أنس أبو عون
في زمن الحرب، لا مساحة للحديث عن الجمال عبر الفن على أنواعه، أكان في الموسيقى أو الرقص. حتى إنّ مفهوم الجمال ينحصر غالباً في شباب في مقتبل العمر يضعون عبوة على دبابة، أو في عائلة تعيد ترتيب منزلها المدمّر لتعزز صمودها، أو حتى في فتيان يصنعون ألعاباً يروّضون بها الحياة. تضعف كل الجماليات الفنية أمام جمال رغبة الناس في الحياة وإصرارهم على القتال من أجلها. لذا يبدو كل فعلٍ فني، ضعيفاً ومهزوزاً ولو كان في الشكل والمحتوى يؤازر الناس في الحرب ويدعمهم. هذا نابع من مقارنة خاسرة مسبقاً، بين الفعل نفسه وما يحيط به من إسناد أو دعم. هذا في زمن أي حرب، فما بالك حين تكون هذه الحرب حربنا نحن وفي زماننا هذا، إذ تهاوت عدد من الأسقف وسقط عدد ممّا كنا نظنه عالياً.منذ بداية المذبحة بحقنا، والكثير من الأسئلة المرتبطة بجدوى الفنون الأدائية تضعنا بين متقابلين: الأمل والخيبة. بتنا نرى الأشياء إما معركة شاملة لا وقت للفن فيها أو حياة ناقصة نمارس فيها بعض الفنون. هذا سؤال يشكّل جزءاً من أزمة عاشها ويعيشها واقع الثقافة في فلسطين منذ أوسلو تقريباً. لذا ليس لأحد جواب واحد ثابت طوال الوقت سوى بعض الفاعلين قبل أوسلو، أو الذين ربطوا مشروعهم الثقافي بالقضية السياسية وبالتالي القضايا الاجتماعية.
وفي حين تتدحرج حياتنا نحو ضوضاء وفوضى وتيه، ربما علينا المضي فيه وحدنا من دون نبي ولا إرشادات إلهية؛ يحاول بعضنا لملمة الآخر في هذا الشتات، تماماً كلملمة أشلاء أطفالنا عن الصواريخ، كأننا ألف محيط، كأننا ألف سفينة، فلا هدي في أفقٍ، ولا ترقّب ليابسة. هنا تأتي بعض العروض الفنية، والمشاركات، والمعارض، والأفلام، والأغاني في سياق لملمة الجرح. من هذا المنطلق، دخلنا مسرح «أكاديمية عمان» لحضور عرض يقدّمه الفرع الأردني من «معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى». كان في انتظارنا 120 موسيقياً ومغنياً من فلسطين، والأردن، ولبنان، وسوريا، وبعض الدول الأوروبية. المسرح مضغوط بعنف، فلا حيزَ لصنع الجماليات لكنها الكوفية تُعيد ضبط الزمكان، فلا يبدو شيء نشازاً. ضبطٌ سريع للآلات، صمت، وتدخل لامار إلياس ابنة بيت لحم وعمرها 24 سنة لقيادة الأوركسترا. يصفق الجمهور بشغف، ثم يليه صمت.
بدأ العرض بـ «أحمد العربي». ولمن لا يعرف هذه الغنائية، فإن مدخلها يشبهُ تسلّل ضوء الفجر على ظهر سحابة من طمأنينة، تجسّدها الكمنجات، ثم يتبعها صهيل الشمس في جوقة هادرة. هذه البداية كانت كافية لهز القلب من مكانه فأي فجرٍ هذا الذي سيأتي لشعبنا بعد كل هذا؟ واستمر العرض: تخرج لامار بعد كل مجموعة من المقطوعات وتعود. وتدخل الجوقة وتخرج ويدخل عازفون ويخرج آخرون. حركة مستمرة من العزف والحياة والنبض. من الناحية التقنية، جاء العرض متقناً إلى درجة الإبهار، من حركات أقواس الكمنجات ونظرات العازفين، وحرفية الإيقاع، وضبط الطبقات، وصولاً إلى الشعر المتطاير يقفزُ كسنابل القمح بين جملة وأخرى، وتوقيت النهايات من سلاسة البدايات، وعنفوان الجوقة ولطفها، ومخارج الحروف وغيرها من تدريب تسعة أيام أمضتها «أوركسترا فلسطين للشباب» ( التابعة لــ «معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى») في جرش.
تولّت لامار إلياس ابنة بيت لحم قيادة الأوركسترا
أما من ناحية البرنامج الفني؛ فكان ذلك السهل الممتنع، الذي نعرفه كشعب، ويعرفنا كضحايا تحارب كل جلاديها. نشيدنا الثابت منذ ولادتنا كقضية، مقاتلون يسعون إلى الحياة بكرامة من دون خدش أو نقص. هذا التكثيف يريح القلب، فالقضية ــ رغم تعقيدها السياسي ـــ إلا أنها في النهاية المطلقة قصة شعب يريد حريته، نقطة. كل الأغاني والموسيقى والقصائد والأحزان والأحلام تعود – رغم كل المستويات – إلى جذرها الأول هذا. وهذا غالباً ما يريح القلب من ضوضاء السياسة. فعزاؤنا كضحايا هو إيماننا المطلق بالنصر. ليس مهمّاً مصدر هذا الإيمان بقدر ما هو إيمان ثابت، وهذا ما عاد به عرض «غزة… التضحية والبطولة».
أما المقطوعة الأخيرة من العرض «مريم غزة»، فكانت تجلياً لملحمتنا المصيرية «أثمة سلامٌ لنا على الأرض؟». هنا صعد الكاتب إبراهيم نصر الله على المسرح برفقة لامار. صفّق الجمهور والعازفون، ألقى قصيدته الأخيرة يرافقه العازفون، ثم أكملت الجوقة الكلمات لحناً لسهيل خوري:
السّلامُ على الأرضِ ليسَ لنا
ليس لابني أو ابنكِ، مريمُ قالت لمريمَ..
يا أُختَ أرضي وأختَ خطايَ على الأرضِ
يا أُختَ روحي وأختَ صلاتي
وأختَ الضُّحى في الوضوحِ وأختَ مماتي العظيمِ هنا
وما قد تبقّى لنا من مماتٍ وما قد تبقّى لنا من حياةِ.
السّلامُ على الأرض ليس لنا
أهذي السماءُ التي فوقَنا لا ترانا؟
أَم أنَّ الصليبَ على ظهرنا
في حقول الدَّم المرِّ يحجُبُنا
كان إبراهيم نصر الله يسأل، وفي رأسنا أهل غزة يسألون، وأهل القدس وكل فلسطين يسألون. نهيمُ على وجوهنا ونسأل. نفكر أن مصيرنا الأبدي هذا هو ضريبة البشرية كي تعيش، ونسأل عن مسيحنا المعذب وعن نبيّنا المشرد. ونسأل عن جدوى الحياة وعن معاني الموت الكثيرة، والسؤال أبعد من السياسة وأعمق من الفلسفة. سؤالنا وجودي بكل ما تحمله المرارة من دمٍ وتعبٍ وعجز، فنحن نُقتل بكل أنواع القتل حداثةً. تتناقض الحضارة في جسدنا، تنهار القيم كلها بسمائها وبشرها في جراح الأطفال، وتذوب كل المحاضرات والاجتماعات بنظراتهم كما يذوب الملح. دخل الجمهور في دوامة من الصمت، والبكاء، والدهشة، والارتعاش، والتساؤل، كأنّ العرض أعاد فتح الباب الذي خُلع منذ تسعة أشهر، وهي العودة إلى الجذور، العودة إلى الأساس.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية