| حسام مطر
يستلزم فهم المقاربة الأميركية تجاه لبنان في كل حقبة فحصَ استراتيجية واشنطن الإقليمية وميزان القوى المحلي، والانطلاق منه لتقدير التصوّر الأميركي للمخاطر والفرص اللبنانية. إنّ مشكلة واشنطن الرئيسية مع النظام السياسي اللبناني هي فشله في احتواء حزب الله، رغم كل المحاولات منذ صدور القرار 1559 عام 2004. فمنذ نهاية الحرب الأهلية، رعت واشنطن هذا النظام، بصورة مباشرة أو بالوكالة، حتى عام 2017، وأمدّته بجرعات حياة، ولا سيما في محطات ترنّحه، من خلال رعاية التدفقات المالية الخارجية والمؤتمرات الدولية (مثل مؤتمرات باريس الثلاثة) والمشاركة في التسويات عند الضرورة والمساندة الإيجابية لشبكة من نخبه السياسية والمالية والثقافية. إنّ الهدف النهائي لواشنطن إيجادُ سلطة محلية بمقدار من الشرعية والكفاءة تتولّى احتواء المقاومة بوصفها ميليشيا منزوعة المشروعية الوطنية والأخلاقية. وعليه، تجادل هذه المقالة في أنّ الولايات المتحدة غير معنيّة بتغيير النظام الطائفي اللبناني، ذي العمق الليبرالي والامتيازات الرأسمالية، وإنما تسعى إلى تأهيله ليكون قادراً على توليد قوة مهيّأة وقادرة على موازنة قوة حزب الله من ضمن مسار هادئ متدرّج، ما دام يتقدّم بالسرعة الكافية.
أولاً: مفترقان في 2004 و2017
شهدت مرحلة 2017 – 2018 الانعطافة الأميركية الثانية في لبنان ما بعد الحرب الأهلية وهي المكمّلة للانعطافة الأولى عام 2004. وبين هاتين المرحلتين، تحوّل الواقع اللبناني، عبر قوى 14 آذار، مرة إلى «ساحة حرب» ضد المقاومة (عبر الموقف السياسي من عدوان تموز 2006 وإيجاد الظروف المؤاتية لـ 7 أيار 2008)، ومرة إلى «ساحة مؤازرة» للمعارضة السورية الطائفية المسلّحة بين عامَي 2012 – 2015، فيما فضّل حزب الله في الحالتين عدم الانجرار إلى العنف المحلي إلى أقصى حدّ ممكن ونقل المعركة نحو مصدر التهديدات.
وفيما كانت انعطافة 2004 مرتبطة بالاستجابة لنتائج الفشل الأميركي في العراق ومحاولة استكمال إخضاع المشرق العربي لتطويع محور المقاومة في ذروة صعوده، كانت انعطافة 2017-2018 لاحتواء نتائج وصول شرعية حزب الله ومشروعيته إلى حدّها الأقصى. فخلال هذه المرحلة، فاز حليف حزب الله العماد ميشال عون بموقع رئاسة الجمهورية (2016)، ثم فاز تحالفه الانتخابي بالأغلبية النيابية عام 2018، مع ثبات موقع رئاسة المجلس النيابي، ما شكّل انزياحاً غير مسبوق في موازين القوى المحلية لمصلحة المقاومة. وتزامن ذلك مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض (2017) وإطلاقه، بتحفيز صهيوني، حملة الضغوط القصوى على إيران وحلفائها، وكانت «السعودية السلمانية» (عهد الملك سلمان) قد بدأت تكتشف الثمن الكارثي لحربها على اليمن (اندلعت عام 2015)، ما جعلها بحاجة إلى البحث عن ساحات ضغط مواز. في تلك اللحظة، حصل تقاطع سعودي أميركي على تسريع الانهيار في الداخل اللبناني من خلال الاستفادة بشكل أساسي من عناصر الفشل والوهن البنيوي المحلي، مضافاً إليها عجز الأغلبية النيابية وانقساماتها. وهكذا سارعت واشنطن والرياض إلى استغلال احتجاجات 17 تشرين 2019 ونتائجها، وما صاحبها وتلاها من انهيار اقتصادي، ثم انفجار مرفأ بيروت، لإعادة تنشيط مشروع تأهيل المنظومة بجرأة أكبر ومقاربة أعمق.
في الحالتين، كان الرهان الأميركي على استغلال أو اختلاق أو تحفيز لحظة زخم استثنائية لتطوير شكل من الاضطرابات الشعبية (ثورة سيادية/ ثورة معيشية)، وذلك بعد سنوات من الجهود الثقافية والمعلوماتية والحرب السياسية والمالية لإضعاف الروافع الشعبية والمعنوية لحزب الله، بما يتيح إنتاج أكثرية نيابية جديدة تجمع نخباً تقليدية ومستحدثة قادرة على توليد سلطة تنفيذية تُقصي الحزب عن إدارة السلطة، بهدف إضعاف شرعيته بشكل يؤدي إلى ظهور الثنائية المفضّلة التي تعزّز فرص النجاح بشكل ملحوظ بحسب خلاصات دراسات «مكافحة التمرد»: حكومة شرعية منتخبة موالية للغرب في مقابل ميليشيا طائفية مسلحة. يلاحظ الدليل الميداني الأميركي لمكافحة التمرّد (2014) أنّ «الدولة المستضيفة (أي حيث يكون الوجود العسكري الأميركي برضى حكومي من البلد المضيف) هي الفاعل الأساسي… خلاصة أيّ جهد في مكافحة التمرّد تعتمد بشكل أساسي على الدولة المستضيفة وشعبها».
ثانياً: حزب الله والمنظومة
كانت نتائج الحملة الأميركية الضارية ضد حزب الله بعد انتهاء مفاعيل مساومة الطائف الغربية – السورية عام 2004 محبطةً للغاية، فقد حافظ الحزب على عمق شعبي وشبكة تحالفات واسعة عابرة للطوائف وحضور فاعل داخل المؤسسات الدستورية وإدارة دقيقة للتوازنات. وقد سمحت هذه العوامل للحزب بتوفير شروط تسمح ببناء متواصل للردع بوجه العدو الإسرائيلي ودرء الخطر الوجودي الداعشي عن لبنان ومحيطه المشرقي.
تستند السياسة المحلية لحزب الله إلى رباعية: الهوية والدور، وتصوراته للصراع والتغيير، وفهمه للخصائص اللبنانية، وتقييمه لتوازن القوى في الصراع مع العدو الإسرائيلي وفي الإقليم (ولهذا التقييم الوزن النسبي الأكبر في التأثير). فالحزب يرى أنّ جوهر ذاته حركة مقاومة تمارس العمل السياسي، وليس حزباً بالمعنى التقليدي، وتالياً فإنّ مهمّته الأساسية، لأسباب إيديولوجية وواقعية، هي هزيمة المشروع الإسرائيلي. ثانياً، يرى الحزب أن العقبة الرئيسية أمام الأمن والنهوض الوطني والإقليمي هي الهيمنة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي؛ ومن دون إضعافهما أو هزيمتهما فإنّ أفق أي تغيير سيبقى هامشياً. ثالثاً، يجد الحزب أن البنية الطائفية اللبنانية المخترقة خارجياً حُبلى بالصواعق والحساسيات، وسهلة الاستغلال والانقياد. لذا، يجد أنّ منطق المساومة والمساكنة والتوافق يفرض نفسه. وإذا كانت النقاط الأولى والثانية والثالثة تتصف بالثبات، فإنّ المحدّد الرابع ذو طبيعة متغيرة وهو يتمثّل في قراءة الحزب لموازين القوى مع كيان العدو الإسرائيلي وطبيعة التهديدات الإقليمية (ولا سيما ذات المصدر الأميركي) في كل مرحلة وإلى أي مدى تحاول هذه القوى المعادية توظيف العوامل المحلية ضده.
بعض هذه النخبة قد تتمايز عن الحزب في بعض المسائل المحلية، لكن تحت سقف المقاومة. وهنا ينبغي أن تنشأ علاقة تفهّم متبادلة بينها وبين الحزب وبيئته
تمكّن الحزب في مرحلة ما بعد الانسحاب السوري (2005) من إحباط محاولة واشنطن تطويع النظام السياسي ودفعه للمواجهة مع حزب الله، وذلك من خلال: اجتذاب أطراف من النظام (تحالفات سياسية أو انتخابية أو توافقات)، وتحييد بعضهم (عدم المس بمكاسبهم الطائفية والحزبية، إحباط متكرّر لسياساتهم المعادية للحزب)، احتواء الخاسرين بدل القضاء عليهم، هذا فضلاً عن الامتناع عن توظيف قوّته العسكرية في الشأن الداخلي (استثناء 7 أيار، ذي الطبيعة الدفاعية، يؤكّد هذا المبدأ)، خوض المواجهة السياسية بالحد الأدنى الممكن حين يفرض الآخرون ذلك كما في الاستقالة من حكومة سعد الحريري وفي رفع الصوت بوجه القطاع المصرفي لعدم التوسّع في تطبيق العقوبات الأميركية، تحصيل حق الفيتو في القرارات الأساسية لمجلس الوزراء، الإقرار بالفيتو المتبادل للطوائف الكبرى وإلزام نفسه بتحقق الإجماع شرطاً للقرارات في المسائل السياسية الكبرى (كما في مسائل تطوير النظام السياسي وقانون الانتخابات)، الضغط الحذر على النخبة المالية والاقتصادية من خلال الإعلان عن رؤى الحزب في هذه المجالات داخل المؤسسات واللجان والخطاب العام واستعداده للحوار معها وفق ذلك، وصولاً إلى محاولة تطوير البعد الاجتماعي للنظام والتأكيد على أن مسارات الإصلاح تجري من داخل المؤسسات القائمة بما يحافظ على بقاء الدولة وجعل سياساتها أكثر استدامة وعدالة.
إلا أنّ نجاح الحزب في احتواء النظام السياسي لا يعود إلى طبيعة مقاربة الحزب فقط، وإنما يتعدّى ذلك إلى آلية التدمير الذاتي للنظام نفسه التي حفّزتها نخب المنظومة الحاكمة من خلال السياسات الجائرة والنهب المفرط والفشل المتمادي. كما تأثّر الوضع القائم سلباً بتحوّلات الإقليم واضطراباته وحروب المشرق العربي، واستمرار العدوانية الإسرائيلية، وكذلك الضغوط الأميركية لتوظيف المنظومة اللبنانية ضد المقاومة ملقيةً عليها أعباء أكبر من قدرتها على احتمالها. وهكذا كانت تتراجع قدرةُ النظام السياسي والاقتصادي على تلبية المصالح المتوقعة منه وضَعُف تماسكهُ كما تراجعت مشروعيتهُ الشعبية.
ثالثاً: عملية التأهيل الأميركي – من «السيادة» إلى «الإصلاحات»
المحاولة الأميركية لتأهيل النظام عام 2004 عملت من خلال مدخل «السيادة» وأضيف إليها في المحاولة الجارية منذ 2017 مدخل «الإصلاحات». تسعى واشنطن في استغلال الانهيار الاقتصادي والمالي الشامل في لبنان عبر ربطه بسرديّتَي «السلاح غير الشرعي»، أي المقاومة (السيادة)، والفساد مع تظهيره على أنه مرتبط بحلفاء الحزب (الإصلاحات). وهكذا يصبح حزب الله ببساطة مسؤولاً أساسياً عن الانهيار، لا بل المسؤول الوحيد، فيما يتحوّل عدد من أبرز المستفيدين من ريوع الفساد اللبناني وريوع الدعم الغربي لمواجهة المقاومة واستتباع البلد إلى أيقونات الإصلاح والسيادة وقادة ثورة الطبقات الكادحة.
وهنا لا بد من وقفة ضرورية للإشارة إلى أنّ الانهيار يعود لسببين، أحدهما رئيسي والآخر طارئ، وتحضر واشنطن في كليهما. السبب الرئيسي، هو طبيعة النظام السياسية والاقتصادية وممارسات نخبته وسياساتها. وهذه المؤثرات نشأت بالمجمل في كنف رعاية غربية/ أميركية، فالحديث عن دور النظام أو النخبة لا يعفي واشنطن، لكنه ضروري حتى لا تتحرّر النخبة المحلية من المسؤولية الجسيمة. وهذا السبب يعدّ رئيسياً لأنّ الانهيار كان حتميّاً حتى بدون العقوبات والضغوط الخليجية والأميركية، إذ لم يكن يفصلنا عنه سوى عدة سنوات إضافية لا أكثر. أمّا السبب الطارئ، فتتحمّل واشنطن فيه المسؤولية المباشرة من خلال اعتمادها الضغوط الاقتصادية والمالية التي شُدّدت بعد عام 2017 (بدأت العقوبات الأميركية في لبنان تصبح أداة أساسية في عهد أوباما، وكانت ذروتها قانون معاقبة حزب الله 2015).
تعمل واشنطن في لبنان وفق خطين متوازيين تحاول أن تجعلهما متزامنين ومتكاملين؛ خط استراتيجي دائم لتشكيل البنى السياسية والاجتماعية اللبنانية، وخط آخر عملاني ظرفي يفتعل/ يحفّز/ يوظّف/ يوجّه أية أزمة بُغية تسريع الخط الاستراتيجي. وهذا ما يوضح قدرة الدخول الأميركية السريعة على خط الأحداث والأزمات المحلية، عدا عن تعميقها وافتعالها أحياناً. وفي هذين المجالين، توظّف واشنطن وتخترق نخباً وأطراً من داخل المنظومة وخارجها، رسمية وغير رسمية، وتحرّكها و/أو تتقاطع معها في المجال الرسمي (المؤسسات الدستورية والإدارة العامة والمؤسسات العسكرية/ الأمنية)، والمجال المدني (المجتمع، الأحزاب، النخبة، الجهات غير الحكومية، القطاعات الخاصة). هذا مع ضرورة التذكير دوماً بأن الهدف الرئيسي هو فك ارتباط حزب الله، قدر الإمكان، بالمؤسسات الرسمية وتأثيره فيها لإنتاج سلطة معادية للمقاومة تتولّى، بدعم وتوجيه أميركي، دور الوكيل المحلي «الشرعي» لاحتواء المقاومة على أقل تقدير لتعطيل فاعليتها (القضاء عليها هو الهدف النهائي).
• إعادة التأهيل في المجال الرسمي:
1. في المؤسسات الدستورية: الضغط من خلال نتائج الانتخابات التشريعية، ورعاية نخب جديدة تشمل بعض التكنوقراط الليبراليين والابتزاز بالمساعدات والتهويل، والعلاقة مع قوى المنظومة التقليدية لإضعاف حزب الله وحلفائه في المجلس النيابي والحكومة ورئاسة الجمهورية، تحت عناوين حكم الأكثرية العددية وحكومة التكنوقراط والرئيس المحايد وشروط الإصلاح والقبول العربي والدولي… إلخ. ويشمل التأثير هنا فتح قنوات لمؤسسات دولية حكومية وغير حكومية للتأثير المعمق في عمليات اتخاذ القرار تحت عناوين الاستشارة والرقابة والشفافية والتدريب والخبرة، مع العلم أنه لا يصدر عن واشنطن أي موقف مرتبط بالدعوة لتجاوز النظام الطائفي، بل هي تثير دوماً بشكل سلبي قضايا جزئية يمكن أن تمثّل ضمانات لحزب الله.
2. في المؤسسات العسكرية والأمنية: السعي من خلال المساعدات المالية والعينية (التي لها مسارات مباشرة مع قيادات المؤسسات ما يثير إشكالات قانونية) وبرامج التبادل والتدريب إلى محاولة تحويل عقيدة هذه المؤسسات نحو مواجهة «الإرهاب»، والمطالبة بحصرية السلاح (أي نزع سلاح المقاومة) والتشبيك مع النخب الناشئة فيها وفق هذه العقيدة. ويتم تأهيل هذه المؤسسات، في القدرات الأمنية والاستخبارية والفرق الخاصة، لتؤدي أدواراً كفؤة في الأمن الداخلي بما يرفع من مشروعيتها الوطنية بالتوازي مع تظهير المقاومة كفصيل ميليشيوي طائفي فاسد. وهنا تواصل واشنطن الضغط المباشر وعبر حملات المعلومات ضد قيادات أمنية وعسكرية بتهمة العمل لمصلحة حزب الله أو التعاون معه وتحميل هذه المؤسسات مسؤولية التصدي لبعض أنشطة الحزب في محاولة لوضع العلاقة في سياق من المنافسة والخصومة والتوتر، أو الضغط على عاملين في هذه المؤسسات لغضّ النظر عن توترات محددة موجّهة ضد الحزب أو بيئته أو التشدد تجاه أحداث أخرى إن كان لمناصري الحزب علاقة بها.
• إعادة التأهيل في المجال غير الرسمي:
4. المجتمع: تكثيف الدبلوماسية العامة مع المجتمع اللبناني، وبالتحديد البيئات الأكثر قبولاً للدور الأميركي وذلك من خلال برامج التنمية والتبادل والمساعدات والثفافة والفنون، مع التركيز على الشباب والنساء. هنا يبرز التركيز على تحسين صورة الولايات المتحدة وربط السكان بمصالح اقتصادية وترويج الثقافة الليبرالية (تحويل الأزمة اللبنانية إلى مجرد نتائج لقضايا داخلية حقوقية لفئات «مهمشة»). وتستكمل واشنطن هذا الجهد بمحاولة إضعاف قدرة الحزب في مجال التنمية المحلّية والمساعدة في الاستجابة للانهيار الاقتصادي بفرض عقوبات على مؤسساته التنموية ونشر أخبار ملفّقة عنها (الحملة على مؤسسة «القرض الحسن») والاستخفاف بجهود حزب الله الإغاثية والامتناع عن منح إعفاءات للبنان للحصول على الطاقة من إيران أو الضغط لمنع الحزب من توفير المحروقات من إيران للسوق المحلية عبر المنشآت اللبنانية. إضافة إلى رعاية حملات دائمة لإبراز التدين الإسلامي كثقافة طارئة ومتخلّفة وهمجية باختلاق وتشويه وتصيّد وتضخيم أفكار أو أحداث يومية.
5. الأحزاب: تواصل واشنطن علاقاتها مع الأحزاب التقليدية بما فيها الشريكة في المنظومة والمساهمة في الانهيار كونها تمثّل روافع للمشروع الأميركي في البلد ولا تتوانى عن دعم هذه الأحزاب، مباشرة وعبر الحلفاء الخارجيين، والتنسيق معها والعمل من خلالها. بالموازاة ترعى واشنطن أحزاباً وتيارات ناشئة من التجربة المدنية في حراكات 2004 و2015 و2017 تقدّم خطاباً إصلاحياً عصرياً، وهي تجربة ما تزال في مرحلة الإرباك والتخبّط. بطبيعة الحال، هناك تباينات بين حلفاء واشنطن التقليديين والجدد، إلا أنها تتلاقى عندما يرتبط الموقف بالمقاومة. يشمل الدعم الأميركي لهذه الجهات تقديم خدمات مادية وإعلامية وسياسية وتأهيل كوادر وإضفاء الصدقية عليها. من جهة أخرى، تجهد واشنطن لعزل حزب الله عن حلفائه وإضعافهم، ولا سيما من خلال العقوبات التي تهدف إلى وصمهم ولبثّ رسالة ذعر لكل من قد يسعى إلى التحالف مع الحزب. وتراهن واشنطن على أن عامل السنّ سيؤدي إلى إخراج عدد كبير من القيادات السياسية من الشأن العام في السنوات المقبلة وأن استبدالهم لن يكون سهلاً، وهذا ما يمكن توظيفه لدفع النخب والحركات الليبرالية الناشئة إلى الواجهة أكثر، وكذلك لتطويع القيادات الجديدة للقوى التقليدية بمزيج من الضغوط والتفاهمات.
لا بد من مقاربة «تأهيلية» للمنظومة في مواجهة المقاربة الأميركية، فالذي يفرض مقاربته على أجندة النقاش ويحدّد إطاره ستكون له أفضلية واضحة
في المقابل، تتعرّض الفواعل الشبيهة المقربة من حزب الله لحملات للنبذ والعزل والتشويه. مع الإشارة إلى أنّ بعض هذه النخبة قد تتمايز عن الحزب في بعض المسائل المحلية، لكن تحت سقف المقاومة. وهنا ينبغي أن تنشأ علاقة تفهم متبادلة بينها وبين الحزب وبيئته. وهذا ما يستلزم أن تفهم هذه النخبة بعمق الحاجات المحلية للمقاومة والضغوط المرتبطة بالصراع وتأثيرها على تشكيل منظار الحزب للقضايا الداخلية، وفي المقابل على الحزب وبيئته أن يتقبّلا نخبةً كهذه، قد تكون العلاقة معها صعبة أحياناً، وأن يتفهّما تمايزاتها بهذا الحد، فمن شأن ذلك أن يقدّم مجتمع المقاومة بصورة جذابة ويسمح لسرديات المقاومة بأن تصل بأشكال متنوعة ولجماهير مختلفة، عدا عن حاجة الحزب كأيّ فاعل سياسي إلى نقاش سياسي دائم لتطوير رؤاه ومقارباته، وهو ما يمكنه القيام به مع هذه النخبة ما دامت الثقة والتقدير والانتماء لقضية المقاومة واضحة.
خاتمة
توصّل الباحثان جينيفر كافانغ وبراين فريدريك («فورين أفيرز»، آذار 2023)، بعد مراجعتهما لأدبيات مكافحة حركات التمرّد، إلى أن الدراسات تكرّر أهمية التوزانات المحلية في أي بلد تتدخّل فيه واشنطن لنجاحها، بما في ذلك التدخّل العسكري. فالدعم الشعبي للأهداف الأميركية، وقوة وكلاء واشنطن الداخليين، وعجز أطراف خارجية غير منسجمة مع واشنطن عن التدخّل، هي أبرز العوامل في نجاح التدخّلات العسكرية الأميركية.
فالإصلاحات الأميركية تشمل مثلاً: السيطرة على الحدود مع سوريا والموانئ والمطار بحجة منع التهريب، تأييد منطق الأكثرية العددية بحجة الديموقراطية على الرغم من كون قانون الانتخاب طائفياً، المطالبة بحكومة تكنوقراط بحجة فساد السياسيين، مع أن كثيراً من فاسدي المنظومة هم من التكنوقراط، دفع الأموال لجهات لبنانية من خارج النظام الرقابي والإداري للدولة اللبنانية، التعامل مع قضية الفساد بانتقائية ووفق الأجندة السياسية (تركّزت العقوبات الأميركية بزعم الفساد على حلفاء الحزب مع تحييد الحلفاء)، فتح الإدارات العامة ومعلوماتها وبرامجها أمام نفوذ الموظفين الأجانب بحجج الشفافية والرقابة والتطوير. أمّا السيادة، فتعني مثلاً: حصر السلاح بيد الجيش مع منع تسليحه بما يجعله قادراً على ردع العدوان، إجبار لبنان على الالتزام بالعقوبات على إيران وسوريا، رغم أن ذلك يعاكس المصالح اللبنانية ومن دون أن تقدّم واشنطن بدائل من ذلك، ضبط علاقات لبنان مع الصين وروسيا بحجة الحرص على المصالح اللبنانية، خضوع الدولة في قرارات سيادية مثل التصويت في المؤسسات الدولية وإدارة نظامها المالي والاقتصادي وفقاً للأجندة الأميركية وبما يخالف المصالح اللبنانية، الانحياز إلى جانب العدو الإسرائيلي في عدوانه على لبنان، بناء نفوذ غير شرعي في مؤسسات رسمية سيادية.
إنّ العمل وفق منطق التوافق لا يتعارض مع الإعلان عن مقاربات ورؤى مفصّلة في القضايا المحلية الرئيسية ولا سيما التي تمثّل أرضيةً للخروج من المأزق الحالي. كما أنّ الحاجة إلى مساكنة المنظومة (أو بعضها) تفادياً لخطر الحرب الأهلية الطائفية لا ينبغي أن تتحوّل إلى مأزق استراتيجي، وذلك عبر:
(1) تقنين معارك إصلاحية داخلية دقيقة في مفاصل أساسية كالقضاء وأجهزة الرقابة والموازنة (لا تمسّ بالضرورة المصالح العميقة المعقولة للطوائف)
(3) إيجاد مساحة تباين واضحة، لا صراع، مع تلك المنظومة
(4) تنشيط النقاش في المسائل الانتقالية الإصلاحية داخل اتفاق الطائف بذهن منفتح على هواجس الآخرين دون أن يكون مكبّلاً بها.
طبعاً، ليس هناك حلول سحرية، بل باستكشاف الممكن عبر التحرّك التدريجي بزخم والتعلّم وتحديد الأثمان المقبولة (مع لحاظ النتائج على المدى المتوسط والبعيد والانتباه أنّ عنصر الوقت لا يمتلكه أحد) بحسب المخاطر المتأتية من استمرار الواقع الحالي الذي تضع واشنطن كل ثقلها وخبثها فيه لتحويله إلى مصيدة استراتيجية. فأميركا المكبوحة استراتيجياً في خياراتها العسكرية تتوثّب في المجالات الأخرى، وأميركا المأزومة والمضطربة في المرحلة الانتقالية للنظام الدولي تتصرّف أيضاً بحافزية وشراسة، لكن مدمجة بحسّ المساومة والاسترضاء في الدول المتأرجحة حيث تزداد الإغواءات الصينية والروسية.