آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » أعتذر من السوريين!

أعتذر من السوريين!

 

حسن م. يوسف

 

 

رحم الله أمي، كانت تردد على مسامعي بين وقت وآخر: «الدنيا مغطاة بقشة، وهنيئاً لمن لا يرفعها». أصارحكم أنني ترددت كثيراً قبل الشروع في كتابة هذا المقال، لكن ما تعرّضت له من ضغط هائل في الأيام الماضية، يجبرني على الكلام ورفع جانب من «القشة التي تغطي دنياي».

 

في عام 1963، نزلت من قريتي الدالية إلى مدينة جبلة كي أكمل دراستي. كنت بكامل بؤسي، والحقّ أنني كدت أن أهلك وأضيع نهائياً قبل أن أكتسب شيئاً من الوعي، لكنني في كل مرة كنت ألتقي بشخص طيب يوقظني من غفلتي ويسحبني من يدي إلى بر الأمان.

 

عندما أخرجتني القراءة والملاحظة من سذاجتي، أدركت أنني بقيت حياً بفضل أشخاص طيبين من كل أطياف المجتمع السوري، لذا عزمت في سرّي، عندما بدأت الكتابة قبل نصف قرن ونيف، أن أكرّس حروفي لخدمة الطيبين.

 

أدركت باكراً أن سمعة الكاتب تلعب دوراً أساسياً في تأثير كلمته، لذا قررت منذ أن بدأت التعاطي مع شؤون الناس، أن أبذل كل ما في وسعي للحفاظ على سمعتي، فرفضت المكافآت البرانية التي كان يصرفها كبار المسؤولين للصحافيين الذين يرافقونهم في جولاتهم. وعندما تكرّر رفضي لتوقيع كشوف المكافآت، لم أعد أتلقى أي دعوة من هذا النوع، فاسترحت.

 

كذلك، عاهدت نفسي، باكراً، على عدم قبول أي هدية أو دعوة من أصحاب القضايا التي أتناولها في مقالاتي، لا قبل ولا أثناء ولا بعد الكتابة. وكنت صارماً في هذا الأمر لدرجة الفظاظة أحياناً، فقد رفضت هدية جاءت من أميركا أرسلها لي الطبيب الجراح والد الشاعر الفتى شادي خوري لأنني ترجمت بعض قصائد ابنه واحتفيت بموهبته أكثر من مرة.

 

كانت الهدية عبارة عن كرتونة بحجم نصف متر مربع، لا أعرف ما فيها، أحضرها الزميل والصديق الصحافي ميشيل خياط إلى بيتي في دمشق، فاعتذرت بشكل حاسم عن قبولها. وقد صدم الزميل ميشيل خياط يومها من موقفي فقال لي باستغراب: «النبي قبل الهدية»، فقلت له: «النبي معصوم، لا ينطق عن الهوى، أما أنا فعبد فقير من عباد الله ليس عندي رأسمال سوى سمعتي، وقد يصدق الناس أي كلام يسمعونه عني!».

 

ربما يظن القارئ العجول أنني في هذه الكلمات أود أن أسوِّق نفسي كـ «بطل». لذا أود أن أعترف بوضوح أنني لست بطلاً، فقد عشت حياتي كلها أغالب خوفي؛ كان يبطحني حيناً وأبطحه أحياناً… وعندما يبطحني ولا أستطيع الوقوف في وجهه كنت ألوذ بصمت العاجز. رغم ذلك أستطيع أن أزعم بشيء من الفخر، أنني لم أستسلم لخوفي يوماً، فكلما بطحني كنت أنهض بعد شيء من الوقت، وأغالبه من جديد.

تقتضي النزاهة هنا أن أعترف لكم أنّ عوامل الخوف لم تكن تأتيني من خارجي دائماً، فالخوف الذي نزل مع ابن القرية إلى المدينة لم يفارقني يوماً، بل بقي كامناً في خفايا نفسي كقبضة تلجم عقلي أحياناً، وتربك قلبي!

 

أرفض الاعتذار ممّن لم تزعجهم

مذابح الساحل والسويداء ولم

يغضبوا لإلغاء عيد الشهداء

 

عندما فزت بالجائزة الأولى في مسابقة جريدة «البعث» للقصة القصيرة، التي كان رئيس لجنة تحكيمها الأديب الكبير سعيد حورانية عام 1976، أجبت الأستاذ الصديق محمود عبد الواحد في الحوار الذي أجراه مع الفائزين بالجوائز الثلاث الأولى عندما سألني: «ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟». يومها قلت: «أريد أن أكون مواطناً».

 

وقد التزمت طوال حياتي بهذا القرار، إذ رفضت كل المناصب التي عُرضت عليَّ داخل الجسم الصحافي وخارجه. وعندما تعرض الزميلان وليد معماري وتميم دعبول لحادث سير مروع على طريق حمص، رفضت صدور قرار بتسميتي رئيساً للقسم الثقافي، وحررت الصفحات الثقافية من دون تسمية أو تعويضات لمدة طويلة. لذا أستطيع الآن أن أقول بشيء من الفخر إنّني عشت حياتي كلها كمواطن، ولم أكن مسؤولاً في يوم من الأيام إلا عن الكلمة التي أكتبها.

 

لقد مر عليَّ في جريدة «تشرين» عدد من رؤساء التحرير، كان أفضلهم في رأيي الرجل الشجاع عميد خولي الذي كان يمنع المخابرات من أخذ أي محرر من الجريدة. إلا أنني أود أن أروي لكم قصة لها علاقة برئيس تحرير آخر، نجح أخيراً بكل كياسة وسلاسة أن ينقل البندقية من كتف إلى آخر!

 

ذات يوم في مطلع التسعينيات، وصلتني شكوى مدعومة بعدد من الوثائق التي لا يرقى إليها الشك، مفادها أنّ مدير مقسم اتصالات في إحدى قرى ريف طرطوس يدير مقسمه بطريقة قرقوشية، فإذا تعطّل خط صديقٍ مقرَّب له لسبب ما، حَوَّل لصديقه هذا خطَّ أحد المواطنين غير المدعومين، وقد يتصل صديق المدير بأربع جهات الدنيا، ثم تترتب الفاتورة على عاتق المشترِك المسكين الذي كان بلا هاتف طوال الوقت!

 

يومها، أرسل لي ذلك المدير مع الآذن ورقة صغيرة مربعة عليها رقم هاتف. اتصلتُ بالمدير وسألته عن الرقم الذي أرسله لي، فلم يقل سوى: «اتصِلْ به». وأغلق السماعة. أعدت الاتصال، وقبل أن أكمل سؤالي عن صاحب الرقم، قاطعني قائلاً: «اتصل بالرقم»! أعدت الاتصال وقلت بنزق: «عفواً أستاذ، من هو صاحب هذا الرقم الذي تريدني أن أتصل به؟»، فقال بسرعة: «هو «آ. ش» اتصل به!» وأغلقَ السماعة.

 

لم يعن لي الاسم شيئاً آنذاك، فرفعت صوتي مخاطباً الزملاء الذين كان يغص بهم القسم الثقافي: «من يكون «آ. ش» يا شباب! تجمَّد الجميع ونظروا إلي بذهول. وفي تلك اللحظة اقترب مني رئيس القسم الثقافي، الزميل وليد أسعيد، وهمس في أذني بلهجة يمتزج فيها التأنيب بالمودة: «أأنت مجنون؟ هل هناك من لايعرف من يكون «آ. ش»!». بعد لحظات أفقت من غفلتي، فاتصلت بالمدير العام مجدداً وقلت له: «هذا رئيس المخابرات». وقبل أن أكمل كلامي، قاطعني قائلاً بنفاد صبر: «اتصل به»! وأغلق السماعة بصخب.

 

عندما اتصلت بالرقم يومها، جاءني صوت هادئ، أخبرني أنه كان يتكلم عني مع شخص يعرفني، وذكر اسماً لم يسبق لي أن سمعت به، ومن دون إطالة سألني: «هل تريد أن أرسل لك سيارة تأتي بك أم تأتي بنفسك؟». أخذت الخيار الثاني. اتصلت هاتفياً بزوجتي وأبلغتها أنني ذاهب إلى المخابرات، ثم توكلت.

 

عندما وصلت إلى المكان الذي حُدّد لي، قادني جندي شاب إلى صالون فخم فارغ يبدو أنه لكبار الزوار. وبعد قرابة ثلث ساعة من الانتظار، جاء رجل متجهم رمقني بنظرة متفحصة، وبإشارةٍ من رأسه أمرني أن أرافقه. قادني المتجهم إلى غرفة ضيّقة تفوح منها رائحة تبغ رخيص، فيها مكتب صفيح وبضع كراسي بلاستيك يجلس على إحداها شاب حليق الرأس في يديه كلبشات، ويجلس خلف مكتب الصفيح رجل مدعبل شرس النظرات. بعد قرابة عشر دقائق من الصمت الرهيب، جاء شاب يرتدي طقماً أسود وقال لي بتهذيب: «تفضل معي». فتفضلت معه إلى صالون متواضع متهالك الأرائك، أحسب أنه للمراجعين. بعد انتظار ربع ساعة، عاد الشاب نفسه واصطحبني إلى مكتب بالغ الضخامة والفخامة.

 

أصارحكم أنني كنت مرتبكاً، لدرجة أنني لا أذكر تفاصيل لحظات لقائنا الأولى بدقة، غير أني خمّنت سريعاً أن سبب استدعائي هو أنني قد طولت لساني أكثر مما يجب في إحدى الزوايا، لكنني لم أفقد رباطة جأشي، إذ قلت لنفسي: «لو كانت تهمتي خطيرة لما نقلوني بين الصالونات ولما قابلني رئيس المخابرات!».

 

لست أذكر بدقة الكلمات المتجهمة التي قالها رئيس المخابرات عن مشكلات الصحافة، غير أني أذكر بوضوح أنني قلت له بلهجة فيها مزيج من التبرير والاعتذار: «ليس مصادفة أن يطلق على مهنتنا صفة مهنة المتاعب». قاطعني رافعاً سبابته بلهجة حاسمة: «مهنة المتاعب في البحث عن الحقيقة». قلت معقِّباً: «الباحث عن الحقيقة قد لا يجدها أحياناً، والناقد قد يخطئ مهما حاول أن يكون صادقاً ومخلصاً». قال: «هذا لا يعفيه من المسؤولية».

 

استجمعت شجاعتي وقلت: «نحن في الصحافة عندما ننتقد الأخطاء نحاول القيام بالمهمة التي أناطها بنا السيد الرئيس». ثم أعدت على مسامعه عبارة الرئيس حافظ الأسد، التي كان أبناءُ جيلنا من الصحافيين السوريين، يرتدونها كسترة واقية من الرصاص: «لا أريد لأحد السكوت عن الخطأ أو التستر عن العيوب والنواقص».

 

شعرت بشيء من الارتياح عندما أدركت بأن سبب استدعائي هي الزاوية التي كتبتها عن مدير المقسم، الذي تبين بأنه ابن أخ اللواء، أو ابن عمه، لا أذكر بالضبط، وسبب ارتياحي هو كون الوثائق المتوافرة لدي واضحة ولا يرقى إليها الشك.

 

قلت متفلسفاً: «الشجاعة في الصحافة شجاعتان، شجاعة انتقاد الخطأ وشجاعة الاعتراف بالخطأ، والثانية قد تكون أهم من الأولى لأنها إما أن تؤكدها أو تنسفها»، ثم أردفت قائلاً بإخلاص: «الوثائق المتوافرة لدي مقنعة تماماً، غير أني مستعد للاعتذار عمّا جاء في الزاوية إذا تبين أنها وثائق مزيفة! عندها لمست شيئاً من اللين في لهجة اللواء، فقال لي إنه سمع كلاماً عن ممارسات قريبه المخالفة للقانون، وأنه استدعاه وشدّ له أذنه».

 

لحظتها انكمشت مخاوفي، فتنهدت بارتياح وقلت بشيء من الخفة: «لهذا يسمون الصحافة مهنة المتاعب». لكن اللواء رمقني بنظرة جانبية وأعاد عبارته السابقة بلهجة جافة قاطعة: «مهنة المتاعب في البحث عن الحقيقة».

 

ارتبكت قليلاً لكنني تمالكت نفسي وقلت: «المعلم الثاني الفارابي يرى أن جوهر الحقيقة هو الله، وأن كل ما سواه يصدر عنه صدوراً فيضياً، والصدورات تتغير قبل أن نتمكن من الإحاطة بها، فمن أين للكائن البشري أن يعرف الحقيقة؟».

 

لم يرتح اللواء لكلامي العويص، فأكدت له مخلصاً أنني لم أكن أعلم أن مدير المقسم من أقاربه. أحسست أن لهجتي قد أقنعته، لكنه رفع سبابته رغم ذلك وقال لي بلهجة حاسمة، «هذا لا يعفيك من المسؤولية، يجب أن تعرف عمّن تكتب مسبقاً». عندها قلت له بجدية: «أنا يا سيادة اللواء، أكتب خمس مرات في الأسبوع، وأحياناً أكثر، وإذا أردتم مني أن أعرف سلالة كل شخص أكتب عنه، فيجب أن تفتحوا لي فرع مخابرات خاص بي». لحظتها لمعت عينه قليلاً، لكن وجهه حافظَ على جموده. كان واضحاً أن الهدف من اللقاء هو شد أذني وجعلي أعلن التوبة، لكنني أكدت صفاء نيتي وكررت عدم معرفتي بالقرابة، وأوضحت أن الكتابة مجدداً عن الموضوع غير مفيدة لأنها ستجعل من لم يعرف يعرف.

 

بعدها انكسر الجليد بيننا فراح يحدثني عن كتب قرأها وأفكار توقف عندها فأدليت بدلوي، وقد كانت الساعة الأخيرة ودية تماماً.

دخلت إلى مقر قيادة المخابرات العسكرية في الحادية عشرة والربع صباحاً وخرجت منه في الثالثة وخمس وثلاثين دقيقة ظهراً.

في اليوم التالي، ذهبت إلى جريدة «تشرين» وكتبت زاوية تحدثت فيها عن المعلم الثاني الفارابي والحقيقة ومهنة المتاعب في البحث عن الحقيقة، وختمت الزاوية بقولي إنّ «قوس قزح» مثل الطرقات الجميع يقولون إنها تجلب الخير والنماء، لكن لا أحد يريدها أن تمر بأرضه! وقد كانت تلك هي آخر مرة أكتب فيها زاوية «قوس قزح». وعندما استدعاني المدير، رفضت الكتابة في «قوس قزح» وأسست زاوية خاصة بي اسميتها «عقل في الكف».

 

أثناء عرض مسلسل «نهاية رجل شجاع» الذي كتبت له السيناريو والحوار عن رواية المبدع الكبير حنا مينة، لاحظت أن الكثير من الناس يخلطون بين الشجاعة والبطولة، ما اضطرني مراراً وتكراراً أن أوضح للناس أن الشجاعة هي مواجهة الخوف، بينما البطولة هي مواجهة الخوف في سبيل قضية نبيلة، ومفيد الوحش كان شجاعاً ولم يكن بطلاً.

 

أحسب أن كل الناس يعرفون الضجة التي حدثت أثناء عرض الجزء الأول من مسلسلي «إخوة التراب» للمرة الأولى عام 1996، فقد وثقت الصحافة الكويتية محاولات السفارة التركية إجبار تلفزيون الكويت على منع المسلسل، وقد منعت إدارة التلفزيون المسلسل يوماً واحداً، لكنها عادت وتابعت عرضه تحت ضغط الجماهير.

 

يومها شكك أحد الفنانين من باب «الغيرة المهنية» في مصداقية المسلسل التاريخية، واتهمه بالإفراط في مشاهد العنف، لأن عقوبة الخازوق كانت قد ألغيت رسمياً في السلطنة العثمانية مع حل الانكشارية في 15 حزيران (يونيو) عام 1826، وهذا صحيح. يومها، أثبتُّ لذلك الفنان (الغيور) بالدليل القاطع مدى هشاشة طرحه، فإلغاء العقوبة رسمياً لا يعني إلغاءها فعلياً، وأحلته إلى الصفحة 69 من مذكرات الملك عبد الله (جد الملك الأردني الحالي)، إذ يقول بالحرف: «وكانت الفظاعة من الجند التركي، بإحراق القرى وتقتيل الأبرياء، السبب الأول في الانقلاب الأخير، حيث قال الأمير: «ليس من هؤلاء خيرٌ للعرب». وقد عُرِضَتْ عليه (الأمير المقصود هنا هو الشريف حسين) أربع مرات جثث شويت على النار شَيَّاً، بأن تدخل أعمدة الخيام في أدبارهم حتى تخرج من أفواههم».

 

إن مشاهد العنف في مسلسل «أخوة التراب» ليست سوى مفردات فنية هدفها جعل هذا العمل المضاد للعنف أكثر إقناعاً! أما مشاهد العنف المريعة حقاً، والحقيقية حقاً، والجديرة بالاحتجاج حقاً، فهي ليست من صنع كاتب ولا مخرج ولا ممثلي «إخوة التراب»، بل من صنع أجداد الذين احتجوا عليها، ومن ينسى تاريخه، لا بد من أن يجد نفسه خارج التاريخ.

 

صحيح أنه من الطبيعي أن ينزعج الأتراك من «إخوة التراب» لأنهم يعلمون، كما أعلم، أنّه يعبّر عن حقيقة ما اقترفه أجدادهم بحق شعبنا السوري، خصوصاً أنّ كل التفاصيل الواردة فيه موثقة، لكنني لم أتصور أن يدفعهم ذلك، بعد حوالى عقدين، لإنتاج عمل درامي ينتحل اسم مسلسلي (إخوة التراب) لكي يناقض كل ما جاء فيه. والحق أنّ هذا الأمر أقلقني لأنه يثبت عملياً أن الأتراك ما زالوا يطلقون النار على العرب والأرمن من خنادق الماضي.

 

قبل حوالى أسبوع، قامت السلطة الانتقالية في سوريا بتعيين الدكتور أحمد جاسم الحسين رئيساً لاتحاد الكتّاب العرب، وقد أراد أن يفتتح عهده بحدث يلفت إليه الأنظار، فقام بفصل عدد من أعضاء الاتحاد، بعضهم كان قد تم فصلهم سابقاً، وزج باسمي في آخر القائمة.

 

عقب صدور مجموعتي القصصية الأولى «العريف غضبان» عام 1976 تقدمت بطلب انتساب إلى اتحاد الكتاب العرب، بناء على طلب عدد من الكتّاب اليساريين. لكن المدعو «ع. ع. ع» وأنصاره صوتوا ضد قبول طلبي زاعمين أنني شيوعي. ونظراً إلى أنني كنت قد فزت بالجائزة الأولى في ثلاث مسابقات للقصة، استنكر التقدميون عدم قبول طلبي، وحرّضوني على تقديم اعتراض لمجلس الاتحاد.

 

لكن مَن حرضوني لم يحضروا الاجتماع لأسباب مضحكة! وهكذا رُفض اعتراضي بأرجحية صوت «ع. ع. ع»! وقد أثار ما جرى غضبَ الشاعر الكبير شوقي بغدادي، فكتب مقالاً بحجم صفحة في جريدة «الثورة» بعنوان: «قضية المواطن حسن م. يوسف» وثَّق فيه بالتفصيل ما جرى في ذلك الاجتماع واعتبره مخزياً.

 

لهذا السبب رفضتُ لاحقاً، بإصرار، فكرة الانتساب إلى اتحاد الكتاب، رغم أن كل من توالوا على رئاسته بعد إزاحة المدعو «ع. ع. ع» طالبوني بذلك.

والحق أن عضوية الشرف فرضت علي، فقد فوجئت عام 2016 وأنا على منصة «المركز الثقافي العربي» في بانياس بوصول الأستاذ المرحوم الدكتور نضال الصالح الذي كان رئيساً لاتحاد الكتّاب العرب، قادماً من دمشق. وبعد انتهاء محاضرتي، صعد إلى المنصة وقدم لي قرار رئاسة الاتحاد بمنحي عضوية الشرف. كان د. نضال قد أصدر مجموعتي القصصية «الساخر يخرس» ضمن منشورات اتحاد الكتاب، وكتب لها مقدمة نقدية ممتازة، فنفدت طبعتها خلال مدة قصيرة. لذا وجدت أنه سيكون من الفظاظة أن أرفض بادرتهُ الودية. لكنني قلت له بصوت عال سمعه الحضور: «لو نزل ملاك من السماء يحمل هذا القرار لما قبلته، أما منك فأنا أقبله».

 

عندما بدأ ما سمي بـ «الحراك الثوري» في سوريا، كنت أرى المستقبل بوضوح. فقبيل غروب 26 حزيران (يونيو) 2011 ، أي قبيل ساعات من انعقاد مؤتمر المعارضة السورية الأول في فندق «سميراميس» تحت شعار نبيل يُشَرِّف كل من ينادي به ويعمل لأجله: «سوريا للجميع في ظل دولة ديموقراطية مدنية»، أبلغت شخصاً كان صديقاً حميماً آنذاك أنّ موازين القوى في ذلك الوقت ليست في مصلحة القوى اليسارية والديموقراطية لأنها ضعيفة ومنقسمة على نفسها، وأن القوة الوحيدة التي تستطيع الحلول محل حكم «البعث» وجبهته هي الإسلام السياسي.

 

وقد استنكر المذكورُ كلامي، واتهمني بـ «اليأس والتيئيس». واشتد الخلاف بيننا، فقلت له قبل أن أمضي: «قوى اليسار والديموقراطية في سوريا هي بمنزلة طاسة زيت زيتون ممتاز تطفو على وجه برميل من السوائل، وكل من يريد بيع البرميل له مصلحة في إقناع الناس بوهم امتلائه بزيت الزيتون الفاخر».

 

وبعد وصول الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في سوريا، كتبت بياناً على صفحتي على الفايسبوك ذكَّرت فيه الصديق السابق بما كان بيننا، وقلت: «ما يزال اليساريون والديموقراطيون ينادون بالشعار النبيل الجميل: سوريا للجميع في ظل دولة ديموقراطية مدنية. أنا لا أشك في صدق نواياهم مطلقاً، بل أتمنى من أعماق قلبي أن تنجز الإدارة السورية الجديدة وعودها الجذابة لهم ولعموم السوريين. فأجمل أحلامي وأعز أمانيَّ أن أرى سوريا دولة ديموقراطية ومدنية لكل أبنائها. لكن أخشى ما أخشاه أن تتكرر في سوريا مأساة اليسار الذي أسهم في الحراك وصب مياهه في طاحونة اليمين، ثم وجد نفسه خارج اللعبة كما حدث في تشيلي وإيران ومصر وغيرها».

 

والحق أنّ ما جرى في الساحل والسويداء وأرياف حماة وحمص كان أسوأ من أسوأ مخاوفي!

من المعروف أنّ السلطة الانتقالية قد ألغت عيد الشهداء. لذا من الطبيعي أن يعاقب كاتب مسلسل «إخوة التراب». وبدأ النبش في تاريخي، فاكتشف النباشون أنني قد حيّيت قبل أعوام الجيش العربي السوري والمقاومة اللبنانية، فاعتبروا هذا دليل إدانة.

 

وبعد قراءة ملتوية لفيلم «رجل الثورة»، حاول الصيادون في الماء العكر أن يحولوه إلى قائمة اتهام ضدي، رغم أن الأفلام في الدنيا كلها لا تعتبر وثائق إدانة، فهناك أفلام اتهمت المخابرات المركزية الأميركية باغتيال كندي على سبيل المثال. لعل آخر فيلم مثير من هذا النوع هو فيلم «لا تنظر إلى الأعلى» الذي يصور رئيسة الولايات المتحدة الأميركية ورجالاتها على أنهم تافهون يلاحقون مصالحهم الشخصية بينما الحياة على الأرض مهددة بكويكب. وفي آخر الفيلم، ينفجر كوكب الأرض بينما تهرب الرئيسة مع المقربين منها في مركبة فضائية.

 

صحيح أن البناء الدرامي لفيلم «رجل الثورة» هو من بنات أفكاري، لكن القضية السياسية التي يعالجها مبنية على وثائق لا يرقى إليها الشك. عندما كُلّفت بكتابة الفيلم، استندت إلى ما جاء في لقاء الكاتب الألماني المعروف ميخائيل لودرز بأن «تنظيم جبهة «النصرة» الإرهابي هو الذي يستخدم السلاح الكيميائي في سوريا بالتعاون مع الاستخبارات التركية»، مبيناً أن هذا التنظيم لديه كميات من غاز السارين السام الذي حصل عليه من النظام التركي. والتسجيل موجود على الإنترنت لمن يود الاطلاع عليه. كما إنّ «ويكيليكس» أكدت ما قاله ميخائيل لودرز، إذ أفادت بأنّ «خبراء منظمة حظر الأسلحة الكيميائية نفوا استخدام غاز الكلور في مدينة دوما السورية، وأشارت إلى أن كبار المسؤولين في المنظمة أجبروا أعضاء بعثتها إلى سوريا على تزوير الحقائق».

 

كما أكّدت ذلك الأنباء الموثقة التي نشرتها جريدة «حرييت» التركية حول «ضبط شاحنات المخابرات التركية وهي متجهة إلى سوريا، لتقديم غاز السارين للجماعات الإرهابية». ثمة سؤال كبير يطرح نفسه هنا: ما الذي يدعو أعداداً من «المثقفين» إلى تبرئة جهةٍ تكفيرية لم يُعرف عنها سوى الفظائع؟

 

رغم كل هذا، كنت حريصاً أثناء كتابة الفيلم على عدم الوقوع في فخ الدعاية السياسية التي تسوق لوجهة نظر أحادية. لذا أوردت على لسان البطل مقولة الكاتب اليوناني أسخيلوس: «في الحرب، تكون الحقيقة هي أول الضحايا»!

 

أعترف أن تضامن الناس معي فاق كل توقعاتي وقد كان مؤثراً حد البكاء، لكن خيبتي ببعض المثقفين لا حدود لها، لأنّهم نصبوا أنفسهم قضاة وأصدروا عليّ أحكاماً مجحفة كان بعضها يشبه أحكام السلفيين: «يُستتاب أو يُقتل»! وسأكتفي هنا بالحديث عن حالة الكاتب نجم الدين السمان.

 

رأيت نجم أول مرة في حلب أواخر السبعينيات، لكنني لم أتعرف إليه جيداً إلا في عام 1982 عندما كنت في لجنة تحكيم مسابقة القصة في المهرجان الأدبي لطلاب الجامعات والمعاهد السورية الذي أقيم في الحسكة. كانت قصة نجم ناضجة وممتعة، والمسافة بينها وبين القصة التي تليها كبيرة، لذا أصررت على حجب الجائزة الثانية ومنح الجائزة الثالثة مناصفةً، تأكيداً للمسافة بينه وبين من يليه.

 

منذ ذلك اليوم، أصبح نجم صديقاً حميماً، وقد تطورت علاقتنا بحيث بات يعامل في بيتنا كفرد من العائلة. سمع نجم أحد أصدقائي الأحباء يناديني «حسون» فراح نجم يقلده، خاصة أمام الناس، وقد لامني أحد الأصدقاء لأنني أسمح له برفع الكلفة معي بهذا الشكل الاستعراضي، لأنّ ذلك ظاهره مودة وباطنه عدم احترام، لكنني لم أقف عند الأمر، وبقيت علاقتنا أخوية تماماً وتعززت خصوصاً بعدما انتقل إلى دمشق.

 

بعد همروجة قرار فصلي مع آخرين من اتحاد الكتاب، كتب نجم على صفحته على الفايسبوك ينتقد قرار الفصل لأنه جاء «من فوق من دون لجنة نقاش ومساءلة، أما الكتّاب الذين أيدوا حمّام الدم ضد السوريين بشكل معلن مثل حسن م. يوسف ونزيه أبو عفش ومحمود عبد الواحد… فأرى أن يتم تشكيل لجنة تستدعيهم وتحاورهم قبل قرار الفصل، بل أن تعرض عليهم صيغة الاعتذار العلني للسوريين عن مواقفهم، ثم تتخذ القرار المناسب».

 

ما يعرفه الناس جميعاً عن نجم الدين سمان الذي عيّن نفسه قاضياً، هو أن ابن بلده وزير الثقافة آنذاك رياض نعسان آغا قد أسس له مجلة «شرفات» وعيّنه رئيس تحرير لها، كما أوفد زوجته للعمل في «المركز الثقافي السوري» في باريس مع أنها لا تعرف الفرنسية.

 

صحيح أنّ نجم كان يعاني أثناء انتقاله من مكان سكناه في ريف دمشق، إلى المدينة، لأن عناصر الحواجز كانوا يدققون في هويته عندما يجدون أنه من إدلب. لكن انقلابه المذهل من صديق إلى عدو شرس، أمرٌ جدير بالدراسة: يقول نجم في آخر مقاله: «كنت يومها قد غادرت مرغماً إلى القاهرة (والحقيقة أنه لم يغادر مرغماً كما يزعم لأنه غادر عن طريق مطار دمشق الدولي) ونشر حينها حسن صورة له على صفحته الشخصية واقفاً وسط الشارع قرب كلية آداب حمص وكتب تحتها: هنا حمص، بينما كان نصف حمص قد دمره نظام الأسد بالقصف فوق رؤوس ساكنيه». فكتبت له آخر تعليق: «أنا أعرف المدينة أكثر منك، سكنت فيها قرابة عامين، وفي غرفة قرب كلية الآداب تلك، وفي صورتك بعض حمص وليس كلها!» ولم نتواصل منذ ذاك الوقت وحتى إلى ما بعد الآن.

 

هكذا حكم عليّ سعادة القاضي نجم الدين سمان الذي أحببته كثيراً، وكنت ولا أزال أتمنى له الخير، بالنفي من عالمه لمجرد أنني نشرت صورة لي في حمص، ليس فيها دمار!

 

أعترف أنني فوجئت بحجم التضامن المدهش مع قضيتي، لكنني تألمت من صمت بعض المثقفين النزهاء بقدر ما تألمت من كلام من مارسوا بحقي الافتراء، وهم لم يكونوا من ضفة واحدة. فقد كتبت لي سيدة من الساحل تقول: «جهنم اللي تحرقك، وقفت متل الصنم تجاه مجازر الساحل وعمليات القتل الي صارت بضيعتك الدالية»!

 

أعترف أنني كنت ولا أزال أؤمن بأنّ الأوطان تُبنى من الداخل بصبر وأناة، فالمواطنون المستعجلون قد يصادفون سياسيين مستعجلين مثلهم أو أكثر منهم، فيزجون بهم في السجون، وهذا الدرس الأليم الذي تكرر في مختلف أرجاء بلدنا، فهمتُهُ بشكل مباشر عبر ما عاناه ابن عمي بسام يوسف الذي أمضى زهوة سنوات شبابه في سجن صيدنايا.

 

صحيح أنني لم أكن مسؤولاً يوماً إلا عن أسرتي وكلمتين لكنني رغم ذلك أود أن أعتذر من كل السوريين الأبرياء الذين تبدّدت أعمارهم في السجون والمنافي والركض خلف ربطة الخبز وأسطوانة الغاز، وحبة البطاطا! كما أود أن أعتذر من كل السوريين الوطنيين الشرفاء الذين تحسّسوا من كلماتي انطلاقاً من حرصهم على البلد والخير العام، لكنني أرفض الاعتذار ممن لم تزعجهم مذابح الساحل والسويداء وأرياف حماة وحمص، ولم يغضبوا لإلغاء عيد الشهداء، واحتلال الأتراك للشمال السوري واحتلال الجيش الأزرق للجولان والجنوب ووجود أميركا في التنف وروسيا في طرطوس واللاذقية!

 

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

«اللّي باقي منّك» مرشّح لأوسكار أفضل فيلم دولي | شيرين دعيبس: ملحمة فلسطينية مضادّة للنسيان

    شفيق طبارة   يستعيد فيلم «اللّي باقي منّك» للمخرجة الفلسطينية الأميركية شيرين دعيبس الذاكرة الفلسطينية عبر ملحمة تمتدّ على ثلاثة أجيال من عائلة ...