تقوم السلطات المالية في الدول الغربية بمحاولات خجولة لمحاربة التضخم، إلا أنه ومع مواجهة أولى المصاعب، ستعاود اللجوء فورا إلى طباعة النقود غير المغطاة.
لعل الولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة التي تخوض المعركة الأشد والأكثر اتساقا ضد التضخم، التي ترفع سعر الفائدة (إلى 3.25% في ظل تضخم بنسبة 8.3% في أغسطس الماضي)، وتحاول خفض كمية الدولارات المتداولة، دون أن تعمل تلك الإجراءات على النحو المخطط لها.
وأصبح معدل الفائدة في الولايات المتحدة الأمريكية الآن أعلى بكثير مما هو عليه في الدول الغربية الأخرى، وهو ما دفع رأس المال من جميع أنحاء العالم إلى الولايات المتحدة، وبدأ الدولار في الارتفاع مقابل معظم العملات الأخرى.
من جانبه رفع البنك المركزي الأوروبي سعر الفائدة إلى 1.25% (في ظل تضخم وصل في ألمانيا إلى 10.9% في سبتمبر الماضي).
ونتيجة للتضخم الزائد على الدخل من السندات بجميع الدول الغربية، بدأ المستثمرون في الفرار من السندات الحكومية.
نتيجة لذلك، ارتفعت الفائدة على السندات الألمانية ذات العشر سنوات لهذا العام من 0.4% إلى 2.3% الأسبوع الماضي، بينما ارتفعت الفائدة على السندات الإيطالية من 0.5% إلى 4.9%.
بمعنى أن مدفوعات الديون والعبء على الميزانية بالنسبة لألمانيا زادت بمقدار 3 أضعاف على مدار العام، وبالنسبة لإيطاليا بمقدار 5.5 أضعاف. وهذا لا ينطبق على الحكومة فحسب، وإنما يطال كذلك الشركات والأشخاص العاديين.
ولن تتمكن ميزانيات بلدان جنوب أوروبا من خدمة الديون من دون ضخ عشرات المليارات من اليورو شهريا. في الوقت الذي لا يوجد فيه مكان لأخذ المال من أجل ذلك، باستثناء “التيسير الكمي”. ومع ذلك، توقف البنك المركزي الأوروبي عن طباعة الأموال غير المغطاة اعتبارا من 1 يوليو. ولإنقاذ جنوب أوروبا، يقوم البنك المركزي الأوروبي بتحويل الأموال من سندات دول الشمال إلى سندات الجنوب. نتيجة لذلك، سيغرق شمال وجنوب أوروبا معا.
كذلك توشك إيطاليا واليونان وغيرهما من الدول المفلسة على الدخول في أزمة كبيرة في الميزانية والديون، ولمواجهة ذلك سيضطر البنك المركزي الأوروبي لا محالة إلى طباعة تريليونات من اليورو غير المغطاة، والتي ستؤدي بعد بعض الوقت إلى ارتفاع التضخم.
وبطبيعة الحال، أدى كل هذا إلى انخفاض قيمة اليورو مقابل الدولار، حيث انخفض اليورو بنسبة 15% منذ بداية عام 2022، وأكثر من 20% منذ مايو 2021.
كانت بريطانيا الأكثر غباء والأقل توفيقا، حيث بدأت ليز تراس “محاربة التضخم” بدعم الطاقة وخفض الضرائب، وكلا المقياسين يزيد من إنفاق الميزانية بنحو 150 مليار جنيه إسترليني، ما يدفع الحكومة إلى طباعة النقود مرة أخرى وزيادة التضخم.
في الوقت نفسه، رفع بنك إنجلترا من سعر الفائدة ليصل إلى 2.25% مع تضخم قدره 9.9% في أغسطس.
أدت تلك الإجراءات إلى انخفاض الطلب على سندات الحكومة البريطانية وهروب رأس المال من بريطانيا. وفي سبعة أيام تداول، ارتفع سعر الفائدة على السندات الحكومية لمدة ثلاث سنوات من 3.05% إلى 4.68%، ما أجبر البنك المركزي على استئناف التيسير الكمي والإعلان عن شراء سندات بقيمة 65 مليار جنيه إسترليني.
بدوره انخفض الجنيه البريطاني إلى 1.03 جنيه للدولار الواحد، وهو أدنى مستوى له على الإطلاق. في المجموع كان الانخفاض 18% هذا العام، وحوالي 25% من مايو 2021. اضطر بنك إنجلترا لبدء التدخل في النقد الأجنبي لدعم الجنيه، ومع ذلك فإن احتياطي النقد الأجنبي في بريطانيا يبلغ 80 مليار دولار فقط، ما يدعو إلى التشكيك في قدرة البنك المركزي على الاحتفاظ بالعملة البريطانية.
نتيجة لذلك، اضطرت الحكومة البريطانية إلى إلغاء التخفيضات الضريبية، لكنه من غير المرجح أن يؤدي ذلك إلى تحسين الوضع.
بالتزامن، يحاول الغرب الانتقال إلى تنظيم الأسعار: أولا، من خلال دعم أسعار البنزين والغاز وغيرهما. وثانيا، من خلال محاولات خجولة في الوقت الحالي لتنظيم الأسعار إداريا، أي أنهم ببساطة سيطلبون من الشركات عدم رفع الأسعار. بطبيعة الحال، فإن الدعم من خزينة الدولة سيؤدي إلى تفاقم أزمة الميزانية، وستؤدي القيود الإدارية إلى عجز وتضخم.
كذلك هناك اتجاه آخر للانهيار وهو صناديق التقاعد الأوروبية، وخاصة البريطانية، والتي تواجه التزامات بالدفع بغض النظر عن الخسائر، حيث يؤدي ارتفاع التضخم وانخفاض المخزونات إلى انخفاض قيمة المدخرات، في حين أن نهاية التسهيل الكمي وتدفقات رأس المال الخارجة تجعل من المستحيل الحفاظ على أهرامات الديون الخاصة بها. لذلك فصناديق التقاعد في طليعة حالات الإفلاس.
يضاف إلى ذلك الشائعات حول الإفلاس المرتقب لأكبر البنوك الأوروبية “كريديه سويس” و”دويتشه بنك”، حيث تعجز البنوك جميعا على البقاء في ظروف يكون فيها سعر الفائدة أقل من التضخم. وأدى توقف التيسير الكمي، وسط تراجع البورصات، إلى حرمانها من مصادرها الأخيرة لتدفقات رأس المال والأرباح. ربما، في الأشهر القادمة، أو حتى الأسابيع المقبلة، قد نشهد انهيار بعض أكبر البنوك والانتشار السريع للأزمة المصرفية، أولا في أوروبا، ثم في كل مكان. ما لم يستأنف، بالطبع، الاتحاد الأوروبي والغرب ككل طباعة النقود غير المغطاة، وأغلب الظن أنهم سيستأنفون، لكن التضخم سيتسارع بشكل حاد بعد ذلك.
باختصار، فأينما نظرت، تتفاقم الأزمة في كل مكان، وفي الشتاء سيضاف إلى كل ذلك أزمة الطاقة.
ينزلق العالم نحو عاصفة نموذجية، لا أعتقد أن انتظارها سيستغرق وقتا طويلا. وأظن أن ذلك سوف يسرّع كل العمليات السياسية، ومسار الصراع العسكري بين روسيا والغرب.
سيرياهو نيوز 6 – رأي اليوم