| عبد المنعم علي عيسى
جرت مياه كثيرة ما بين شهر تموز الماضي الذي شهد انعقاد الجولة 18 من مسار «أستانا» في طهران وشهر تشرين الثاني الجاري الذي شهد انعقاد الجولة 19 من المسار آنف الذكر في العاصمة الكازخستانية، والشاهد هو أن قوة فعل الجريان كانت وحدها كافية لتبرير هذا الانقلاب الحاصل فيما بين مخرجات الجولتين اللتين لم تباعد بينهما سوى شهور أربعة، وفي غضونها كانت أنقرة قد أضحت «الوكيل» الحصري للغاز الروسي الذي يراد إيصاله للقارة الأوروبية التي تبدي حالاً من التعب والترهل باتت ظاهرة على مفاصل حركتها بوضوح، و«وكيلاً» أيضاً لتوريدات القمح الأوكراني، التي بدا أن توقفها عن السيلان أمر قد يفاقم من أزمة الغذاء العالمية في الوقت الذي تشهد فيه هذه الأخيرة منعرجات تهدد الكثير ثم الكثير، وعليه فقد أضحى الروس في حاجة لنظام أردوغان في أوكرانيا بدرجة أكبر من تلك القائمة في سورية، الأمر الذي يفسر خفوت اللهجة التي تعاطت بها موسكو تجاه العربدة التركية في شمال وشمال شرق سورية القائمة راهناً، عن تلك التي شهدتها قمة طهران التي انعقدت أيضاً في ظل تهديدات تركية راحت تعمل على توسعة طرقاتها إفساحاً لها لتحقيق مآرب قديمة لا يبدو أن أنقرة تفكر في التخلي عنها، وجل ما تقوم به هو ممارسة الانتظار لحين تغير المعطيات، ويفسر أيضاً خفوت اللهجة الإيرانية التي كانت حازمة في شهر تموز الماضي تجاه أي عمل عسكري يمكن لأنقرة أن تذهب إليه على امتداد حدودها القائمة مع دمشق، والفعل الأخير، أي خفوت اللهجة الإيرانية، كان قد جاء بالتأكيد جراء يقين إيراني بأن قيادات «جبال قنديل» في شمال العراق قد قررت مد مشروعها إلى الجغرافيا الإيرانية بعد أن فعلت مع نظائرها العراقية والسورية على التوالي، واليقين يأتي هنا عند طهران من تتبع الخيط الواصل بين «لهيب النار» المندلع في بعض المناطق الإيرانية و«الخزانات» التي تمدها بأسباب الاضطرام والديمومة تلك القابعة في «جبال قنديل».
قد يكون البيان الصادر ما بعد جولة أستانا الأخيرة تقليدياً تجاه المفردات المستخدمة والتي لم تخرج عن سابقاتها المألوفة، لكن «النجاح» التركي ظهر واضحاً من خلال التذكير بـ«تعهد الأطراف الثلاثة بمقاومة الخطط الانفصالية التي تهدف لتقويض سيادة سورية ووحدة أراضيها، وتهدد الأمن القومي للدول المجاورة بأمور عدة مثل الهجمات العابرة للحدود واختراقها»، والمؤكد هو أن التركيز السابق كان من النوع الذي يمكن البناء عليه تركياً لتصعيد العمليات التي كانت أنقرة قد بدأتها عملياً منذ تفجير اسطنبول الذي سبق «أستانا» بنحو أسبوع عبر إعلانها عن إطلاق عملية «المخلب السيف» ليل السبت 19 تشرين الثاني الجاري.
بدورها واشنطن التي تنظر إلى نظام أردوغان، وحزبه والإيديولوجيات التي يقوم عليها، على أنه «لا يناسب» نظرتها في المشاريع التي تتبناها للمنطقة، لا تبدو أنها قادرة على «إغضابه» انطلاقاً من حالة الاحتياج لذلك النظام القادر على تعطيل كل شيء في سورية، بدءاً من الاستقرار وانتهاء بمسار عربة التسوية التي ثبت أن مسار «أستانا» ليس بقادر، وحده، على حملها إلى المحطة الأخيرة، وهو سيكون فاعلاً أكثر فيما لو اعتُمد مع تفاهمات أخرى مع قوى فاعلة على الأرض، لكنه يضع نفسه في مدارات تناحرية معها بدلاً من السعي إلى إيجاد تقاطعات معها عند منتصف الطريق أو باتجاه يميل نحو هذا النصف أو ذاك.
الآن، يبدو أن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن أنقرة ستشن عملية عسكرية واسعة يكون هدفها هذه المرة ليس إبعاد ميليشيا «قسد» فحسب عن الحدود التركية، وإنما تفكيك هذه الأخيرة تماما ومن ورائها حزب «الاتحاد الديمقراطي» الذي يمثل الطبعة السورية من «حزب العمال الكردستاني»، ومما يشير إلى ترجيح سيناريو كهذا هو أن القصف التركي، البادئ بقوة منذ نحو أسبوع، كان قد طال مناطق في شمال دير الزور وهي تبعد عن الحدود مسافة تزيد على 200 كم في سابقة لم تشهدها العمليات التركية الأربع السابقة، والمؤكد هو أن أنقرة تجد نفسها أمام لحظة دولية حرجة لكنها تتيح لها تنفيذ ذلك السيناريو وخصوصاً إذا ما كان الفعل سريعاً وخاطفاً قبيل أن تتغير الظروف ومعها المعطيات، وعليه فإن مناطق شمال حلب وشرق الفرات ستكون في غضون الأيام المقبلة على موعد مع تطورات خطرة يبدو من خلالها أن «قسد» قد استنفدت فرصها الضائعة، ولم تعد أساليب المناورة تجدي فالظروف تغيرت والمستجدات تفرض «استحقاقاً» يبدو أن أوانه قد حان، فالأميركيون يبدو أنهم مستعدون لتقديم رأس «قسد» قرباناً للمعارضة التركية إذا ما كان الفعل من النوع الخادم لها في سياق ترجيح كفتها في انتخابات حزيران من العام المقبل.
لم يفهم «القسديون» حسابات الدول، ولا يبدو أنهم مستوعبون تماماً للتاريخ الغربي في تعاطيه مع المنطقة، وإلا كيف يمكن لنا أن نفسر ما قاله مظلوم عبدي، متزعم «قسد»، عندما لحظ أن لهيب النار مختلف هذه المرة عن سابقاته، محاولاً تذكير الرئيس الأميركي جو بايدن بقوله «لن أخون الكرد كما فعل ترامب»، وكأن السياسة تبنى على الوعود والتذكير بها، أم حتى على التوافقات والاتفاقات، والتصريح كاف للقول إن صاحبه لا يبدو مدركاً لحقيقة أن هذه الأخيرة تبقى قائمة فقط في ظل توازنات معينة وفي ظل ظروف محددة، ماذا كان يعني بيان جنيف 30 حزيران 2012 يوم 30 أيلول 2015؟ وبدائرة أوسع، ماذا كانت تعني «يالطا 1945»، التي عاش العالم كله في ظلها مدة تزيد على أربعة عقود، يوم 31 كانون الأول 1991؟
سيرياهوم نيوز3 – الوطن