د.سومر منير صالح :
شكّل السؤال التاريخي لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟، جوهر النقاشات والأطروحات المعرفية على مدى قرنين ونيف من الزمن، وأُشبع إجاباتٍ لم تجد صدىً على أرض الواقع، نُعيد معه طرح السؤال، ولكن في وجهه الآخر، هل فقدنا فرصة اللحاق بالآخر المتقدم عنا معرفياً؟، ودخلنا مرحلة الفوات التاريخيّ، والتي قد تودي بنا إلى هوةٍ حضاريةٍ، أم ما زال بالإمكان تقليص هذه الفجوة مع الآخر؟!، والحقيقة أنّ الجواب يكمن في مدى وعينا للحاجة الموضوعية لإدراك تأخرنا التاريخيّ وخطورته على مستقبلنا..
بدايةً، لم يعرف العرب الحداثة إلّا من خلال الاحتكاك العسكريّ مع الغرب، إبان حملة نابليون العسكرية على المنطقة العربية (1798)م، فبينما كان الغرب قد تجاوز العصور الوسطى بمفهوميها الزمنيّ والمعرفيّ، داخلاً في فلسفة الأنوار، كانت المجتمعات العربية مازالت ترزح تحت الاحتلال العثمانيّ للمنطقة العربية، في ظلّ سياسات التجهيل والتتريك، في مرحلة تشبه العصور الوسطى الأوروبية من ناحية المعارف والوعيّ..، ومع الاحتكاك العربي الأول بالحملة الاستعمارية الفرنسية بدا جلياً الفارق الحضاريّ بين حال العرب وحال الغرب، مع ظهور الطابعات والآلات الميكانيكة، والمحرك البخاري، بدت الهوة واسعةً من الناحية المعرفية، وبينما كان الوعيّ السائد في الثقافة العربية السائدة آنذاك هو كون المجتمعات العربية (خير أمةٍ أخرجت للناس)، ضعفت هذه المقولة أمام حركة التاريخ الظاهر آنذاك، لتكون لحظة الاحتكاك تلك، لحظةً زمنيةً تاريخيةً تؤسس لوعيٍّ جديدٍ في الثقافة العربية، وبدأت محاولات جدية لردم الفجوة المعرفية، وبدأت مرحلة ما اصطلح عليها النهضة العربية، مؤسسةً لسياق حداثةٍ عربيّ..نابعٌ من جرحٍ نرجسيٍّ أصاب الذات العربية، انثروبولجيٌ حضاريُّ بطبيعته…
طبعاً لا مجال للمقارنة بيين التجربتين العربية والأوروبية في مجال الحداثة، فالحداثة عند الغرب الأوروبيّ هيّ نتيجةٌ لسيروراتٍ وتجارب معرفيةٍ وسياسيةٍ وفلسفيةٍ، وتعبيرٌ عن حاجاتٍ موضوعيةٍ أوروبية أفرزتها الصراعات الطبقية والحروب الدينية وتطور المعارف التطبيقية، بخلاف التجربة العربية التي اكتشفت حاجتها للحداثة من خلال الاحتكاك المباشر بالحداثة الأوربية، ونظراً لأنّ هذا الاحتكاك كان بصبغةٍ صراعيةٍ واحتكاكٌ عسكريّ ودوافع عدوانيةٌ أوربية، نشأ مشروع النهضة العربية كردّ فعل ٍعلى الحداثة الغربية، وأصبح التعامل بينهما أيديولوجياً، بمعنى أنّ المشروع النهضويّ العربيّ كان ردّة فعلٍ أيديولوجيةٍ على مشروع الحداثة الغربيٍّ، والعودة إلى التراث وتوظيفه في هذا الصراع أصبح أيديولوجياً، وهذا ما ساهم لاحقاً في نشوء العقليات الدوجمائية التي ترفض المساس بالتراث او إعادة قرائته أو فهمه بشكلٍ معاصرٍ، باعتباره مسّاً في وجودها، الذي يقوم على معاداة الآخر، ومع جرحٍ نرجسيٍّ عربيٍّ نتيجة الإحساس بالفارق المعرفيّ مع الآخر، ونشوء النمط الدوجمائيّ التراثيّ من جهةٍ مكملة، بدأت إرهاصات أزمة العقل العربي المعاصر بالتشكل والظهور، متجليةً بأزمة الوعيّ في هذا العقل، والذي نقتبس في مقالنا هذا تعريف الدكتور محمد عابد الجابري حول بنيته، فالعقل العربي لديه هو (التفكير ضمن البيئة الثقافية العربية)، أيّ (مرجعية التفكير عربية من الناحية الثقافية والاجتماعية)، وهذا يعيدنا إلى نقاش موضوع الثقافة العربية، فأيّ خللٍ في العقل العربيّ هو خللٌ إمّا بالبيئة الثقافية/ الاجتماعية المحيطة بالعقل، أو هو خللٌ بأدوات التفكير وتحديداً طرق المعالجة، وعليه فإنّ الخلل العقليّ هو خلل في الوعيّ، والوعيّ هو الإدراك عقلياً كان أم حسياً، وهو ماهية الفكر العاقلة عند ديكارت (أنا أفكر إذا أنا موجود)، بينما يمثل الوعيّ بالذات عند كانط منطلق أساس الهوية الشخصية.
ورغم صعوبة القياس وضبط المعايير والاختلاف على معاني الحضارة، التقدم، التخلف..، فلا يختلف اثنان على تقدم الغرب وتأخر العرب على الأقل معرفياً، وينعكس ذلك جليّاً في ميادين الاقتصاد والرقمنة والسياسة والمجتمع..، وقلنا تأخر ولم نقل تخلف لأنّ الفارق لا يكمن في القدرة العقلية ولا البنية الثقافية وتاريخها ومخزونها، بل يكمن في العقلية التي أنتجت التأخر، والتخلف هو موقفٌ مسبقٌ على عدم القدرة على اللحاق بالحضارة، وهو موقفٌ أيديولوجيٌّ يتضمن القياس بآخرٍ مختلف عنه، بخلاف التأخر التاريخيّ الذي يفترض الطفرة التاريخية وإمكانية اللحاق بالآخر كما عبّر عنها عبداله العروي وكذا الأمر، لا نجد أنّ من يطرح فكرة تراجع الحضارة العربية هو صائبٌ في طرحه، لأنّه موقف أيديولوجيّ تاريخيّ بدايةً، وخطابٌ وجدانيّ ثانياً، وحالةٌ نرجسيةٌ ثقافيةٌ ثالثاً، لا تستند إلى مبررٍ إلا منطق التبرير والبعد عن الواقعية الذي يُعدّ باعتقادنا أولى حلقات التأخر المفرغة التي تعيد إنتاج التأخر في كلّ عصر ومرحلة، والعقلية كما أسلفنا هيّ وليدة
البيئتين الثقافية والاجتماعية، ومفهوم التأخر التاريخيّ كان حاضراً في رؤية ابن خلدون دون أن يحضر مصطلحياً، ومثّل جوهر رؤية عبدالله العروي الذي أعطى المفهوم رؤيةً واقعيةً ملموسةً وعمقاً فلسفياً، ليصبح مع ياسين الحافظ الذي استقى المفهوم من العروي أكثر وضوحاً في الطرح، فالتأخر التاريخيّ عند العروي هو (التسليم بوجود مرحلةٍ تاريخيةٍ متقدمةٍ لم يبلغها المجتمع المتأخر، وانتظام التاريخ على مقتضى وحدة مساره، واستواء التاريخ على مسار واحدٍ وبُعد واحد، ثم الإقرار بإمكانية الطفرة في التاريخ)، والتأخر لدى العروي هو تأخرٌ في العقلية الجمعية للمجتمع، وتتجلى بمظاهر اجتماعيةٍ وسياسيةٍ وأنماط تفكير في المجتمع، بينما اتجه ياسين الحافظ الى إعطاء مفهوم التأخر التاريخيّ بُعداً واقعياً محسوساً، تجسّد بـ( الاعتقاد اليقيني الراسخ بأنّ مشكلات المجتمع العربيّ ليست نابعةً من بُناه، بل من خارجٍ معادٍ ومعتد، والتحرر يكون فقط بالابتعاد عن ثقافته)..
وبشكلٍ متصل مع ما سبق نرى أنّ مفهوم التأخر التاريخيّ هو عجز المجتمعات عن إنتاج المعرفة المعاصرة، أو مواكبتها، أو استثمارها في خدمة المجتمع، وبالسّوية ذاتها هو تأخر في إدراك قيمة الإنسان المجردة، وبالتالي فإنّ المفهوم غير مرتبط بالبعدين الزمنيّ أو المكانيّ، وغير مرتبطٍ بمعيار وجود آخرٍ (حضارة أخرى) لأنّه يتخذ معه وضعية المفهوم الأيديولوجيّ، وتأسيساً على ما سبق، تكمن أزمة الوعي بالتأخر التاريخيّ بعدم إدراك مدى التأخر التاريخي وموضوعه ودلالاته ونتائجه، وتتجسد بالتضاد السلفيّ – الحداثيّ، بين تيارين أحدها يريد تجاوز التأخر التاريخي بالعودة نحو الماضي، وتيار يريد عبور التأخر التاريخي بالبحث عن تجريةٍ حداثيةٍ يحاول تنزيلها في بنى الثقافة العربية، بتجارب مختلفة، بينما الأصل في تجاوز التأخر التاريخيّ هو الأداة الثقافية العربية، بما تمتلكه من مخزونٍ معرفيٍّ وتجربةٍ تاريخية، ومعاناةٍ معاصرة، وإدراك أنّ مسألة تأخرنا التاريخيّ ليست مسألة وقتٍ وليست مسألة سباقٍ مع آخر، بل هي مسألة إرادة في تجاوز موانع مواكبة الحضارة، وفي مقدمها إطلاق العنان للعقل الإبداعيّ، القادر على وصل التراث بالمستقبل، بما يؤمن استمرارية السيرورة الثقافية، التي تمنع مستقبلاً حصول تأخر جديد، فالثقافة ثلاثة مكونات (تعبيرية، قيمية، وابداعية)، وفي ثقافتنا المعاصرة أهملنا الإبداعية المعرفية منها على حساب التعبيرية، لربما في التعبير المرمز يهرب الإبداع من الخوف الذي يكبله.
(سيرياهوم نيوز-الثورة)