آخر الأخبار
الرئيسية » مجتمع » أكبر تجمّع للمقابر في العالم»: 15 ألف مفقود في غزة

أكبر تجمّع للمقابر في العالم»: 15 ألف مفقود في غزة

 

يوسف فارس

 

 

لدى وصولنا إلى حي التفاح، شرقي مدينة غزة، حيثُ الشمس تطلّ من بين جبالٍ من ركام البيوت المهدّمة، كان الأهالي قد بدأوا «ورشتهم» اليومية؛ الفتية والنساء يحملون دلاءً مليئة بالحجارة، ويلقون بها من الطوابق العلوية المدمّرة بشكل جزئي، بينما الرجال ينهمكون بتكسير أعمدة الباطون التي تتوسّط باحات الشقق. ومن بين هؤلاء، يحفر عميد حمادة، الغارق وسط بحرٍ من الحجارة، بكفَّيه وبمعول بسيط، خمس طبقات من الركام، باحثاً عن جثمان نجله الشهيد مصطفى. بالتوازي، كانت قافلة طويلة من سيارات منظمة «الصليب الأحمر»، ترافقها عدد من الجرافات والشاحنات ومعدّات الحفر والتنقيب الثقيلة، تدخل شارع بغداد في حي الشجاعية، للبحث عن جثامين عدد من الجنود القتلى الإسرائيليين.

 

وفيما من المرجّح أن تنتهي المهمّة في حي الشجاعية سريعاً، في غضون ساعات أو أيام على أبعد تقدير، فإنّ أبو مصطفى، في المقابل، بدأ يشعر بأنّ انتشال جثمان نجله هو مشروع قد يستغرق العمر بأكمله: «بناية من خمس طبقات أطبقت على الجسد النحيل»، يقول الوالد المجهد في حديثه إلى «الأخبار». ويتابع: «في الـ29 من أيلول الماضي، في ساعة متأخّرة من الليل، قصفت طائرة حربية المنزل الذي كان يؤوينا في حي التفاح. هُدم على رؤوسنا. كنت أنا وزوجتي ووالدي وعائلتي وعائلة أخي في البيت. صحونا ونحن غرقى في الغبار والظلام. بعدما تفقّدت بناتي، بدأنا بالبحث عن مصطفى وابن شقيقي أسامة، كانوا في الشقّ الشرقي من المنزل. كنا نبحث عنهم رغم القصف المدفعي والقنابل التي تطلقها طائرات (الكواد كابتر)، قبل أن يشتدّ الخطر ونضطرّ لترك المنطقة».

 

(محمد بعلوشة)

(محمد بعلوشة)

في أثناء حديثها عنه، تتأمّل والدة مصطفى حطام البيت، قبل أن تتنهّد قائلةً: «لم أشعر يوماً أنّ مصطفى كان طفلاً. بدأ حياته كبيراً. لديه شخصية مستقلّة وفريدة، وطقوسه وكراكتاره الخاص. كان يقرأ الكتب بنهم شديد. بدأ حفظ القرآن في سنّ العشر سنوات، وأتمّه قبل أن يصل الثانوية العامة. قبل ثلاث سنوات، كان عضواً في فريق التصميم والتكنولوجيا في (مركز القطان الثقافي)، وصمّم مشروعاً إلكترونياً للتحذير من الحرائق وتبليغ الفرق المتخصّصة في كافة منازل القطاع من دون الحاجة إلى تدخّل بشري، ونال براءة اختراع فيه. كان متفوّقاً في مدرسته، وعبقرياً في البرمجة وشغوفاً بمجال الذكاء الاصطناعي. لديه صوت ندي وجميل في قراءة القرآن. كان يَؤمّنا في كل الصلوات، وآخر ما استقرّ في أذني في تلك الليلة هو صوته وهو يؤمّنا في صلاة العشاء».

 

في الطريق إلى حي الشجاعية، تضيق الطرقات بالسيارات وسط انتشار كثيف لعناصر «القسام»

 

 

على أنّ مصطفى الآن، بات «هناك، تحت الحجارة». وبعدما اضطرّت العائلة إلى استصلاح ما تبقّى من المنزل، أي استصلاح غرفتين وصالة ومطبخ، تتساءل الوالدة عمّا إذا كان بإمكان أحد أن يتخيّل أن «تعيش أنت وجثمان ابنك في ذات المكان. وتصحو كل يوم وتعدّ الفطور، لتشعر بروحه تطوف حولك، وبجسده قريباً منك، دون أن تراه؟»، على حدّ تعبيرها. قبل عشرة أيام، اضطرّت العائلة للعودة إلى المنزل المدمّر، بعدما «لم يتبقّ لها خيار آخر». يقول أبو مصطفى: «أصعب شيء يمكن أن يختبره أب أو أمّ في الدنيا، هو أن يعيشوا مع جثمان ابنهم في ذات المنزل، لا تزال أم مصطفى، تُعدّ لمصطفى فراشه قبل النوم، وتصبّ له كأس الشاي في الصباح، وتحجز له مكاناً شاغراً وقت الغذاء».

 

(محمد بعلوشة)

(محمد بعلوشة)

وتتابع الوالدة وهي تقلّب في صوره، في هاتفها المحمول: «ربما يعود، ربما يقرّر في ذات صباح أن يشاركنا الفطور ويعيش معنا يوماً نستعيد فيه الحياة التي كان ركناً فاعلاً وأساسياً فيها». ومع انتصاب عمود الشمس، صار علينا أن نغادر حي التفاح تاركين أبو مصطفى وحيداً مع مهمّته الشاقّة، التي زادها ثقلاً إصرار زوجته على أن تجد ابنها قبل الشتاء، «كيلا تمطر الدنيا عليه».

في الطريق إلى حي الشجاعية، تضيق الطرق بزحام السيارات الحديثة، من جيبات الدفع الرباعي التابعة لـ«الصليب الأحمر» إلى مركبات الصحفيين الذين يواكبون المهمّة، وسط انتشار مكثّف لعناصر وحدة الظلّ التابعة لكتائب «القسام». حفرت الجرافات مساراً طويلاً في شارع بغداد في أماكن يعتقد أنها تحوي جثامين لقتلى إسرائيليين، فيما وسائل الإعلام تنقل الحدث لحظة بلحظة.

 

 

وعلى بعد بضعة أمتار من موقع الحفر، ترقد جثامين نحو ألف شهيد قضوا في مجزرة كبرى ارتكبتها الطائرات الحربية في منطقتي الطوابين وأبو العظام. وطبقاً لرمضان أبو سكران، وهو صحفي من سكان الحي، فقد قضت عائلات كاملة في أحزمة نارية مكثّفة، على يمين شارع بغداد في منطقة الطوابين، «ولم يتبقَ من يبكي أو يبحث عنهم». وعلى يسار منطقة الحفر، في شارع أبو العظام، قُصفت المنازل بقنابل مرعبة استشهد بفعلها ألف مواطن، منهم من تبخّرت أجسادهم أو بقوا تحت الركام، بحسب أبو سكران الذي يضيف أنه «لا أحد من رؤساء الدول أو الزعماء يعرف أسماء هؤلاء، أو يبحث عنهم».

 

 

ويقدّر عدد المفقودين الذين قضوا تحت أسقف المنازل المأهولة، منذ بداية الحرب، بـ15 ألفاً، فيما لا يكفي ما تبقّى من آليات الدفاع المدني والمعدّات المتوفّرة – دمر جيش الاحتلال 98% منها -، لانتشال أي منهم حتى اللحظة. على هذا النحو، يتعذّر أن تكرّم جثامين المفقودين عبر دفنها في المقابر التقليدية، كما لن تكون لهم قبور يذهب ذووهم إليها في كل يوم خميس لقراءة الفاتحة، وهو ما دفع بـ«اللجنة الوطنية لشؤون المفقودين» في حرب الإبادة في غزة إلى عقد مؤتمر صحافي، أمس، تطالب فيه العالم بإدخال فرق دُولية لانتشال جثامين المفقودين. ودعت اللجنة، في بيانها الصحفي، «العالم إلى توفير فرق طبّية لتحديد هوّية المفقودين، وإدخال المعدّات اللازمة لانتشالهم، بعدما تحوّلت غزة إلى أكبر تجمّع للمقابر في العالم»، مشيرةً إلى أنّ «كل ما نريده هو حفظ كرامة الإنسان حياً وميتاً».

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١- الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

ثقافة الامتنان… كلمة “شكرا” تصنع الفرق

تحمل كلمة “شكراً” في طيّاتها تقديراً للجهد واحتراماً للشخص الذي قدّم العون، فالامتنان لا يكلّف شيئاً لكنه يمنح الكثير إذ يزرع في النفس شعوراً بالرضا والاحترام ...