وليد شرارة
للمرة الأولى منذ عقود، تحدّث بعض المسؤولين العرب والمسلمين، من «أصدقاء» للولايات المتحدة عن «مشروع إسرائيلي للهيمنة على المنطقة العربية». حصل ذلك في أثناء انعقاد القمّة العربية الإسلامية في الدوحة المخصّصة للبحث في سبل الردّ على العدوان الإسرائيلي على قطر.
منذ أن بدأت حرب الإبادة التي يشنّها الكيان الصهيوني ضدّ غزة، وتمدّد عدوانه باتجاه لبنان وسوريا واليمن وإيران، لم يتوقّف قادته ومسؤولوه وكبار خبرائه عن التأكيد بأنهم باشروا في وضع برنامجهم لتغيير الشرق الأوسط موضع التطبيق. عاموس يدلين، الرئيس الأسبق للاستخبارات العسكرية الصهيونية، كان الأوضح تعبيراً عندما اختار لمقاله المنشور في «فورين أفيرز» في بداية هذا العام العنوان التالي: «نظام شرق أوسطي إسرائيلي».
لكنّ النظام الرسمي العربي، بأطرافه كافة، اختار تجاهل المواقف الإسرائيلية المكرّرة رغم صراحتها الفجّة. يعود ذلك، على أغلب الظنّ، إلى قناعة راسخة لدى هذه الأطراف بأنّ الولايات المتحدة ستتولّى كبح جماح حكومة نتنياهو «المتطرّفة» ومنعها من الإضرار بمصالح «أصدقاء» الأولى من العرب والمسلمين.
السؤال الذي من المفترض أن يشغل بال هؤلاء هو: لماذا لم تفعل واشنطن؟ حماية دول الخليج، المصنّف «منطقة مصالح أميركية حيوية» منذ سبعينيات القرن الماضي في جميع التقارير والوثائق الأميركية الرسمية، كان بين الثوابت المعلنة لإستراتيجية واشنطن التي حرصت جميع الإدارات المتعاقبة للإمبراطورية المتداعية على التذكير بها. ما الذي تغيّر اليوم؟
زمن الابتزاز الأميركي الفجّ للحلفاء
لم تتورّع الولايات المتحدة كقوة إمبريالية، حتى في أوج هيمنتها، عن ممارسة أشكال متنوّعة من الابتزاز والضغط بحقّ حلفائها لإلزامهم بأولويات إستراتيجيتها العامة، الدولية والإقليمية، بعد عمليات 11 أيلول، لجأت واشنطن إلى سياسة «الابتزاز الديموقراطي» بحقّ حلفائها من «المعتدلين العرب» لتفرض عليهم الانقياد الكامل خلف أجندتها في الإقليم التي صاغها المحافظون الجدد والهادفة إلى إسقاط الأنظمة المعادية وتصفية قوى المقاومة وتثبيت منظومة سيطرة أميركية-إسرائيلية عليه.
حمّلت واشنطن مسؤولية نمو ظواهر كـ«القاعدة» إلى الطبيعة الاستبدادية للأنظمة الحليفة وللفساد المستشري في داخلها، وطُرح تغييرها كأحد الخيارات الممكنة من قبل مراكز دراسات وباحثين محسوبين على إدارة بوش الابن.
أحد الأمثلة على ذلك، محاضرة لوران مورافييك، الباحث الفرنسي في مؤسسة «راند» والمحافظ الجديد، في المؤسسة المذكورة، الـ10 من تموز 2002، والتي دعا فيها إلى تقسيم السعودية إلى عدّة دول، بسبب مشاركة مواطنين منها في عمليات نيويورك وواشنطن. حملة شعواء شنّت آنذاك على السعودية وعلى مصر من قبل باحثين وخبراء ووسائل إعلام، اندرجت في إطار إستراتيجية ابتزاز قادتها إدارة بوش الابن من خلف الستار، لحمل البلدين على الإذعان الكامل للأجندة الإقليمية الأميركية، وهو ما تمّ إلى حدّ بعيد في تلك المدّة.
هناك أمثلة كثيرة أخرى عن الابتزاز الأميركي للحلفاء، كذلك الذي تعرّضت له فرنسا نتيجة معارضتها للحرب على العراق في 2003، عبر تلويح واشنطن بمعاقبة باريس اقتصادياً وتجارياً وسياسياً، ما حمل الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلى المباشرة بتغيير توجّهاته بالنسبة إلى الشرق الأوسط بعد بضعة أشهر.
الابتزاز الأميركي كان يمارس عبر التهديد المبطّن والتلويح والتلميح بالعواقب الوخيمة، ولكن ليس بالفجاجة والجموح اللذين يميّزانه في ظلّ إدارة ترامب. تراجع هيمنة واشنطن، والانتكاسات في مواجهاتها مع المنافسين الإستراتيجيين في موسكو وبكين، تحملانها على التعامل بفظاظة غير مسبوقة مع الحلفاء لدرجة قد تودي بمبدأ التحالف نفسه. آخر الأمثلة على هذا الأمر هو الإنذار الموجّه من ترامب لحلفائه الأوروبيين بضرورة زيادة رسومهم الجمركية على السلع الصينية بين 50 و100%، تحت طائل عدم فرضه لعقوبات جديدة على روسيا إن لم يستجيبوا لإملاءاته. يرقى هذا الموقف، بالنسبة إلى الحلفاء الأوروبيين المذعورين من تحوّل موازين القوى في أوكرانيا لصالح روسيا، إلى تهديد واشنطن لهم تركهم بمفردهم في مواجهتها.
عندما يسمح الرئيس الأميركي الأخرق لإسرائيل بالاعتداء على قطر، هو يهدف لتوجيه رسالتين لبلدان المنطقة الحليفة في الآن نفسه: أولاً، يحقّ لإسرائيل أن تفعل ما تشاء لضرب خصومها وما عليكم سوى التعاون معها إن أردتم «تجنّب غضبها». وثانياً، دول المنطقة، وخاصة الخليج، إن أرادت استمرار الحماية الأميركية، بما فيها من التطرّف الإسرائيلي، عليها التسليم تماماً بالأجندة الإستراتيجية لواشنطن حيال بكين وموسكو، وفسخ شراكاتها الاقتصادية والتكنولوجية وحتى العسكرية معها، ووقف التطبيع مع إيران. غياب ردّ فعل حازم من قبل دول المنطقة الصديقة لواشنطن سيعني تكرار الاعتداءات بأشكال وأساليب متعدّدة.
صلة الرحم قبل التحالفات
المدخل الصحيح لتحليل السياسة الأميركية الراهنة في منطقتنا وفي مناطق أخرى من العالم هي إدراك واقع موازين القوى الفعلية بينها وبين منافسيها الدوليين. الانتصار في مثل هذه المنافسة/المجابهة هو الأولوية الأولى لجميع الإدارات المتعاقبة منذ عهد أوباما الثاني، مروراً بعهدَي ترامب الأول وبايدن، وصولاً إلى عهد ترامب الثاني. يتطلّب هذا الانتصار رصّ صفوف «الحلفاء» خلف الولايات المتحدة وإجبارهم على التضحية بجزء من مصالحهم المشتركة مع المنافسين الإستراتيجيين، كعلاقات الدول الأوروبية مع الصين، أو دول الخليج مع روسيا والصين، حتى تستمرّ الحماية والرعاية الأميركية لهم.
سعي العديد من بلدان الجنوب، ومنها بلدان عربية وإسلامية، لاعتماد سياسات التحوّط (Hedging)، أي تنويع الشراكات لعدم البقاء أسرى لعلاقة تبعيّة كاملة لقوّة عظمى وحيدة، هو أمر لم تقبله واشنطن يوماً وكانت تتحيّن الفرص للتصدّي له وإفشاله.
في مثل هذا السياق، وفي منطقتنا، تعود إسرائيل، باعتبارها الحليف العضوي الثابت والمضمون للولايات المتحدة التي تجمعه بها صلة رحم تقوم على التماهي الثقافي-الأيديولوجي الكامل بين النخب الحاكمة في الدولتين، إلى أداء وظيفتها كعصا غليظة أو كلب مسعور لتطويع جميع دول المنطقة، المعادية منها والصديقة. وهي ماضية في غيّها طالما أنها لم تدفع الأكلاف البشرية والمادية التي تحملها على التراجع عنه.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار
syriahomenews أخبار سورية الوطن
