أعتقد أن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، سيقدّم إنذاراً للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، والأخير سيرفضه، ويقدّم إنذاراً مضاداً.
في الربيع الماضي، وخلال الأزمة الأولى بشأن أوكرانيا، وصف بايدن الرئيس الروسي بالقاتل. وعلى الفور، دون انقطاع، طلب منه عقد لقاء في يونيو بجنيف.
منذ ذلك الحين، زارت موسكو نائبة وزير الخارجية الأمريكي، فيكتوريا نولاند، ومدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ويليام بيرنز، وتجري اليوم الثلاثاء محادثة عبر تقنية الفيديو كونفرانس بين الرئيسين بوتين وبايدن. دعوني ألفت النظر هنا إلى أن كل تلك المحادثات والزيارات كانت بمبادرة من الجانب الأمريكي.
في نوفمبر، بدأت واشنطن حالة من الهستيريا في وسائل الإعلام الغربية بسبب هجوم روسي شتوي مزعوم على أوكرانيا. في الوقت نفسه، وكما حدث في الربيع، نشرت أوكرانيا الآن مجموعة من 120 ألف جندي حول إقليم الدونباس. يمكن لواشنطن في أي وقت أن تبدأ حرباً بأيدي أوكرانيا ضد جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك. ولن يكون أمام روسيا أي فرصة لتجنّب هذا الصراع، حيث يعيش في هذه الجمهوريات ما يربو عن 500 ألف مواطن روسي، قد يتعرّضون للإبادة الجماعية من قبل كييف. في الوقت نفسه، ستتيح الحملة الإعلامية الغربية، التي تم شنّها سلفاً، للغرب إلقاء اللوم على روسيا، وقبول “العقوبات الجهنمية” ضدها.
نضيف إلى ذلك أيضاً الأزمة حول بيلاروس. فقد نشرت بولندا ما يصل إلى 20% من قواتها المسلحة على الحدود مع بيلاروس، وهو ما حمل ظاهرياً ذريعة محاربة بضعة آلاف من اللاجئين العرب والأكراد، بينما تطالب بولندا وليتوانيا وبريطانيا بدماء موسكو (اعتماد عقوبات جديدة من الاتحاد الأوروبي، وتجميد “السيل الشمالي-2”)، وتحاول بشتى الطرق استفزاز بيلاروس وجرّها نحو حرب، لا يمكن لموسكو أيضاً أن تتجنب المشاركة فيها، نظراً للتحالف العسكري مع بيلاروس.
وهكذا، تصعّد الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال الابتزاز، الضغط على روسيا، إلا أنها، وفي الوقت نفسه، تظهر رغبة شديدة في المفاوضات. لا يعود هذا السلوك غير المنطقي لحالة الرئيس بايدن، ولا إلى صراع أجنحة ذات أجندات مختلفة داخل البيت الأبيض، وإنما لبعض الارتباك، ومحاولة الولايات المتحدة الأمريكية حل قضايا تلغي بعضها بعضاً.
فالولايات المتحدة الأمريكية على شفا كارثة اقتصادية وحرب أهلية، والانتخابات المقبلة للكونغرس الأمريكي، في نوفمبر 2022، والرئاسة في 2024، سوف تكون أكثر انفجاراً من الانتخابات السابقة، التي فُرضت نتائجها على الأمة الأمريكية بمساعدة القوات المسلحة الأمريكية التي نزلت إلى شوارع واشنطن.
في الوقت نفسه، وفي غضون سنوات قليلة، ستقوم روسيا والصين، معاً أو بشكل منفصل، بخفض مكانة الولايات المتحدة الأمريكية إلى منزلة القوة الإقليمية، ما سيحرم الدولار من مكانة العملة العالمية، وهو ما سيتبعه انهيار الاقتصاد الأمريكي، وانتقال الحرب الأهلية من حالة الاشتعال إلى حالة الحرب المفتوحة والنشطة. لذلك لم يعد أمام الولايات المتحدة الأمريكية سوى بضع سنوات فقط لمحاولة تغيير ذلك المصير، لابد من الإسراع.
كذلك فإنه من المستحيل هزيمة روسيا بالوسائل العسكرية، وإنما يمكن خنقها اقتصادياً. على العكس من ذلك، لا يمكن خنق الصين اقتصادياً، وإنما لا يزال من الممكن، خلال السنوات القليلة المقبلة، هزيمتها بالوسائل العسكرية. كلا الخيارين مستحيلان في حالة وجود تحالف بين موسكو وبكين، والذي يكاد يكون موجوداً بالفعل، ينتظر فقط إضفاء الطابع الرسمي عليه.
وعليه، فإن المهمة الرئيسية أمام الولايات المتحدة الأمريكية الآن هي كسر هذا التحالف، حيث أن واشنطن مجبرة على المغازلة والضغط على كلا الخصمين في نفس الوقت، حتى لو بدا الأمر من الخارج وكأنه طيف من الجنون.
في الوقت نفسه، تضطر الولايات المتحدة إلى العمل على خطة لمجابهة وضع التحالف الحتمي بين روسيا والصين، خاصة وأن هستيريا “رشا غيت” قد جعلته كذلك على الأرجح.
في هذه الحالة، يدفع ميزان القوى والأدوار في مثلث واشنطن-موسكو-بكين الأحداث، كما أراه، نحو التسلسل التالي: التحييد المؤقت لروسيا بحرب في أوروبا، دون مشاركة مباشرة من الولايات المتحدة الأمريكية – تدمير الصين من خلال حصار بحري من قبل قوات “أوكوس” AUKUS وانهيار اقتصادها – الخنق البطيء لروسيا بالعزلة الاقتصادية.
يمكن تحييد روسيا من خلال توريطها في نزاع عسكري بأوكرانيا وبيلاروس وأرمينيا وترانسنيستريا معاً أو بشكل منفصل.
لهذا فإن إنذار بايدن سوف يكون إما الحرب، أو يتعيّن على موسكو أن تتقبل المزيد من تقدم “الناتو” نحو الشرق والبقاء على الهامش أثناء صراع الولايات المتحدة الأمريكية مع الصين. الآن، أصبح كل شيء معدّاً لتنفيذ التهديد في نقطتين على الأقل: في الدونباس وفي بيلاروس.
وماذا عن موسكو؟
بالنسبة لموسكو، فإن مجال المناورة محدود للغاية. فإذا أرادت الولايات المتحدة الأمريكية توريط روسيا في الحرب، فلن تستطيع الأخيرة التهرّب من المشاركة فيها. في الوقت نفسه، فإن صراعاً محدوداً مع حليف أمريكي، سيؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى هزيمة استراتيجية لروسيا.
لذلك لا يبقى في هذه الحالة سوى طريق واحد، وهو تصعيد نزاع عسكري محتمل إلى مقاييس غير مقبولة للولايات المتحدة الأمريكية، وتحتّم مشاركتها في الحرب.
أعتقد أنه في حالة نشوب حرب، فإن موسكو لن تبقيها محدودة على الدونباس أو بولندا أو حتى أوروبا، بل ستحاول في أقرب وقت ممكن تصعيد الأمر إلى مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن عن بعد، وعلى أراضي دول ثالثة. حينها، سيكون الخيار أمام واشنطن بين إلحاق أضرار كارثية بحلفائها (هنا قد يكون حلفاء واشنطن العرب أكثر ملاءمة لذلك الغرض من أوروبا)، وبين المشاركة في الحرب مباشرة.
في الوقت نفسه، ستكون الضربات على الأراضي الروسية محفوفة بتبادل الضربات النووية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما سيجعل أي هزيمة عسكرية لروسيا في حرب واسعة النطاق أمراً مستحيلاً.
وستجعل خسائر الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب بكين منتصرة تلقائياً فيها، وستؤدي إلى انهيار اقتصادي وتفكك الولايات المتحدة، وهو سيناريو لا تستطيع واشنطن القبول به.
بالطبع، رفضت موسكو مراراً وتكراراً تكتيك “التصعيد من أجل التهدئة”، الذي ينسبه إليها محللون أمريكيون، في سياق صراع نووي محتمل مع الولايات المتحدة الأمريكية، لكني، وبصفتي لست مسؤولاً حكومياً، أراه تكتيكاً ليس منطقياً فحسب، وإنما طبيعي أيضاً بالنسبة لدولة لديها ورقة رابحة واحدة فعّالة ضد “الناتو”: القوة النووية الاستراتيجية.
نشهد في الأشهر الأخيرة خطابات قاسية بشكل متزايد من موسكو. وألمح فلاديمير بوتين إلى أنه في حالة أي عدوان على الدونباس، فإن الدولة الأوكرانية تخاطر بوجودها كدولة.
وفي خطابه أمام الجمعية الفدرالية، 20 فبراير 2019، تعليقاً على خطط الولايات المتحدة الأمريكية نشر صواريخها في أوروبا، قال بوتين إن روسيا ستتخذ إجراءات انتقامية ليس فقط “ضد تلك المناطق التي توجد على أراضيها هذه الصواريخ، ولكن أيضاً ضد مواقع اتخاذ القرار”، أي الولايات المتحدة الأمريكية.
هل حان الوقت لاستخدام “نوفيتشوك” مع الرئيس الأوكراني؟
واسمحوا لي أن أذكركم بما قامت به بريطانيا من استفزاز بانتهاك مدمرتها “ديفندر”، 23 يونيو الماضي، المياه الإقليمية الروسية قبالة شبه جزيرة القرم. ما دفع المقاتلة الروسية إلى إلقاء القنابل في اتجاه مسار السفينة، ولكن على بعد مسافة آمنة، بينما قالت روسيا إنها لن تكتفي بإطلاق تحذيري للنار المرة القادمة، وستباشر إطلاق النار بغرض الإصابة والإغراق. تعليقاً على الحادث، أعرب بوتين عن ثقته في أن إغراق الجيش الروسي لسفينة بريطانية، لم يكن ليصبح سبباً في اندلاع الحرب.
من ناحية أخرى، فقد أعلن بوتين، وبشكل مباشر ومتكرر، عن استعداده لمواجهة عسكرية ليس فقط مع “الناتو”، ولكن أيضاً مع جوهره الفاعل: الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.
ولا نذكر أوروبا هنا لهامشيتها. فلم يعد أحد يهتم بها، سوى كوقود للمدافع الأمريكية، دون أن يكون لها حتى حق التصويت. وليس من قبيل المصادفة أن تعلّق موسكو عمل بعثتها لدى “الناتو”، حيث أن المحادثات أصبحت تجري مع واشنطن بشكل مباشر دون وسيط.
فلماذا إذن وافق بوتين على التحدث إلى بايدن؟
إن المطالب الروسية التي تم تحديدها، عشية محادثة بوتين وبايدن، أوسع بكثير من قضية أوكرانيا.
فقد تذكرت موسكو التزامات الولايات المتحدة الأمريكية لغورباتشوف، بعدم توسيع الناتو نحو الشرق. تطالب روسيا اليوم، ليس فقط بالتزام رسمي قانوني بعدم زيادة توسّع “الناتو”، ولكن أيضاً بعدم نشر الصواريخ النووية الأمريكية وغيرها من الصواريخ على الحدود الغربية لروسيا. للتذكرة، أعلن الأمين العام لحلف “الناتو”، ينس ستولتنبرغ، مؤخراً عن إمكانية نقل الأسلحة النووية الأمريكية من ألمانيا إلى بولندا.
وبالنظر إلى الهستيريا المعادية لروسيا، السائدة في الغرب، وتراجع شعبية بايدن، فإن الموائمات العلنية قد أصبحت من ضرب المستحيلات.
وفي ظل غياب الثقة المتبادلة، فإن صيغة المحادثة عبر تقنية الفيديو كونفرانس تستبعد إمكانية المساومات السرّية، وتقديم تنازلات غير معلنة.
فموافقة واشنطن على مراعاة المصالح القومية لروسيا هو أمر مستحيل، لأن النخب الأمريكية ترفض الاعتراف بالواقع الجديد للأمور.
وموافقة بوتين على التخلي عن الخطوط الحمراء في أوكرانيا والتحالف مع الصين هي الأخرى مستحيلة.
على هذا النحو، فإن محادثة اليوم، الثلاثاء 7 ديسمبر، بين الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والأمريكي، جو بايدن، ليس لها أي فرصة في النجاح، ابتداءً.
ليصبح هذا الاجتماع ليس أكثر من إجراء يشبه ما يفعله الملاكمون قبل المباراة، بوزن أجسامهم، وإظهار قوة إرادتهم لخصومهم.
ربما ينجح بوتين في كسب مزيد من الوقت، بإظهار عزمه وحسمه، لكني أعتقد أن التناقضات غير قابلة للحل، وأصبح التصعيد أمراً لا مفر منه، ولم تعد سوى مسألة وقت فحسب.
لسوء الحظ، أصبح من المستحيل إيقاف العدوان الأمريكي بدون “أزمة صواريخ كوبية” جديدة، تضع النخب الأمريكية والمجتمع الأمريكي أمام حدود قدراتهم الحقيقية.
وأعتقد أن العالم يتجه نحو مثل هذه الأزمة، لكن الأمر هذه المرة أسوأ، بعد أن أفسد النخبة الأمريكية 30 عاماً من العالم أحادي القطب.
سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم