آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » أنا والهوية وسويعات الشرود…!!

أنا والهوية وسويعات الشرود…!!

 

بقلم د. حسن أحمد حسن

ملاحظة مفتاحية: كلامي في هذه الخاطرة لا علاقة له بجدل أثير بالأمس القريب، وهو ليس موجهاً لشخص محدد بذاته، ولا يعبر عن اصطفاف هنا أو تخندق هناك، بل بوح ذاتي وجداني صرف.

إيه أيها الحلم الغافي في خبايا الذاكرة! … كيف تحولت في غضون سنوات إلى كابوس؟ …
مهلاً على رسلكّ أرجوك لا تدفعني نحو الحافة أكثر، فأنا لا أجيد الطيران، ولا امتلك ترف التفكير بالانتحار.. أخبرني بربك: متى قصقصت بقايا ابتسامات الطفولة، وهي تمخر يمَّ الشقاء بقفزة صبيانية في هواء الحقيقة فتنقلني معها إلى ذاك الزمن الجميل؟ … من أعطاك الحق أن تغمد سيف حقد الآخرين في بؤبؤ عيني التي لا ترى الكون جميلاً إلا بك ومعك؟ … من قال لك أو لغيرك أن من حقك اصطناع هوية لم تكن يوما لك… لم يكن فيها بقيةُ عبقٍ من سنديان بلادي، ولا من عطر من زيتونها وضفائر جدائل غوطتها الزاهية بأزهار المشمش واللوز ورمال الشاطئ الغافي على مصاطب الأمل ومساكب الإرادة التي لا تعرف التردد ولا التراخي منذ أيام المحراث الأول…
هويتك غريبة عني أيها الحلم المعصرن بمقولات ترتدي الفلسفة إزاراً يرقص بين جراحاتي ودمعة طفلٍ ودع أباه قبل أن تخطف مناجل الظلاميين الجدد روحه النقية بذريعة حرية محشوة بكل سموم العصر القادم…. لا.. لن تُزْهَقَ روحي مرتين ولن تُسْبَى بكارة عزتي في مواخير اللبرلة الجديدة وهي ترتدي الأبيض أو الأخضر وتمسك مبضع الجراحة لتعيد تفصيل الهوية بذريعة قصور الإيديولوجيا وعجز المؤدلجين عن إكمال مشوار الخراف إلى المسلخ بالتتالي وبطواعية مريبة…
هويتي لم تكن يوماً مجرد كلمات على قطعة كرتون مغلفة بالنايلون… هويتي أنا وأنت وهو وهي بالأمس واليوم وغداً…هويتي سيرورة وصيرورة لا تتكامل مكوناتها بين يوم وليلة، ولا هي منبتة الجذور في أعماق الأصالة، كما أنها ليست مبتورة الأغصان المشرئبة نحو الشمس والأفق اللامحدود…
هويتي كإنسان مشرقي عربي سوري لا تبيح لأحد أن يتلعثم لسانه بتوصيفها ليمنحها شرف الوطنية أو يسلبها ذلك… الوطن بكليته هويتي: بسمة هذا الطفل وجراح الآخر… زغردة هذه الفتاة والشعر الأشعث المنفوش والمتشابك لدى زميلتها وهي تقاسمها المرح بأراجيح الممكن… هويتي صرخة أنثى تضع مولودها ليفتح عينيه على النور، وضربة فأس لفلاح يستولد أرضه رغم المحل القاحل… هويتي نظرة إصرار ويقين من عامل ينظف آلته ويزيل الصدأ عن مسنناتها بعد طول توقف وتعطيل… هويتي بندقية هذا الجندي المتجه لملاقاة الموت كي ينعم الوطن وأبناؤه بأوكسجين الكرامة…
مهلاً وعلى رسلكم أيها الحلم الكابوس! فأنا ممن لا يملكون ترف الوقت للتمتع بمتابعة صراع الديكة وهتافات التشجيع، ويقيني أن الغالبية وجدت نفسها بعد شرود طال أو قصر على حلبة الصراع بين موت وحياة … بين هوية هي الوطن وتحمله، وبين هوية توطين الجدل النخبوي الذي لا يعني العامة من الناس، وما لا يعني العامة لا مبرر لفرضه عليها، فمنجل التجهيل والتهميش لا يفرق بين رقبة مثقف ورقبة بائع متجول… معاداة النجاح يلتقي فيها المتخندق بذريعة عذرية الأصالة التي لا يجوز فض بكارتها مع المتمرس بعصرنة مقيتة توحدنا لضمان سيرنا جميعاً بهدوء نحو المسلخ الذي سبقنا إليه آخرون كثر…
عذراً أيها الحلم الكابوس فالخلاص والقيامة المضمونة تبعدني عما يعرضه فرسان الهيكل، فالهويات المقترحة كبدائل موضوعية محكومة بالواقعية السياسية تسلبني ثوابت الأصالة ولا تمنحني انتفاء الخوف على الأبناء والأحفاد، وجينات الانتماء للوطن الأمل ترفض الأجسام الغريبة المطلوب زراعتها في خلايا عروبة الجسد وسورية الفكر المتوثب لبعث القدرة على الانطلاق بعد كبوة آن لها أن تأفل وترحل إلى غير رجعة، وقبل أن أنهي كلماتي يعز علي أن أقول لكل من يحلم بتسويق هوية اللاهوية: من حقك أن تفكر كما تشاء، ومن حقي ألا تحرمني هذا الحق، فما تعرض عليَّ قبوله قد يكون أجمل شكلاً وأبهى رونقاً، لكني أشتم فيه رائحة غريبة لهوية مكتوبة بأحرف عربية لكن… وأنا الحامل شهادة عليا أجد ذاتي أميَّاً لا يجيد القراءة ولا التمييز بين الحروف… هويتك التي أعرفها ولطالما ترنمت مكوناتها كانت أبهى وأجمل… كانت زاخرة بالحب والإيثار والتكافل.. كانت تحمل نواعير حماة وسنابل الجزيرة ونقاء البادية السورية… كانت مزدانة بتفاح السويداء وعنبها، وبخضراوات حوران وثراها الأحمر المشتهى..
عذراً وطني الحبيب وأنت المعرش في القلب وأنا الساكن فيك… أنأ بعض نبتك وقد انقض الجراد المتوحش من كل أصقاع الكون ليجتث الخضرة من وهادنا وودياننا… من عربشات الدوالي على مداميك الأمل… ومن تدلي العناقيد التي اختبأت في أطراف الأغصان فلا الوصول إليها ممكن، ولا تركها محتمل ورؤيتها وهي تتدلي لتجف نضارة الحبات المتداخلة كخلية نحل…
عذراً فأنا الإنسان العربي السوري المسكون بشموخ قاسيون موقنٌ أن الياسمين الشامي سيبقى يوزع عبقه، فيحمله عشاق الوطن نغماً قدسياً تحميه رجال يؤمنون بالغد الأجمل تحرسه هيبة العرين.

(خاص لموقع سيرياهوم نيوز)

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أليس مونرو… عملاقة القصة القصيرة

محمد ناصر الدين     لم يجانب الصواب نقّاد الأدب حين قارنوا أعمال الكندية الراحلة أليس مونرو (1931-2024) بروائع جويس وتيشخوف، إذ إنّ المتوغل في ...