل أساسي الأسرة والمدرسة، وهما مصنع الإنسان، والمدرسة هي الآلة الأيديولوجية للدولة لصناعة المجتمع، وبهذه الوسائل كنا نستطيع نحن العرب أن نتصدى لغزوات وحملات في تاريخنا، ومع الأسف بدأ الهوان والمرض يصيب ويدب في هاتين المؤسستين؛ الاسرة والمدرسة، فهما لم تعودا قادرتين على أداء الوظائف التي كانتا تؤديانها، إذ دخل لاعبون كثر ودخلت وسائل أخرى جديدة ممن تصنع الشخصية من الإعلام إلى العالم الإلكتروني والمعلوماتي وغيره.
ولاشك أن تحديات قد واجهت الأسرة والمدرسة في القرن العشرين ومنها الإذاعة التي شكلت متغيراً في بناء الثقافة والهوية، ونذكر هنا دور الإذاعات في خمسينيات وستينيات القرن الماضي في تحريك الجماهير والتأثير في مواقفها وسلوكها، ثم جاء بعد ذلك التلفزيون في الستينيات، وجاءت أشرطة الكاسيت، وكلنا يذكر كيف استخدمت في قيام الثورة الإيرانية عام 1979، وهذه كلها وسائل دخلت في مجال التنشئة الثقافية في مجتمعاتنا، ولكنها لم تستطع أن تشل قدرة المدرسة والأسرة في بناء الجيل والتنشئة الثقافية ووظيفتهما التقليدية، والسبب الذي يقف وراء ذلك هو أنه كان يمكن التحكم بهذه الوسائل في إطار الدولة الوطنية، فكان بالإمكان التشويش على الإذاعات وكذلك التلفاز والبث ما جعل تأثير هذه الوسائل محدوداً، ويمكن التحكم به ولكن الإعلام العولمي لم يعد يستأذن أحداً أو بإمكان أحد تقييده والحد من سطوته، أو لنقل سلطته لا سيادة ولا سلطة ولا أسرة، فسقطت كل الأسوار الحمائية، فأصبح المواطن عارياً أمام هذه الآلة الجهنمية، تصنعه وتصوغه كما تشاء، وأضحى العالم كله أمام متغير خطير جداً ويزداد خطورة مع تهافتنا وإصرارنا حكاماً ومحكومين على تجاهل هذا الاستنقاع التعليمي في بلداننا، وحتى الأسرة باتت مسؤولة، فلم يعد رب الأسرة وربة الأسرة تعطي من وقتها الكثير لتربية الأطفال، وبالمقابل كم يقضي الطفل من الوقت أمام التلفزيون؟ وكم يقضي أمام أبيه وأمه؟ ومع الأسف لم يشعر الآباء والأمهات كم أهملوا في تربية أطفالهم، ولكن بعد أن تكون قد وقعت الواقعة؟ والآن كم يختلف النظام الثقافي العولمي اليوم عن سابقه من أنظمة ثقافية؟
إنه اختلاف في المادة الثقافية التي يشتغل بها ويعرضها، فثقافة العولمة هي ثقافة الصورة أو ثقافة ما بعد المكتوب، فهي ثقافة لم تعد تتوسل المادة المكتوبة، وإنما استخدام وتوظيف تكنولوجيا الصورة لإنتاج خطاب عابر لحدود اللغات والثقافات والقوميات، أي من أجل عولمة القيم الثقافية هذه، أي نقل الصورة بوصفها رسالة ثقافية، لأن الصورة خطاب بصري أولاً، وهو قادر على حمل رسائل ثقافية وقيم اجتماعية من دون محاكمة أو مصاحبة لغوية، وهنا تغلب على الحاجز اللغوي، بما في ذلك الترجمة الفورية للمادة البصرية المعروضة، فالصورة تستغني عن أي حامل لها غيرها، كي تبلغ المتلقي ما يجب تبليغه وما قد تعجز المادة المكتوبة نفسها عن تبليغه، وإلى هذه الحقيقة انتبه مفكرون وفلاسفة كثر في الغرب، وحتى قبل العولمة، فاستحدثوا ضمن هواجس تحليل الخطاب الثقافي والنص الأيديولوجي، واستدخلوا الإنتاج السينمائي والتلفزيوني، بل إنه قام في الفكر الفلسفي في العقود الأخيرة، وفي أشكال فلسفة التواصل فلسفة خاصة سميت فلسفة الصورة، حيث أثبتت الصورة أهميتها في مجال التواصل، ومن الآثار التي أحدثتها في وعي المتلقي ودور الجهاز الإعلامي في تحقيق الهيمنة، وخاصة الهيمنة الأيديولوجية، فالصورة نص مكتمل في ذاته، فهي أيضاً أشد جاذبية للانتباه من غيرها، بما تنطوي عليه من مشهدية تستجلب الفرجة، وتستدرج مشاهدها إلى الانغمار في العالم الذي ترسمه وتؤسس أحداثه، وتستفيد في هذا المعرض من كل ما توفره السينما من إمكانية الخداع، وما وفره الإنتاج التلفزيوني من إمكانيات تقنية، وبما حققته هندسة الصورة من تحكم في تحقيق النجاح، وهكذا إنه كلما تمتعت المادة البصرية بمقدار من التشويق الكبير ارتفع معدل الجاذبية والإغراء فيها، وبالتالي ارتفعت عائدات عملها، ولكن ثورة الصورة أتت تدميرية أيضاً في جوانب كثيرة من استخداماتها، سواء الإعلامية أو الإلكترونية، فدمرت قيماً إنسانية نبيلة، ضحت الإنسانية كثيراً من أجل بلوغها مثل السلام والتسامح وكرامة الإنسان وآدميته، فباتت مناظر من قتل حي وذبح والتهام القلوب والأكباد وتعذيب وقتل باتت مشاهد مألوفة، وخاصة على شبكة الإنترنت، وكأنها أمر واقع، ونالت من حرمة الطفولة، فمشاهد تجنيد الأحداث في الميلشيات والحروب ورمي الأسرى بالرصاص، وهذه كلها نشاهده في التلفزيونات ومشاهد القتلى من المدنيين في الحروب الأهلية والمدنيين من كبار السن، وانتهكت حرمة المرأة بنقل مشاهد العنف الاجتماعي ضدها أو إيذاء كرامتها في سوق العمل الجنسي، إضافة إلى استضافة محاورين هجائيين مبتذلين في برامج تسيء للحوار ذاته وابتذال المعنى وشك الجميع بالجميع.
وهكذا لم تترك ثورة الصورة شيئاً كريهاً قبيحاً مبتذلاً في يوميات المجتمع والناس إلا وسلطت عليه الضوء عارياً من أي ستر، وجرى ذلك كله تحت عنوان الحياد الإعلامي ونقل الواقع إلى الناس، وهذا يدل على ثقافة التدمير التي تقوم بها الصورة في زمن العولمة، لإعادة تشكيل الذوق العام ومنظومات الأخلاق في العالم وفق مصالح قوى العولمة الكبرى ووفقاً لنموذجها الحياتي منظوراً إليه من قبلها بما هو النموذج الكوني والمرجعي الوحيد الذي يجب أن ينسج على منواله، واستطرقت ذلك بهدف عولمة وتوطين ثقافة الاستهلاك وتكريس مفاهيم النفعية والوصولية وازدراء الأخلاق والمبادئ وتبجيل التمرد على منظومات القيم من باب حسبانه نشداناً للحرية والفردانية، على أن واحدة من أخطر النتائج التربوية والثقافية التي تستجرها ثقافة الصورة وهي إفقار الوعي وتسطيحه وتنميطه وأقنمته أي تحويله إلى أقنوم، وبيان ذلك أن الصورة إذ تشد الانتباه وتحتكره، فتصرف متلقيها عن محيطه، وتقدم له كل شيء جاهزاً أو معلباً في روايتها وما ترويه سواء كان خبراً عن حادث أم سرداً مشهدياً أو معطى افتراضياً، أو ما شاكل ذلك، إنها لا تدعه يفكر نتيجة الزحف الكثير والمكثف للصور ولا تدعه يقيم مع الصورة المسافة النقدية الضرورية للإدراك المتحرر من النص المرسل، بل هي تعطل وتشل عملية التفكير من خلال تعطيل حاسة النقد أو حتى مجرد التساؤل لذلك، فإن سطوة الصورة تنزع عن المتلقي أي ملمح إبداعي، فهي تقوم مقام خياله في بناء الحوادث وحبكة الصلات بينها، وهي تمسك بخيوط الرواية البصرية إلى النهايات كما في أي نص روائي أو سينمائي، كلمة تشل ملكاته الإدراكية والتخيلية كافة، وتستبلهه الاستبلاه الكامل الذي يأخذه إلى الاستسلام الكامل أمام المعطى البصري، والحال كما وصفنا فإننا لا نبالغ إن قلنا إن ثقافة الصورة وهي ثقافة العولمة تضمر قدراً من العنف غير معروف، ولكنه محسوس بما يخلفه من نتائج نفسية وثقافية في المتلقي، إن عنف الصورة هو في عداد العنف الرمزي، وبعبارة أخرى شكل من أشكال العنف الأيديولوجي.
هذا المفهوم مفهوم الأمن الثقافي يتحصل مشروعيته من هذا المشهد العام الذي تمت الإشارة إليه، ومن استباحة النظام القيمي العالمي، ومن المجتمعات التي لا تمتلك إمكانية الدفاع عن ذاتها الثقافية وتحصين هويتها في وجه التبديد والمسخ، ولخطورة ذلك على المجتمعات حتى المتقدمة اشترط رئيس فرنسا الأسبق فرانسوا ميتران ألا تدخل قضايا الثقافة في اتفاقية الغات التي كانت قائمة قبل اتفاقية التجارة العالمية.
إن الدفاع عن الأمن الثقافي لا يعني أن نعيش في جزيرة مهجورة أو الانكفاء على الذات والنكوص نحو الماضي، فالهوية تغتني وتتطور وليست جامدة، وتنمو في التاريخ كأي كائن حي، ولذلك حينما نقول الأمن الثقافي فإننا لا نعني التشرنق على الذات أو الانكفاء والنكوص ورفض الآخر أو رفض التثاقف، ولكن لابد من استقلال ذاتي للثقافة الوطنية، فبغير ذلك يكون محكوماً عليها بالذوبان والموت، فالاستقلال الثقافي كالاستقلال السياسي والاقتصادي، فهو دعوة لتحقيق الكفاية الذاتية بدايةً، ثم تنطلق بعد ذلك للعلاقة بالعالم.
سيرياهوم نيوز 6 – الثورة