علا شفيق شعبان
يقدم المؤلف نظريته الأوراسية “كمفهوم ثوريّ عالمي” وأنها “ماركسية القرن الحادي والعشرين”.
“الجغرافيا السياسية هي علم عن الحدود المتحركة والحية وهي تنظر إلى الدول على اعتبارها أشكالاً للحياة وتنظر إلى جميع الحدود الحقيقية على أنها حية وأنها أقطاب متغيرة بصورة دينامية، مرّ من خلالها إشعاع جيوسياسي. وأما كون الحدود غير واضحة فهذا أمر ليس بالجيد وليس بالسيء، كما أن بناء حدود كتيمة وغير قابلة للخرق بالمطلق هو حلم مستحيل غير قابل للتحقيق يسعى إليه أولئك الذين يريدون تحويل الحياة إلى مجرد مخطط أو تجريد ميت. الحدود أشبه بمعطف من بشرة الجلد، إنها جلد الدولة ويجب أن تكون ذات مسامات”.
بتلك العبارات يعرّف المنظّر الروسي ألكسندر دوغين الجغرافيا السياسية في كتابه “الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة – عصر الإمبراطوريات الجديدة – الخطوط العامة للجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين”، والذي يقدم فيه تفسيراً للظواهر السياسية ليس من منظور الجزء المتحرك وهو التاريخ، كما كان معتاداً سابقاً في التحليلات السياسية، وإنما من منظور الجزء الثابت وهو الجغرافيا.
مقدمته التي جاءت تحت عنوان “بدلاً من المقدمة” تحمل فرضاً أن “النماذج التحليلية مثل المقاربات التاريخية التي كانت متبعة في دراسة العلاقات الدولية قبل القرن العشرين لم تعد تفي بالغرض والأبرز الآن المنهج الجيوسياسي أو الجغرافيا السياسية، ولا يفسّر ذلك المنهج الأحداث والعمليات بطريقة حاسمة وحسب بل يمكنه التنبؤ بصورة أكيدة بمنطق التطور اللاحق للأحداث مثل توقع حدوث حرب القارات العظمى مستقبلاً في عصر العولمة.”
في معرض تحليله لانهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية يقول دوغين: “لو أن القيادة السوفياتية أولت اهتماماً أكبر منذ عقد الثمانينات من القرن العشرين للمنهج الجيوسياسي حين كانت لا تزال هناك فرصة لإصلاح ما يمكن إصلاحه لكان يمكن ربما تحاشي بعض الصفحات “المخزية” في تاريخ روسيا. فقد كانت تلك القيادة أو من بعدها بدرجة أكبر الليبراليون الإصلاحيون في محيط (الرئيس الروسي بوريس) يلتسين يحللون الوضع بصورة حصرية ضمن مفاهيم المجابهة الإيديولوجية والتحديث متجاهلين بشكل كامل الحتمية الجيوسياسية للمجتمعات إلى جانب عدم إدراك الطبيعة البرية للاتحاد السوفياتي”. علاوةً على ذلك، لم تأخذ القيادة السوفياتية (والروسية لاحقاً) بعين الاعتبار الخصوصية النوعية وليس فقط الكمية لمرحلة الانتقال من المجتمع الصناعي إلى المجتمع ما بعد الصناعي. كما أن مجتمع ما بعد الحداثة يمثل في جانب كبير منه ما هو عكس ما يقوم عليه مجتمع الحداثة، حيث تضع ما بعد الحداثة هدفاً لها هو تفتيت كامل وجذري لأي مجتمعات وكيانات إلى الوحدات الذرية المكوّنة لها، وصولاً حتى إلغاء الدول والقوميات والإدارات الوطنية والحدود مع تحويل كوكب الأرض إلى “مجتمع أهلي” موحّد تديره وتشرف عليه حكومة عالمية. وهذا يعني أن روسيا وإذ قررت السير في طريق “ما بعد الحداثة” سوف تتعرض لخطر فقدان الهوية الخاصة بها واضمحلال الدولة واختلاط السكان مع العالم المفتوح على جميع الاتجاهات. وهذا بدوره سوف يقود إلى نشوء حالة “البداوة المعولمة” كما يسميها جاك أتلي.
بكلمات أخرى، في حال تم إنجاز ما بعد الحداثة من دون أخذ الجغرافيا السياسية بالحسبان، فإنها سوف تؤدي لامحالة، حتى ولو كانت ناجحة، إلى اختفاء روسيا كظاهرة تاريخية. ولتجنب هذا المصير المريع، يقوم كتاب “الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة” في غايته الأساسية على فكرة الاتحاد الأوراسي، النظرية الأوراسية البرية بمواجهة أو “توازياً” أحياناً مع الأطلسية البحرية الغربية.
تمدد الأطلسية
وانطلاقاً من الجغرافيا السياسية يفسّر دوغين بعض الظواهر باعتبارها ظاهرة جيوسياسية مثل انتشار وامتداد المذهب البروتستانتي في الصين وكأنها عملية تحضيرية لهجوم الأطلسية على اعتبار أن البروتستانتية هي التي تقوم في أساس المجتمعات الأوروبية الحديثة. ولإيقاف أي معارضة بوجه النفوذ الأمريكي تلجأ العقيدة الأطلسية إلى حرمان الدول الوطنية من سيادتها بشكل تدريجي، وتجري هذه العملية بهدف نزع السيادة في اتجاهين. فمن جهة، تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى بسط سيطرتها المباشرة على المناطق المضطربة (العراق، أفغانستان، وجزئياً على صربيا). وهنا تجري المواجهة على الخطين الولايات المتحدة ودولة “جميع الدول الباقية”.
يدور الحديث هنا عن توتر في إطار أنموذج الحداثة. أما في حالات أخرى فتجري عملية نزع السيادة تحت راية العولمة. وعندئذ تتصرف الولايات المتحدة لا بصفتها دولة وطنية وإنما باعتبارها قاطرة فوق وطنية (إمبراطورية) للعولمة فتقوم بفرض شروط ما بعد الحداثة على المستوى الدولي من دون مراعاة للحدود القومية والإدارية.
ما هي الإمبراطورية
عاد مصطلح الإمبراطورية مع كتاب أنطونيو نيغري ومايكل هارت عام 2000 “الإمبراطورية” كمفهوم سياسي مستقل في القرن الحادي والعشرين، إلى جانب نصوص كل من صموئيل هنتغتون وفرانسيس فوكوياما في كتابيهما “صدام الحضارات” و”نهاية التاريخ”. وقد تحدث هذان العملان بشكل أساسي عن تعميم الاتجاهات الرئيسية في تطور التاريخ العالمي وعن مضمون ومصير النظام العالمي الجديد وعن صورة المستقبل.
يعرض دوغين كيف يعيد الباحثان دراسة الأنموذج الماركسي وتبدل المفاهيم في ظروف ما بعد الحداثة. فالعمل الذي كان في المرحلة الصناعية ميزة من مزايا البروليتاريا، أصبح اليوم منتشراً وموزعاً ومنزوعاً من أي مركزية.
ذلك أن “الجموع” تصبح هي الحامل للعمل في الحقبة ما بعد الحداثية وليست الطبقة العاملة. وهنا ينشأ السيناريو الأساسي للمواجهة بين “الإمبراطورية” والجموع. باختصار “تبدل كل شيء في عصر ما بعد الحداثة”.
في مكان آخر يقول دوغين: “تصبح وسائل الإنتاج الأخرى مثل أجهزة الكومبيوتر، جزءاً ضرورياً من الجسم البشري ومن ثم تصبح مندمجة معه في نظرية” السيبورغ” من وجهة نظر نيغري وهارت. السيبورغ هو ذلك الكائن الذي جمع بين عنصر الإنتاج (الإنسان) وأداة أو وسيلة الإنتاج.
لا يقدم الباحثان أي بديل إيجابي كما أن الوسائل التي يقترحانها لمكافحة الإمبراطورية “مثيرة للسخرية” بحسب تعبير دوغين. فهما يقترحان كل ضروب الفوضى أو التحرر غير المسؤول ويعتبران أن بهذه الطريقة تجد الجموع في الإمبراطورية الميزات الإيجابية كفرص التحرر. فالإمبراطورية تمنح الجموع فرصة أن تكون هي ذاتها.
جوهر فكرتهما أنه لا يجوز عرقلة الإمبراطورية وإنما يجب دفعها إلى الأمام بأسرع وقت ممكن لتصبح شاهداً أو مشاركاً في تحولها أو انتقالها النهائي.
تبدو مقترحات نيغري وهارت، كما يفسّرها دوغين، متناقضة وغير ناضجة.
دوغين يطالب روسيا “برفض وإنكار عظيمين للإمبراطورية والبحث عن بديل جبار وجدي يوافق روحنا وفضاءاتنا المترامية” وبديل دوغين هو الأوراسية.
وقبل أن يعرض لمشروعه الأوراسي بالتفصيل، يطالب دوغين روسيا أيضاً بتحديد موقفها من العولمة أحادية القطب لأن “انخراط روسيا في هذه العملية على المدى الطويل سوف يؤدي إلى اندثارها وغيابها كبلاد عظيمة وباعتبارها نواة لحضارة أرثوذكسية خاصة”.
كما يعتبر أنه لم يعد من المجدي قيام التحالفات وعلاقات الصداقة على أسس إيديولوجية لأن السمة الإيديولوجية التي سادت أيام الاتحاد السوفياتي السابق “كانت تخلق في بعض الظروف المحددة سلسلة من العقبات الجدية أمام تعزيز النفوذ السوفياتي، ولاسيما في مناطق “العالم الثالث” حيث كانت تتفوق المشاعر الدينية (أفغانستان وإيران والدول العربية)”.
ويرى الكاتب أنه “لا يمكن لروسيا باعتبارها دولة وطنية حصراً في إطار حدودها الحالية أن تصبح قطباً حتى ولو كانت الظروف مناسبة”، وليس ثمة مخرج أو بديل ناجح سوى الفكرة الأوراسية.
الأوراسية
يذكر دوغين أن كثيراً من المصطلحات والمفردات السياسية فقدت معناها الأصلي بسبب التكرار إضافةً إلى وجود ظواهر فقدت مغزاها التاريخي مثل الاشتراكية والرأسمالية والديمقراطية والفاشية في حين أن مفهوم الأوراسية لم يمسّ، وذلك أن الفكرة الأوراسية باعتبارها فكرة اجتماعية سياسية وفلسفية قد ولدت في القرن العشرين ثم اكتسبت في القرن الواحد والعشرين أهمية بالغة.
وهو يرى أن عدم وضوح هذا المفهوم إلى جانب قابليته للتفسير الواسع لا ينبع من كونه ممحواً بل لأنه “لا يزال يقوم في مرحلة المخاض”.
يمكن تعريف الأوراسية وفق عدة مستويات، المستوى الأول هو أن الأوراسية كظاهرة كونية وعالمية لا ترتبط على الإطلاق بقارة أوراسيا بصورة مباشرة وباعتبارها موضوعاً جغرافياً.
تمثل الفكرة الأوراسية بالمعنى العالمي موقفاً معادياً للعولمة، وذلك لأنها تشكل نكراناً ورفضاً للنظام الذي تفرضه الأطلسية.
يوضح دوغين قائلاً: “كما هو الحال عندما نتحدث عن الأسلوب الأوروبي وعن الثقافة الأوروبية، يمكننا أن نقصد إضافةً إلى أوروبا كل من اليابان أو أميركا اللاتينية ذلك لأن أوروبا هي الأخرى مفهوم فريد تحول من مفهوم ضيق جغرافياً إلى مفهوم كوني، على هذا النحو يكون الإعلان عن الفكرة الأوراسية نوعاً من فلسفة إيجابية من دون أي ربط لها بالجغرافيا”.
يقدم المؤلف نظريته الأوراسية “كمفهوم ثوريّ عالمي” وأنها “ماركسية القرن الحادي والعشرين”.
المستوى الثاني
فكرة دمج العالم القديم (أوروبا الكبرى) في فضاء استراتيجي واحد هو المستوى الثاني من الفكرة الأوراسية، “المبدأ القاري أو القارية”. وهو يقوم على أسس روحانية ودينية. يقول دوغين “يعد هذا المستوى من تعريف الفكرة الأوراسية باعتبارها دمجا وتكاملاً للعالم القديم، مرتبطاً بالعامل الجغرافي، ولكنه مع ذلك أوسع بكثير مما كان يفهمه الآباء المؤسسون لفكرة الأوراسية”.
المستوى الثالث
هو دمج الفضاءات الثلاثة الكبرى أو ما يعرف بمشروع المنطقة الرابعة. هنا ينتقل المؤلف إلى إطار السياق الجغرافي لمشروعه وهذه الفضاءات هي أورو-أفريقيا( يمتد من بحر الشمال حتى الصحراء شبه الاستوائية ويضم منطقة البحر المتوسط والعالم العربي وأفريقيا السوداء). الفضاء الثاني هو القارية الروسية- الآسيوية (تضم كلاً من روسيا ومساحات في آسيا الوسطى مع جزء من شرق أوروبا، ووسط آسيا إضافة إلى أفغانستان وجزئياً باكستان والهند وإيران مع احتمال أن يكون لهذه المنطقة تأثير معين في تركيا). هذا الفضاء رتّبه دوغين على اعتبار أن الإسلام القاري في هذه البلدان يختلف ثقافياً عن الإسلام في الدول العربية.
الفضاء الثالث هو منطقة الباسيفيك الصينية- اليابانية.
تعبّر تلك الأقطاب الثلاثة – في رأي دوغين -عن “فوالق حضارية يمكن إقامة تحالف بينها على أسس جيوسياسية تنتمي جغرافياً إلى القارة الأوراسية المتكاملة وفق محور شمال- جنوب”.
المستوى الرابع
يشير به دوغين إلى عملية التكامل الروسي الآسيوي (محور موسكو- طهران، موسكو- دلهي). هذان المحوران يقدمهما المؤلف كحوامل للتكامل الأوراسي على المستوى الرابع.
المستوى الخامس: هو تكامل الفضاء ما بعد السوفياتي حيث يصبح أشبه باتحاد أوراسي له دستوره ونظمه ومبادئه.
المستوى السادس: يحدد دوغين في هذا المستوى العقيدة الأوراسية أو الفلسفة التي يرغب أن تقوم على التقليدية أي الإيمان بالقيمة الثابتة والراسخة للماضي وفي الأهمية الكبيرة للتقاليد والجذور التاريخية والأصول.
لا يكتفي دوغين بتحديد مستويات مشروعه بل يقدم نظرية اقتصادية لأوراسيا الجديدة التي ينشدها ويسمّيها” فرضية الخلود” والتي نجد فيها بوضوح بعض مرتكزات الفلسفة الماركسية. فعلى سبيل المثال يقول دوغين إن الفلسفة الأوراسية تنظر إلى التطور الاقتصادي للمجتمع بأنه يجري بطريقة لولبية أو على شكل حلقات وأدوار وهي فكرة ماركسية (التطور الحلزوني أو اللولبي)، بمعنى أن كل تقدم لا بد أن يعقبه تقهقر وتراجع. ولأجل تعميم هذا “الاستيعاب الدوري للتاريخ وفهم ازدواجية التحديث”، ينادي دوغين بفرضية الخلود أو نوع من البعد العمودي والروحي وإسقاط ذلك على ميدان الاقتصاد. بتحديد أكثر، “يجب النظر إلى أي وضع اقتصادي على أنه ذو طبيعة دورية، ولكي يتم تقويم الحالة الاقتصادية لا بد من وضعها في سياقها التاريخي والثقافي والجغرافي، وأيضاً الوطني والديني”. وهنا ينتقد دوغين استخدام المقاييس العالمية وحيدة الاتجاه على حالات مختلفة مثل وصفات صندوق النقد الدولي التي كانت لها نتائج كارثية على العديد من البلدان.
برغم تعقيد أفكار ألكسندر دوغين وتناقضها وعدم وضوحها في كثير من المحطات، تخرج من قراءة الكتاب وأنت تحمل يقيناً سياسياً أن الحرب الروسية الأوكرانية لن تتوقف في القريب العاجل وأن روسيا تعتبر هذه الحرب معركة وجود وإعادة تموضع جيوبوليتيكي لن تتراجع عنه، وأن هذه الحرب كذلك فرصتها لتبيّن للعالم أجمع أن قمة براتيسلافا (عام 2005 بين كل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي أنذاك جورج بوش الإبن، والتي كانت تحديداً صريحاً لحجم روسيا الجيوبوليتيكي وحدود صلاحياتها وعلاقاتها وسياساتها الإقليمية) قد انتهت. ولن يحدد أحد لروسيا حدودها إلا هي نفسها وربما دفع دوغين ثمناً لأفكاره ما هو أغلى من حياته باغتيال ابنته بدلاً عنه منذ عدة أشهر.
الكتاب: الجغرافيا السياسية لما بعد الحداثة – عصر الامبراطوريات الجديدة – خارطة العالم الجديد
تأليف: ألكسندر دوغين
ترجمة: إبراهيم استنبولي، 475 صفحة.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2022.
سيرياهوم نيوز1-الميادين