وتطل من نافذة تركها أبو عبيدة في أحيائها قبل أن يبدأ الزمن.. ترسم ابتسامتها العذبة.. تتقدم بطولها.. الخشب المتداعي يصبح صلباً! يسند جذعها ليعطيه قوة، لا يقترب الضعف من الخشب المصنوع من أرضها، المدهون بلون تربتها.. بعض بقايا الطرش الأبيض تصل أطراف الخشب المدهون بالتراب.. يرسم نجماً بعبثية الخرقة التي تستخدمها للطرش الأبيض، ذاك الذي صنعته أمه بيديها حين تركته في الماء أياماً، لتفوح منه رائحة تسكن الجدران حتى يأتي موسم الطرش من جديد مرة أخرى.. تطل من النافذة ترقب شوارع دمشق الممتدة ما بين جنة وأخرى.
وعندما ضاقت الدنيا.. وحين تناهبتها يد الزمن.. افتقدت الخرقة، ومغارة الطرش التي كانت الأم تأتي منها بالطرش، صارت أبنية عالية عالية، لم تقدر أعمدتها أن تستمد النسغ والرائحة من عروق الطرش العبقة، وصارت العروق تنهار رويداً رويداً تحت الأعمدة فيقال: هنا كان بناء.. لم يجد سوى الرائحة العبقة ليرتمي عليها، فانزلق على مساحة العطر..!
أمس كانت وكانت عبقاً
واليوم هي هي، تشتاق لعطر الروح المنزرع في الأنحاء.. لم تعد قادرة أن ترقب نجماً أو سماء، فالنجوم تشابهت عندها لجهلها، والسموات صارت ضوءاً وعتمة، شمساً وقمراً وحسب، ولا شيء آخر، ضاعت حدود الكواكب عندها، وتماهت الأشياء، ولم تعد قادرة على معرفة الأنواء والأشياء من ضوء نور الكواكب.. أشعلت حطبها، أضاءت دنياها، لم تلبث الدنيا أن برقت، وأرعدت، وهطلت، والسيل الغاضب جرف كل شيء، ولم يبقَ من الأثافي التي صنعتها لقدر من أثر، وفي غمرة انهماكها صارت خطوط الطين على وجهها والعينين وسائر الجسد، حاولت أن تفعل شيئاً، وحين انتهت من عشوائيتها اكتشفت أنها حفرت حفرة كبيرة لا تصلح إلا أن تكون قبراً، بيتاً، طمرت أحلامها، وراحت ترقب غداً قد يأتي وقد لا يأتي، حاولت ما بإمكانها أن تبقي عينيها مفتحتين، لكن النعاس غلبها، ولم تدرِ أنها إغفاءة الأبد، والسماء امتلأت نجوماً وكواكب رسمت معالم الحاضر الذي تريد!
خرساء كانت ولم تكن.. تتكلم وتعجز عن البوح.. تعتد بذاتها ولا تعرف هذه الذات
نطقت ذات يوم، فكان نطقها نغماً
عزفت ذات يوم، فكانت أنشودتها رقصة ستي
تمايل كل نغم على نغمها، وتراقص البحر على أنغام النقشبندي في شوارع الشام القديمة..
كان عزفه منفرداً
وكان نطقها خمرة معتقة..
ما بين لثغتها وريشة عود النقشبندي كانت الشام مختلفة في كل شيء
هي حاضر بديع يختصر كل العطور الفاخرة
وهي ماض.. النارنج فيه يعبق، ويحوّله إلى زوادة الغد
وحدها لم تكن أمساً.. بل امتدت عبر الزمن
وحدها لا تكتفي بساعة من زمن
عشرة آلاف سنة كانت.. استقدمت عمر النقشبندي، فكان نغمه أول ما جاء من سفينة نوح التي حملت ما سيبقى، وضع عوده على رأسها واستراح عشرة آلاف سنة حتى اطمأن، وصنع ريشة عوده من طير فؤاده وروحه، وما في الكون كريشته، أخذها، وأسند عوده إلى قلبه ليسمو إلى درجات عليا في صوفية الروح، وفي معارج غير مدركة إلا للريشة.
الحرب طالت كل شيء.. ودمّرت الحجر.. وغادر الأرض البشر.. وكان عود النقشبندي مهشماً محطماً على جنبات قاسيون، وريشته كانت تطير تائهة شاردة، لا تعرف نجوم السماء فتعلو، ولا تجد مكاناً آمناً في الأرض فتستقر! ووحدها المعزوفة كانت تنبعث من بيوت عاد إليها الطرش، وأحياناً تأتي ملوثة من أقبية، وصنعتها على جهاز كهربائي لا يحمل ريشة ولا يأخذ من دفق قلب المبدع الذي راقص حسناوات الشام منذ عشرة آلاف عام.. اعتقد بعضهم أن المعزوفة لن تتم فغادر غير آسف على شيء.. وبعضهم كان يرقب ابتسامة الصوفي، وحركات أصابعه، فانزرع في الأرض لا يغادرها، بانتظار أن ينبلح الفجر لمعزوفة لا تتوقف.
حين فاض الحنين
تناول الريشة من فضائها
جرّب وهو يخشى أن يعزف على روحه
تجمعت قطع العود المتناثرة، وتحلّق أساطين النغم
انزرع في جبهتها، فأعطته روحها ولم تلتفت للأمس
كانت ترقب الغد.. والقادم أجمل بكل نغم.
سيرياهوم نيوز 1-الوطن