| عماد الدين رائف
ما الدافع وراء إحراق الكُتّاب لمخطوطاتهم؟ هل هو الخوف من الاضطهاد فقط؟ وهل إعادة إنتاج الكاتب النص نفسه، بناء على الذاكرة، يعني أن النصّ نجا؟
قبل 7 سنوات، وتحت عنوان “تاريخ موجز للإبادة” على صفحات “ليتيراري هاب”، فتحت الكاتبة الأميركية إميلي تمبل العيون على فداحة خسارة نصوص الكتّاب الكبار، متنبّئة بأننا نسير نحو خسارة المكتبة الرقمية برمتها وصولاً إلى الانهيار الكبير، في زمن لم يعد من المتخيل أن تحترق المخطوطات الورقية.
تناولت تمبل في مقالتها “10 حكايات عن مخطوطات محترقة، وعن بعضها الذي نجا”، أعمال كتّاب من الغرب، وصدّرتها بعبارة ميخائيل بولغاكوف الشهيرة، التي ترد على لسان فولاند في “المعلم ومارغريتا”: “المخطوطات لا تحترق”، ولم تغفل عن أن بولغاكوف نفسه أحرق مخطوطاته.
المخطوطات تحترق
أحرق صاحب مقولة “المخطوطات لا تحترق” مسودة “المعلم ومارغريتا”، ورواية “مذكرات رجل ميت”، ومجلدين من “الحرس الأبيض”، ودفاتر مذكراته الشخصية مساء 18 آذار/ مارس 1930.
ظُهر ذلك اليوم، علم الكاتب أن “اللجنة المرجعية الرئيسة” منعت مسرحيته المأسوية الجديدة حول موليير من العرض، إذ عدّ المسؤولون أن بولغاكوف كان يرسم تشابهاً بين استبداد النظام القيصري والاشتراكية.
كانت هذه المسرحية أمله الوحيد في تحسين شؤونه المالية، إذ إنه لم يعمل منذ 1929 وبقي بلا دخل. في رسالة إلى “حكومة الاتحاد السوفياتي” في 28 آذار/ مارس 1930، كتب بولغاكوف: “لم تمت أعمالي السابقة فقط، بل أعمالي الحالية وجميع الأعمال المستقبلية أيضاً. وشخصياً، رميت في الموقد مسودة رواية عن الشيطان، ومشروع كوميديا وبداية رواية ثانية”.
نجا من نار الموقد دفتران بخط يده من رواية “المعلم ومرغريتا”، وبناءً عليهما، بدأ بولغاكوف في استعادة النص سنة 1932. كما حاول الكاتب استعادة رواية “مذكرات رجل ميت” من ذاكرته عام 1936، لكن هذا العمل لم يكتمل.
لم يتوقف إحراق المخطوطات على بولغاكوف بطبيعة الحال، فقد سبقه ألكسندر بوشكين، وفيودور دويستويفسكي، وزامنه بوريس بوستيرناك وآنا أخماتوفا، وآخرون؛ وربما يُعدّ الجزء الثاني من “النفوس الميتة” لنيقولاي غوغول أحد أشهر المخطوطات التي لم تصل إلى القراء.
أما “المعجزة” في استعادة مخطوط احترق فكانت مع الشاعرة آنا أخماتوفا، التي عمدت منذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي إلى إحراق ما كتبته خوفاً من التفتيش والاعتقال.
في العام 1934، شرعت في نظم قصيدة “قداس”، عن مشاعر زوجات وأمهات “أعداء الشعب” (لقب أطلقته السلطات السوفياتية على المناوئين للنظام). لكن، قبل صدور هذه القصيدة مطبوعة عام 1963، كانت موجودة شفهياً فقط، فقد عرفها أصدقاؤها المقربون وحفظوها عن ظهر قلب، وكان ذلك سبب نجاتها.
فما الدافع وراء إحراق المخطوطات، هل كان الخوف من الاضطهاد فقط؟ وهل إعادة إنتاج الكاتب النص نفسه، بناء على الذاكرة، يعني أن النصّ نجا؟ سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة، عبر مناقشة جانب مما أوردته الباحثة في تاريخ الأدب الروسي، يليزافيتا لاموفا، تحت عنوان “المخطوطات تحترق: الكتّاب الذين أحرقوا أعمالهم”، في موقع “كولتورا”، التابع لوزارة الثقافة الروسية.
ألكسندر بوشكين
“أحرقتُ الأغنية العاشرة في 19 تشرين الأول/ أكتوبر”، هذا ما كتبه شاعر روسيا الأكبر ألكسندر بوشكين عن الفصل العاشر من رائعته “يفغيني أونيغين”. أما الأشعار الأخيرة من هذه الدراما الغنائية الشهيرة فصبّها في رباعيات مرمّزة.
كان الشاعر خائفاً من رجال السلطة. يقول الناشر ميخائيل يوزيفوفيتش: “شرح لنا (بوشكين) بشيء من التفصيل خطته الأصلية، والتي بموجبها كان على يفغيني أونيغين إما أن يموت في القوقاز، أو يقع في الأسر مع الديسمبريين” (ثورة الضبّاط “ديكابريستي” ضد القيصر نيقولاي الأول عام 1825). ما الذي أحرقه بوشكين بالضبط؟ بقي الأمر غير معروف، وقد طرح الباحثون افتراضين: إما أن يجول بطل الدراما أونيغين حول روسيا، أو أن بوشكين انتقد نظام الدولة والقيصر بشكل مباشر، من خارج سياق النصّ.
لم يتوقف بوشكين عن إحراق مخطوطاته، فمطلع عشرينيات القرن التاسع عشر، نظم قصيدة طويلة بعنوان “اللصوص” تتألف من 4 مقاطع. فرغ من مقطعها الأول، “الإخوة اللصوص”، خلال عامين. يتذكر بوشكين: “ألهمتني حادثة حقيقية لكتابة هذا المقطع، ففي عام 1820، عندما كنت في يكاترينوسلاف، عبر لصّان مقيّدان ببعضهما البعض نهر الدنيبر وفرّا”. لكن بوشكين سرعان ما تخلى عن فكرة القصيدة الطويلة، وأحرق مخططه للمقاطع التالية. كتب الشاعر رسالة إلى ألكسندر بيستوجوف، في 13 حزيران/ يونيو 1823، يقول فيها: “أحرقت مخطوط اللصوص”. المقطع الثاني من هذه القصيدة، “الأتامان (قائد القوزاق) ومحظيتاه”، استعاده بوشكين من الذاكرة، وأعاد صوغه في قصيدته “نافورة بختشيساراي (بقجه سراي)” كما يورد الباحثون، وباتت أحداثها تدور في شبه جزيرة القرم بين التتار، وتعدّ من روائع قصائد بوشكين الشرقية.
كانت الخسارة كبيرة لو لم يستعدها، حتى لو أنها اليوم لا تشبه الأصل. ومما جاء فيها: “ليالي الشرق الرائعة/ لطيفة الجمال مبهمة/ تنساب ساعاتها بلذّة/ يا لأتباع النبي/ يا للهناء في منازلهم/ في بساتينهم الجذّابة/ في مخادع الحريم الآمنة/ لأشعة القمر أثر عليهم/ تملؤهم سكينة وغموضاً/ تهبهم لذة ملهمة”.
فيودور دوستويفسكي
أحرق فيودور دوستويفسكي، في عام 1865، المخطوط الكامل الأول من “الجريمة والعقاب”، والتي كان الراوي فيها بطل الرواية راسكولينكوف. أصبحت فكرة الكاتب أكثر تعقيداً بشكل تدريجي، وظهرت في الرواية شخصيات جديدة، وقرر الابتعاد عن نمط الرواية -الاعتراف.
كتب دوستويفسكي إلى ألكسندر فرانغيل، في شباط/ فبراير 1866، يقول: “في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر، كتبت الكثير وأصبح العمل جاهزاً، ثم أحرقت كل شيء. الآن، أستطيع أن أعترف بذلك… حملتني الرواية بعيداً بشكلها، بمخططها الجديد. وبدأت من جديد”. في النسخة الجديدة، أضاف الكاتب مقاطع من روايته غير المكتملة “السكارى”، التي وصفت تاريخ عائلة مارميلادوف.
لاحقاً، في العام 1871، أحرق دوستويفسكي مخطوط روايتي “الأبله” و”الزوج الأبدي”، بالإضافة إلى خطة رواية “الشياطين”. كان الكاتب عائداً إلى روسيا من الخارج، وكان يخشى أن يصادر حرس الحدود مخطوطاته.
تورد زوجته، آنا دوستويفسكايا، في مذكراتها: “بعد يومين من مغادرتي، طلب مني فيودور ميخائيلوفيتش أن ألتقي به، وسلمني عدة حزم سميكة من الأوراق كبيرة الحجم، وطلب مني إحراقها. على الرغم من أننا تحدثنا عن ذلك من قبل، لكني شعرت بالأسف الشديد على المخطوطات لدرجة أنني بدأت أتوسل إلى زوجي للسماح لي بأخذها معي. لكن فيودور ميخائيلوفيتش ذكرني أن رجال الأمن سيفتشونه حتماً على الحدود الروسية وسيصادرون الأوراق منه، ثم تختفي، تماماً كما اختفت جميع أوراقه أثناء اعتقاله في عام 1849. ومع ذلك، تمكنت آنا من الحفاظ على جزء من أرشيف زوجها. إذ أعطت والدتها بعض دفاتر دوستويفسكي التي أحضرتها إلى روسيا بعد بضعة أشهر من تلك الحادثة. يُذكر أن دراسة إيغور فولغين “التأرجح فوق الهاوية – دوستويفسكي والثورة الروسية”، تُمكّننا من الوقوف على جوانب من احتكاك مصير الكاتب بمصير مخطوطاته.
بوريس باسترناك
أحرق باسترناك مخطوطات أعماله مرات عدة، الأولى في عام 1932، عندما انفصل عن حبيبته يفغينيا لوريه، فألقى في الموقد رواية “ثلاثة أسماء” التي كان قد أوشك على الانتهاء منها. كان يعمل عليها منذ عام 1918. نجا من أقسامها الخمسة القسم الأول فقط، والذي حمل عنوان “محبو الطفولة”. لم ينجُ من نار الموقد، بل لأنه سبق أن نُشر كقصة مستقلة عن نشأة الفتاة جينيا في عام 1922.
في رسالة للناشر فياتشيسلاف بولونسكي، كتب الشاعر: “قررت أن أكتب كما تُكتب الرسائل، وليس بالطريقة الحديثة حيث يكشفون للقارئ كل ما يفكرون فيه”.
المرة الثانية، كانت عام 1942، حين أحرق باسترناك مسودة الدراما المغناة “هو هذا النور”، التي ألفها خلال مرحلة الإخلاء أمام زحف الجيش النازي. تحكي هذه المسرحية الشعرية عن انسحاب الجيش السوفياتي من قرية حدودية يقرر سكانها عدم الاستسلام.
أبطال هذه الدراما أناس كانوا من “أعداء النظام” في الماضي. ينظم المثقف المسن إنوكنتي دودوروف حركة المقاومة، فيحرق الألماني غير الحزبي غرونيا فريدريش المنازل التي كان الجنود النازيون ينامون فيها.
وفقاً لباسترناك، فإنه من خلال مثل هذه الأعمال “يكفّر الأبطال عن خطاياهم” (أي معاداة النظام) التي سبقت الحرب. أحرق الكاتب مسرحيته بعد شهرين من إتمامها. كان خائفاً من الاعتقال.
في المحصّلة، تلك الأعمال التي أحرقها كتّابها اختفت إلى الأبد بمعظمها، حتى لو أعادوا إنتاج الأفكار أو بعضها في نصوص أخرى. وما لنا إلا أن نتأمل في قول العالم الألماني جورج كريستوف ليشتنبرغ (1742-1799): “في العديد من أعمال أي كاتب مشهور، أفضل قراءة ما حذفه من النصوص على ما أبقاه”، فكيف إذا كان قد أحرقه؟
سيرياهوم نيوز3 – الميادين