الرئيسية » كتاب وآراء » أميركا: الدولة الأكثر معاداةً للديموقراطيّة حول العالم

أميركا: الدولة الأكثر معاداةً للديموقراطيّة حول العالم

| أسعد أبو خليل

في خضمّ الحديث عن الديموقراطيّة وعن نشر الديموقراطيّة يتوجّب تصنيف الدول التي تدعم أو تعيق الديموقراطيّة حول العالم. من الملاحظ، أولاً، أن برنامج نشر الديموقراطيّة في عالمنا (بعد الألفيّة) ترافقَ مع حروب غربيّة وحشيّة تركّزت على بلاد العرب والمسلمين. لكنّ الحروب المُدمِّرة التي انتشرت في بلادنا، بمسمّيات مختلفة، لم تفشل فقط في تحقيق أي نسق من الديموقراطيّة، بل هي رسّخت نظام الطغيان العربي المستديم. أصبح تحالف أميركا مع النُّظم الديكتاتوريّة يقع تحت عناوين محاربة الإرهاب، فيما كان في سنوات الحرب الباردة يقع تحت عناوين محاربة الشيوعيّة والقوميّة العربيّة. في كل الحالات، تستطيع أميركا أن تجد صيغة تدعها تحارب الديموقراطيّة فيها، فيما هي تلهج بحمدها في خطابها الدعائي. هذه هي جدليّة الديموقراطيّة عند أميركا.

الديموقراطيّة في الداخل: نستطيع أن نحسب الدور الأميركي بالنسبة إلى الديموقراطية على المستوى الداخلي والخارجي على حدّ سواء. اعتدنا في العالم العربي أن نفصل بين السياسة الداخليّة والخارجيّة في الحُكم على سياسات أميركا. حتى بعض الزعماء الوطنيّين العرب كانوا يقولون: لماذا لا تتبع السياسة الخارجيّة الأميركيّة الديموقراطيّة التي تتجلّى في السياسات الداخليّة؟ على الصعيد الداخلي، نجد تجلّيات مختلفة لمعاداة الديموقراطيّة في النظام السياسي الأميركي. وهذه بعض من تلك النماذج: أولاً، أن أميركا من الدول القليلة في العالم التي ترفض أن تجري الانتخابات فيها في يوم عطلة. والانتخابات في يوم العطلة تأتي بالمزيد من الناخبين والناخبات. ونسبة الاقتراع في أميركا (نحو النصف أو أقل) هي الأدنى بين الديموقراطيّات الغربيّة وهذه النسبة هي مقصودة لأن الفقراء والمحتاجين هم الأقلّ قدرة على الاقتراع في يوم عمل (يوم الثلاثاء هو يوم الانتخاب هنا)، فيما يستطيع الميسور أن يقترع في أي يوم لأن ثمن التغيّب عن العمل عند الفقير هو غير ما هو عليه عند الميسور (يلحظ القانون الأميركي حق الاقتراع للعامل من دون خسارة مرتّبه لكن الخسارة تلحق بالعامل الذي يتغيّب مهما كان). وتخفيض نسبة الاقتراع هو نقيصة في الديموقراطيّة إلى درجة أن هناك دولاً تفرض غرامة على الذي يمتنع عن الاقتراع (وزيادة نسبة الاقتراع تجعل النظام السياسي أشمل تعبيراً عن أهواء ومصالح الناس أجمعين، أو لنقل يجعله أكثر تعبيراً من نظام الاقتراع الأميركي. وأستراليا، مثلاً، تفرض غرامة على عدم الاقتراع وتصل نسبة الاقتراع فيها إلى أكثر من تسعين في المئة فيها. وهناك دراسة لبنك الإنماء التابع للأميركَتيْن وفيها أن الدول التي تفرض غرامة على عدم الاقتراع يكون العدل الاجتماعي فيها أفضل من الدول التي لا تفرض غرامة). وأميركا راضية بحالة عدم الاقتراع لأن الفقراء يمكن أن يغيّروا من نتائج الاقتراع (الحزب الجمهوري هو اليوم أكثر خوفاً من الفقراء، لكنّ الحزبيْن يتوافقان على تخفيض الاقتراع عندما يكون ذلك ملائماً).

ثانياً، يجري الاقتراع في الشتاء وليس في الصيف أو الربيع مثل معظم دول العالم. والكثير من ولايات أميركا تكون مطمورة بالثلج في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عندما تجري الانتخابات العامّة. ويمكن زيادة نسب الاقتراع لو أن الاقتراع يجري في الربيع أو الصيف.
ثالثاً، نظام الاقتراع الأميركي نظام مُغلق، لأنه يجري حسب الأكثريّة في الدائرة الانتخابيّة الصغيرة، ما يمنع ظهور مرشحي أحزاب ثالثة، وهذه مؤامرة مقصودة من الحزبيْن. أي إن النظام الأميركي الذي يُروِّج لنفسه على أنه الأفضل هو الأقل عرضة للمفاجآت من بين النظم السياسيّة. هناك مفاجآت في النظم الاستبداديّة أكثر مما هنا، خصوصاً أن أكثر من 90% من الذين يخوضون انتخابات الكونغرس ينجحون فيها. والحزبان يعارضان حتى الساعة أي صيغة تمثيل نسبي، والتي أثبتت أنها الأكثر نجاحاً في توسيع التمثيل من ناحية النسوية والأقليات والأحزاب وأفراد غير ميسورين.
رابعاً، تاريخياً، كانت عمليّة الانتخابات تتعرقل أمام السود والفقراء عن قصد وعبر سلسلة من الإجراءات مثل فرض شروط علميّة أو إدراكيّة، وكانت هناك أسئلة على المُقترع أن يجيب عنها قبل أن يقترع. والولايات الخاضعة للحكم الجمهوري تحاول أن تعيد العمل بهذه المعُرقلات لأنها تعلم أن اقتراع السود ليس في صالحها. والحزب الديموقراطي تاريخياً كان هو الذي يعرقل اقتراع السود في الجنوب الأميركي. وفي أميركا، هناك مثلاً فرض للتسجيل للاقتراع قبل الاقتراع، ما يجعل عمليّة الاقتراع أقلّ سهولة من الدول الأخرى.

خامساً، هذه دولة تصل فيها نفقات الانتخاب (الترشح وخوض الانتخابات) إلى أعلى نسبة في العالم، بصرف النظر عن معيار المقياس. وتُقدّر قيمة الإعلان الانتخابي في الانتخابات المقبلة بأكثر من عشرة مليارات دولار. كندا تخوض انتخاباتها بنسب أقل بكثير من الإنفاق، والنظام السياسي هناك يُعتبر أكثر ديموقراطيّة من هنا. هذا الجانب من الانتخابات في أميركا يحصر الترشيح بالأثرياء، أو بالذين لديهم أقنية مع الأثرياء. التمثيل السياسي يزداد نخبويّة تماماً كما أراده المؤسّسون الذين صمّموا نظام تصفية مزدوجة في اقتراع الرئيس لعدم ثقتهم بالعامّة.
سادساً، أميركا خاضعة لنظام سياسي جامد لأن الدستور المعمول به هو نفسه الذي تركه المؤسّسون. إنّ الصراع حول عزل الرئيس نابع من غموض الصياغة الدستوريّة حول الموضوع لأن الواضعين تحدّثوا عن حالات «الرشوى والخيانة والجرائم والجنح العليا». هذه الصيغة تترك للمستغلّين السياسيّين الفرصة للنفاذ لمعاقبة رئيس من حزب خصم.

اعتدنا في العالم العربي أن نفصل بين السياسة الداخليّة والخارجيّة في الحُكم على سياسات أميركا. حتى بعض الزعماء الوطنيّين العرب كانوا يقولون: لماذا لا تتبع السياسة الخارجيّة الأميركيّة الديموقراطيّة التي تتجلّى في السياسات الداخليّة؟

وبناءً عليه، فإنّ الدولة التي كانت تلهج بحمد ديموقراطيّتها عندما كان السود مُبْعَدين عن الحياة السياسيّة والتي كانت تفرض معايير مُلكيّة على المشاركة السياسيّة، تعاني من سقم في بنيتها الديموقراطيّة وتمثيليّة مشرّعيها. النظام الأميركي محدود ومغلق، وهذه سمات تتناقض مع الوعود الديموقراطيّة. لا أقول إن ليس هناك من أنظمة ديموقراطيّة في العالم، لكن هذا النظام يعاني بصورة ماسّة من ضعف بنيوي يظهر في الأزمات السياسية المتلاحقة.
أمّا في السياسة الخارجيّة، فإنّ الثابت في السياسة الأميركيّة بعد الحرب العالميّة الثانية أن أميركا تفضّل النظم الاستبداديّة على النظم الديموقراطيّة، ولو وُجد نظام ديموقراطي ما فتأكّدْ أن أميركا تتدخّل في شؤونه من أجل ضمان فوز مرشحيها وتمرير سياساتها ومحاربة وإقصاء أعدائها. هذا لا يسري فقط على دول العالم النامي بل يسري على الدول الغربية نفسها. وهناك دراسة للينزي أورورك بعنوان «المنطق الاستراتيجي لتغيير النظام السرّي: حملات تغيير النظام المدعومة أميركيّاً في الحرب الباردة» (مجلّة «سيكيوريتي ستاديز»، جزء 29، 2020، رقم واحد). وفي هذه الدراسة نكتشف أن المؤلّفة أحصت 64 حالة تغيير حكومة من قبل الحكومة الأميركيّة. والمفارقة أن ذلك جرى في سنوات الحرب الباردة عندما كانت أميركا تطرح الصراع بينها وبين الاتحاد السوفياتي على أنه صراع بين الحرية من جهة وبين التوتاليتارية من جهة أخرى، أو بين الديموقراطيّة والاستبداد.

ولم تكتفِ أميركا بقلب الأنظمة التي لا تعجبها (وليس في أسباب حُكمها أي اهتمام أو اكتراث بالديموقراطيّة أو حرّية الشعوب)، بل هي تدخّلت أكثر من أي دولة في العالم للتأثير على نتائج الانتخابات. هي تمنع الانتخابات عندما لا تستطيع أن تضمن نتائجها (هي منعت الانتخابات في الضفة والقطاع بعد فوز «حماس»، وكانت هي متحمّسة للانتخابات قبل فوز «حماس» ودعمت بالمال والسلاح حركة «فتح»)، وهي تسمح بالانتخابات عندما تستطيع أن تتدخّل بقوّة فيها. وهناك دراسة لدوف ليفن وفيها يمحّص في الأرشيف عن عمليّات تدخّل أميركيّة (سرّاً وعلناً) ويكتشف أن أميركا تدخّلت في 81 انتخاباً حول العالم بين عامَي 1946 و2000 مقابل 36 تدخلاً من قبل روسيا في الفترة نفسها (راجع دوف ليفن، «تدخلات اقتراعيّة منحازة من قبل الدول العظمى»، مجلة «إدارة الصراع وعلم السلام»، جزء 36، رقم 1، أيلول 2016). وتتدخّل أميركا في الانتخابات حول العالم بعدة طرق، منها:

أولاً، تمويل المحظيّين والمرضيّين منها مباشرةً. وتعمد أميركا إلى مد المحظيّين بالمال للتوزيع على الناس كرشى جماعية. إنّ فوز سامي الصلح في الانتخابات بعد حرب 1958 مدين للمال الأميركي الذي كان يصله.
ثانياً، تمويل إعلام محلّي للترويج لمرشّحيها (في الانتخابات النيابية الماضية في لبنان استفاد مرشّحون «مستقلون» من تمويل أميركا للمحطات الثلاث).
ثالثاً، تعمد أميركا إلى حثّ دول الخليج على تمويل وكلائها وزبائنها، مثلما قامت السعودية بتمويل الحزب الديموقراطي المسيحي في إيطاليا لمنع الحزب الشيوعي من الفوز في الحرب الباردة.
رابعاً، تتدخّل أميركا في هندسة نظام الاقتراع المُعتمد. كانت أميركا طرفاً في مناقشة العمليّة الانتخابية ونظام الاقتراع في كل الانتخابات التي جرت في لبنان بعد اغتيال الحريري.
خامساً، تتدخّل أميركا في تحديد توقيت الانتخابات. هي مثلاً أصرّت على إجراء الانتخابات في موعدها في لبنان في عام 2005 بالرغم من تأزّم الشوارع واحتدام الصراعات بعد اغتيال الحريري لأنها كانت تريد استغلال اغتيال الحريري لصالح فريقها.
سادساً، عندما لا تأتي الانتخابات بمرشحيها، تقوم أميركا بالتدخل العسكري المباشر أو السياسي المباشر لتعطيل النتائج أو لمنع الانتخابات (مثل تشيلي في عام 1973 أو إيران في عام 1953 أو فلسطين بعد فوز «حماس»).

سابعاً، تقوم أميركا بتسريب معلومات حقيقية أو مضلّلة لصالح مرشحيها وضد خصومها. تم نشر معلومات هائلة عن قادة إيرانيّين من قبل جهاز البروباغندا الأميركي. هناك شكوك أن وثائق بنما لم تكن إلا ردّاً على ارتباك وحرج أميركا من نشر وثائق «ويكيليكس». نكاد ننسى اليوم الكمّ الهائل الذي كانت أميركا تضخّه في كل الإعلام المحلّي حول العالم، بما فيه لبنان حيث كانت صحف ومجلات ودور نشر تتلقّى التمويل الأميركي المباشر.
ولا تقوم أميركا بمنع الديموقراطية فرادى وإنما تنشر الاستبداد على الصعيد الإقليمي. والإعلام الموالي لها في الدول العربيّة يتجاهل دورها في نشر الحروب والاستبداد. تستطيع أن تقرأ مقالات طوالاً في «الشرق الأوسط» عن العراق وليبيا وأفغانستان من دون أن تقع على إشارة واحدة إلى الغزو والاحتلال الأميركيَّيْن لهذه البلدان. الجامعة العربيّة كانت مشروعاً بريطانياً لاحتواء الرأي العام العربي عن فلسطين، والجامعة اليوم ومجلس التعاون الخليجي ليسا إلا أطراً أمنيّة تستخدمها أميركا لحماية الاستبداد الموالي لها.
أميركا كانت تموّل (في لبنان بصورة خاصة حيث كانت دور النشر العربيّة تتجمّع) نشر كتب تضرّ بسمعة الاتحاد السوفياتي. كنا نقرأ بالعربية كتباً لسولجنستين وأورويل ودو توكفيل (بسبب تقريظه للديموقراطية الأميركيّة) لكن لم نكن نقع بالعربية عن كتابات منشقّين أميركيّين مثل تشومسكي أو زن أو غيرهما. نعلم اليوم أن نشر كتاب «دكتور جيفاغو» بالروسية واللغات الأخرى كان من قبل وكالة المخابرات المركزيّة التي تولّت هي طبع الكتاب في مقرّها قبل توزيعه حول العالم وفي داخل روسيا. نظريّة المؤامرة ليست مُعتمَدة بما فيه الكفاية من قبلنا.

سيرياهوم نيوز3 – الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

عن إعادة التموضع.. ودور النُخَب

      بقلم :بسام هاشم   هفي مرحلة ما بعد الانتصار على الإرهاب، وفي سياق إعادة بناء الدولة الوطنية، تجد سورية نفسها أمام تحديين ...