مالك صقور
في ستينات القرن الماضي ، وتحديداً عام 1964 ، تمّ تأسيس ( منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ) أو : ( منظمة العمل الثقافي الدولي المشترك ) ، واختصاراً أُطلق عليها :
( اليونسكو ) . وكان من أهم أهداف هذه المنظمة : الاعتراف الثقافي بالآخر ، والأعتراف بالآخر هو الغاية التي من أجلها أنشئت منظمة العمل الثقافي الدولي المشترك ؛ ومن أهم مهامها هو البحث عن الوئام الحضاري والتناغم من خلال الأختلاف الثقافي .
ولكن من قال إن الولايات المتحدة الأمريكية يوافقها الوئام الحضاري ، والتناغم والأنسجام والتعايش السلمي والسلام بين الشعوب ؟؟
وقد فاتني أن أُذكّر بأن الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ، ولا سيما عندما نجح المشروع الصهيوني الأستيطاني في قلب الوطن العربي واغتصاب فلسطين ، وتشريد شعبها . بدأت الولايات المتحدة التسلل إلى المنطقة العربية . وقد تمّ تركيزها على النشاط الثقافي ، انطلاقاً مما أطلق عليه المنظرون الأمريكيون ” البعد الرابع ” . والمقصود بالبعد الرابع هو
” البعد الثقافي ” فبعد السيطرة على الأبعاد : السياسية و الاقتصادية و العسكرية – إذن بقي أمام أميركا السيطرة على مفاصل الثقافة الأساسية ليس في الوطن العربي فحسب ، بل في كل أنحاء ما يسمى العالم الثالث ، تحت عناوين كثيرة ومسميات مختلفة ..
وحدث أن تسلّم إدارة هذه المنظمة السيد مختار مبو ، وهو الأبن البار للقارة السمراء ، هذه القارة التي دفعت ثمناً باهظاً في مقارعة الأستعمار الأبيض .. ولا ينسى العالم المناضل باتريس لومومبا ، وقد اطلقت وزارة التعليم العالي السوفييتية اسمه على جامعة الصداقة .وكذلك السيد مختار مبو مناضل عريق الأصالة من السنغال .. ومن المعروف أنه عندما تسلّم مختار مبو إدارة هذه المنظمة في ستينات القرن العشرين ، كانت حركة التحرر العالمية ،لا سيما حركا ت التحررالشعبية في العالم الثالث كانت على أشدها . وكانت منظمة الوحدة الإفريقية على وشك الإنفجار بين المهادنين للغرب والثائرين عليه ؛ خاصة ، بعد انتصار الثورة الكوبية ، وانتشار أفكار غيفارا وكاسترو في الثورة العالمية ..بالإضافة إلى كل ذلك ، كان مختار مبو عدوا للولايات المتحدة ، ورافضاً للثقافة الإميركية . ولهذا كانت تنظر إليه بارتياب ، لا سيما ، كلما اختلفت مع فرنسا ، فكان ينحاز إلى فرنسا ، ويجاهر أميركا العداء . ولهذا ، أخذت الولايات المتحدة تشدد المراقبة والمتابعة ورصد أعمال هذه المنظمة ، وتتعقب حيثيات سير الأمور الإدارية . متعللة بالخوف من استفحال البيروقراطية ، ومن سوء التصرف المالي لأنها تتكفل وحدها بربع ميزانية المنظمة .
وعندما أدركت أميركا في النهاية ، انها مغلوبة على أمرها في هذه المنظمة ، ولا تستطيع أن تفرض قراراتها ، ورأيها ، وسيطرتها وفرض ثقافتها – فجأة انسحبت من المنظمة ، متخذة أسلوب الزجر ، والعقوبات الدولية ، ولا سيما ، بعدما لاحت لها بوادر انتهاء الحرب الباردة لصالحها ، وأن الاتحاد السوفييتي سيتفكك .
وهكذا انسحبت الولايات المتحدة من منظمة اليونسكوفي كانون أول عام 1984 ، بذريعة واهية ضعيفة هي سوء التصرف المالي و الإداري . ولكن الحقيقة هي أن العمل في هذه المنظمة كان يتبع معيار الديمقراطية ، وحق الأكثرية في الانتخابات .والنتيجة والذي حدث أن الأغلبية في هذه المنظمة لا تنصاع للرغبات الأميريكية ، ولا للخطط المرسومة من مداراء المحيط الأطلسي .. والحقيقة الثانية ، هي أن الأكثرية كانت صامدة لأنها تألفت من تحالف دول أوروبية ذات وزن ثقيل مع دول من العالم الثالث ( النامي ) المعادي بشكل طبيعي وعادي لسياسة الولايات المتحدة ، وضد نهجها ورؤيتها وثقافتها .
وكما انسحبت الولايات المتحدة من هذه المنظمة فجأة دون إنذار ، وفجأة عادت إلى المنظمة بعد عقدين في أيلول 2004. واستعادت عضويتها في المنظمة ، وكأن شيئاً لم يكن .
فما الذي دفع الولايات المتحدة للعودة للمنظمة بعد عقدين من المقاطعة ؟
عرفنا سبب الأنسحاب ، وأكبر الظن أن الولايات المتحدة عادت للمنظمة في ظرف سياسي معلوم ، بلغ فيه جنون المحافظين الجدد أقصاه ، بعد أن ظفروا برئيس يديرونه كما يشاؤون وطبعاً لحتمية الأنفراد بالسلطة الدولية ، والعولمة ، من خلال الغزو العسكري أو بواسطة عملائها .. وعلى هذا الأساس تجلت عودة أميركا إلى اليونسكو بالرغبة في إنجاز غزو ثقافي يوازي الغزو العسكري ، لذلك وضعت شروطاً لعودتها ، ولم تنتظر الجواب .
ويعرف المهتمون بهذا الشأن أن منظمة اليونسكو نشطت نشاطا بالغ الأهمية وهدفها الأول: الوئام الحضاري والتناعم بين الشعوب عبر الأختلاف الثقافي ، وكان من أبرز مشاريعها : صيانة المعالم العمرانية ، والآثار ، كما عملت على إعادة كتابة تاريخ العلوم على المستوى العالمي الإنساني .. وكان السبب الأول لهذا المشروع أن هذه الموسوعات الحديثة تكتفي بالإشادة بإنجازات الغرب ، وتقلل من أهمية الثقافات الأخرى ، وهذا الأمر كان ملموساً وملحوظاً في جامعات الغرب التي تقدم لطلابها حقائق مشوهه عن الشعوب الأخرى ، وتلّقن طلابها فكرة الأفضلية الغربية المطلقة وتفوقها على ثقافات الشعوب الأخرى ، مثل : الصينية والهندية والفارسية والروسية والعربية .
ولهذا كله ، تمّ التحضير بقوة إلى مؤتمر اليونسكو في نيسان 2004 ، من أجل عقد ميثاق يعطي المشروعية الكاملة لمعاهدة دولية تكون بمثاية الإعلان العالمي عن التنوع الثقافي والمهم في هذه الوثيقة أنها ملزمة للجميع .. ومن أهم بنودها قرار حق الدول في انتهاج السياسات الثقافية التي تحددها لنفسها ، كذلك مبدأ حماية المنتج الثقافي الخاص بكل شعب من الشعوب .
ولكن ماذا حدث ؟!
عادت الولايات المتحدة إلى المنظمة معلنة ًرفضها لمشروع التنوع الثقافي في حين لم يعترض أحد من الأعضاء على عودتها ، فإن لم يكن خوفا من هيمنتها وسطوتها وعقوبتها ، فأملاً في انتعاش قوي لموازنة العمل الثقافي الدولي . والجدير بالذكر ، أن الصحافة الإميركية المنحازة إلى اليمين المتطرف تداولت العبارة الساخرة حول مسألة التنوع الثقافي