ابراهيم الأمين
لم تبادر الولايات المتحدة إلى أي خطوة ذات معنى، منذ إعلان العدو رفضه السير بالمقترح الذي قُدّم إلى حركة حماس عبر الوسيطين المصري والقطري ووافقت عليه، زاعماً أن المقترح ليس هو نفسه الذي ناقشه معه الوسطاء. ورغم أن المصريين تحديداً، أكّدوا خلال المفاوضات، على لسان وزير المخابرات عباس كامل، موافقة إسرائيل على المقترح قبل إرساله إلى حماس، لم تطلب القاهرة من مدير الاستخبارات الأميركية وليام بيرنز تقديم توضيحات، وليس متوقّعاً أن يبادر الوسيطان المصري والقطري إلى مطالبة الأميركيين بأن يفوا بما تعهّدوا به، بعدما أكّد بيرنز نفسه لهم الموافقة الإسرائيلية.تكشف مراجعة تفاصيل جلسات المفاوضات، منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب، أن الأميركيين لم يبادروا، في أي وقت، إلى ممارسة ضغط مثمر على إسرائيل، وأن المصريين لم يلوّحوا مرة بموقف لدفع واشنطن للقيام بمثل هذا الضغط، لا بل إنهم كانوا – ولا يزالون – يمارسون أقصى الضغوط على المقاومة لتقديم تنازلات يستحيل السير فيها. أما قطر، ورغم أنها لم تعتمد آلية العمل المصرية نفسها، فلم تكن راضية عما سمّته «تعنت الجانبين»، في إشارة إلى أنها لا تقوى على تحميل إسرائيل وحدها مسؤولية الفشل، علماً أن الدوحة فكّرت في لحظة معينة بالخروج من الوساطة احتجاجاً على الابتزاز المتواصل الذي تقوم به إسرائيل مباشرة، أو بواسطة حلفاء لها في العاصمة الأميركية هدّدوها بعقوبات إذا لم تمارس ضغوطاً على حركة حماس.
التفصيل الخاص بالموقف الأميركي، مردّه أن الأميركيين كانوا يعرفون أن العدو يخطط لعملية رفح. وتظهر وثائق الاجتماعات التنسيقية في الأسابيع الخمسة الماضية، أن الجانب الإسرائيلي أطلعهم على الخطط التفصيلية، وأنهم عملوا على خط تل أبيب – القاهرة لنقل توضيحات طلبتها مصر التي تخشى لجوء قوات الاحتلال إلى إجراءات تدفع عشرات آلاف النازحين في رفح نحو منطقة سيناء. وعندما سرّع جيش الاحتلال العملية في الليلة نفسها التي أعلنت فيها «حماس» موافقتها على المقترح، كان الجانبان المصري والأميركي على السمع طوال الوقت مع القيادة العسكرية للعدو. وللأسف، تبيّن هذه المداولات أن الجانب المصري لم يتوقف، كما الأميركيين، عند التفاصيل التي تمنع ارتكاب مجازر جديدة بحق الشعب الفلسطيني، وانصبّ اهتمامه فقط على خط الحدود بين مصر وقطاع غزة.
عملياً، لم تكن هناك مفاجأة أميركية أو مصرية أو قطرية أو حتى فلسطينية من رفض العدو للمقترح، بل جاءت المفاجأة من موافقة «حماس». ولذلك، سارعت الولايات المتحدة إلى تغطية عملية رفح، وحاولت من خلال دبلوماسيتها، وتصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن، التحوّط لردات فعل متوقّعة على جرائم سيرتكبها العدو في رفح، عبر تصريحات تحذّر من نقص الخطط التي تؤمّن سلامة المدنيين وصولاً إلى الحديث عن تجميد شحنات أسلحة كانت مُعدّة للإرسال إلى كيان الاحتلال.
وتشير الوقائع المؤكّدة بالوثائق إلى أن الأميركيين كانوا، منذ اللحظة الاولى، شركاء في عملية رفح، وأن المصريين كانوا على علم بكل ما يجري، وأن النقاش بين العاصمتين المصرية والأميركية من جهة وحكومة العدو، انحصر في شكل العملية وآلية تنفيذها. ولكن، بعد بدء التقدم الإسرائيلي، صُدم المصريون بعدم التزام العدو بالخطة المُتّفق عليها، ولا سيما الشق المتعلّق بمعبر رفح والمناطق المحيطة به، إذ ناقش المصريون مسبقاً مع الإسرائيليين قيام الجيش المصري بإجراءات لتدمير أنفاق سلّمه العدو خرائطها، وقال إنها تمتد من رفح إلى سيناء، ولا تزال تشهد عمليات تهريب للسلاح حتى خلال الحرب، كما قدّم للمصريين ما يقول إنه «أدلة دامغة» على استمرار تهريب الأسلحة إلى القطاع عبر الأراضي المصرية.
أثارت الإجراءات الإسرائيلية في رفح صدمة للمصريين، لأن الاحتلال لم يُقِم لهم وزناً في قراراته العملانية، ووصل الأمر بالاستخبارات المصرية إلى البحث في القيام بإجراءات ميدانية لمنع مواجهة محتملة بين الجنود المصريين وفلسطينيين قد يعبرون الحدود باتجاه سيناء. واتهمت مصر إسرائيل بأنها خطّطت لتفجير نقاط حدودية بطريقة تُلقى فيها المسؤولية على «حماس»، وتفتح في الوقت نفسه ثغرات لنفاذ النازحين، وأن يبادر الجنود المصريون إلى إطلاق النار على الهاربين. وهي النقطة الأكثر خطورة بالنسبة إلى حكومة عبد الفتاح السيسي.
تجدر الإشارة إلى أن المحادثات التي أجراها عباس كامل في تل أبيب لم تنحصر بملف المفاوضات مع «حماس»، بل شملت تفاصيل الإجراءات المُفترض اتخاذها على معبر رفح في حال توسّعت العملية الإسرائيلية. كما بدأ العدو نقاشات على جبهات عدة مع الأمم المتحدة ومنظمات إنسانية تعمل في نقل المساعدات، لتقوم هذه الجهات بنقل نشاطها إلى منطقة المواصي ودير البلح ووقف الأنشطة الإغاثية في منطقة رفح، لدفع السكان للتوجه إلى غرب القطاع من جهة، وإبعاد الموظفين الدوليين والفرق الأجنبية عن منطقة رفح، لتتصرف إسرائيل براحة تجاه كل من يؤدي دوراً في الإدارة المدنية. وقد أبلغ العدو علناً كل الوسطاء بأنه ينوي تدمير كل البنى المدنية، لأنها تدار من قبل حركة حماس، واتّهم وكالة «الأونروا» بالسماح لنشطاء من «حماس» وفصائل فلسطينية أخرى بالعمل معها أو استخدام مقراتها أو سياراتها بحجة الإغاثة.
وفي ما يتعلق بمعبر رفح نفسه، وبعدما اعتبر المصريون أن الأمر حُسم لناحية ضمان وجود فلسطيني على الجانب الآخر من الحدود، فوجئوا خلال ساعات بأن الإسرائيليين هم من باتوا على الجانب الفلسطيني من المعبر. عندها، أبدى المصريون انزعاجهم من الخطوة الإسرائيلية، وتوقّفوا عن العمل استناداً إلى غياب الأمم المتحدة على الجانب الآخر لتلقّي المساعدات، بعدما أبلغت المنظمة الدولية الجميع مسبقاً بأنها لن تعمل في منطقة تخضع لأي حضور عسكري، وكما أنها لا توزّع مساعدات في غزة بوجود عناصر «القسام» وبقية الفصائل الفلسطينية، ولن تنتشر فرقها في منطقة يديرها جنود الاحتلال أو أي جهة عسكرية يمكن أن تكون عرضة للقصف.
العدو أطلع واشنطن والقاهرة على خططه في رفح ومشكلته عدم إيجاد شريك فلسطيني على الأرض
وكعادتهم، بادر الإسرائيليون إلى البحث عن بدائل تبقي المعبر تحت سيطرتهم، فاقترحوا بداية أن تتولى شركة أمنية أميركية إدارة المعبر، قبل أن يقترحوا شركة أسترالية بحجة أن جنسيتها قد تقلّل من الاعتراض عليها. غير أن الجانب المصري الذي كان شديد الاستياء من تحميل العدو له مسؤولية عدم دخول المساعدات عبر رفح، أبلغ الإسرائيليين والأميركيين بأنه لن يتعامل مع قوات الاحتلال على المعبر، وأن هناك حاجة أساسية إلى وجود جهة فلسطينية من جهة غزة. وعندما طرح المصريون فكرة تسليم المعبر لقوة تابعة للسلطة الفلسطينية في رام الله، اعتقدوا بأن ذلك قد يكون مناسباً لإسرائيل التي سبق لها أن حاولت فرض جماعة السلطة عبر محاولات فاشلة لمدير المخابرات الفلسطينية ماجد فرج بإرسال رجاله إلى غزة أو تحريك مجموعات موالية له في منطقة رفح. وهي المحاولة التي تمّ إحباطها سريعاً، لأنها لم تكن متصلة بملف المساعدات، بل كون جماعة فرج حاولت تسويق استعادة حضور السلطة في تلك المنطقة كخيار ينقذ رفح من العملية العسكرية الإسرائيلية.
بعد بدء العملية، بدا الموقف المصري أكثر اهتزازاً، ومن دون أي تأثير فعلي على حركة العدو في تلك المنطقة، وشديد الضعف أمام الأميركيين. كما شعر المصريون بأن إسرائيل لن تلتزم بتعهداتها بعدم دفع الغزيين إلى سيناء، ما فرض على فريق السيسي العسكري والأمني البحث في خيارات بديلة على الأرض، كتنشيط الاتصالات مع قبائل سيناء لخلق قوة «شبه رسمية» يديرها إبراهيم العرجاني، ملك التهريب بين غزة ومصر، يمكنها القيام بأعمال يسهل التنصل منها، سواء لمنع الغزيين والمقاومة من أي محاولة للدخول إلى سيناء أو مواصلة استثمار حاجة أبناء القطاع إلى السفر إلى الخارج من خلال وكالته.
عملياً، ما حصل في المفاوضات الأخيرة، لم يكن يهدف إلى وقف الحرب، بل إلى توفير غطاء زمني وسياسي وحتى ميداني للجولة الجديدة من العنف الإسرائيلي في غزة وحولها.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية