| صفية أنطون سعادة
شهد تاريخ الانسانية ثلاث ثورات تختص في طريقة التنظيم المجتمعي، وبالرغم من أن كل ثورة انطلقت من منطقة جغرافية معينة، إلا أنه سرعان ما تبناها العالم.
الثورة الأولى حتّمت الانتقال من الانتماء العائلي باتجاه الدائرة الكبرى، أي القبيلة، فأصبحت هوية الفرد مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بانتمائه إلى قبيلته، فيعرّف نفسه بالانتساب إليها، ومن واجباته الدفاع عنها، والثأر لها، حتى وإن كان الأذى لا يمسّه شخصياً. أمّا الانتماء، فمردّه إلى صلة الدم عبر النظام الأبوي. انتشر هذا النموذج للتنظيم الاجتماعي في مجتمعات العصور القديمة كافة، وبقي سائداً حتى القرون الوسطى، حين انتصرت الثورة الثانية المبنية على الاتحاد الديني، فتحوّل الانتماء من التعريف بناءً على صلة الدم، إلى التعريف تبعاً للإيمان، وانتشر هذا النموذج شرقاً وغرباً.
الثورة الثالثة، والتي نعيش في خضمّها اليوم، ترتكز فيها وحدة المجتمع على البقعة الجغرافية التي تنتمي إليها. فمفهوم «الدولة-الأمّة» (nation-state)، مفهوم حديث لا يرتكز على الصلة الاثنية أو الدينية، أي الصلة الشخصية، إنما ينطلق من وجود شعب على أرض محددة، فإن أخذت منه الأرض، فقد هويته المجتمعية. ففي حال تم تهجير كل سكان فلسطين الأصليين – وهذا ما يطمح المشروع الصهيوني إلى إنجازه – ينتفي الوجود الفلسطيني، ويصبح الفلسطينيون مرغمين على تبني هويات وطنية مغايرة لوطنهم، فنقول إنه/ها أميركي من أصل فلسطيني إذا لجأ إلى الولايات المتحدة الأميركية، أي أن انتماءه السابق إلى أرض فلسطين لم يعد يمثّل هويته الوطنية، ووجوده الدائم على الأرض الأميركية يدفعه إلى أن يكون جزءاً منها، فيخضع لقوانينها، لا لقوانين بلد المنشأ فلسطين. وإن نشبت حرب بين الولايات المتحدة الأميركية ودولة عربية، سيضطر هو، أو أولاده وأحفاده، إلى حمل السلاح لصالح أميركا، تماماً كما يفعل الأميركي من أصل أفريقي حين يحارب بلداناً أفريقية.
استبق أنطون سعادة عصره في تحديده للدولة-الأمة فعرّفها على أساس أن «الأمة جماعة من البشر تحيا حياة موحّدة المصالح، موحّدة المصير، موحّدة العوامل النفسية-المادية في قطر معين يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التطور، خصائص ومزايا تميزها عن غيرها من الجماعات» (أنطون سعادة، نشوء الأمم، بيروت، دار سعادة، 1999، صفحة: 165). النتائج المترتبة عن هذا المفهوم القائم على هوية «المتحد»، تغيّرية وثورية لأنها تعني:
أولاً، انتقال الجماعات البشرية من تنظيم اجتماعي قائم على الهوية الشخصية من دينية أو اثنية، إلى هوية المتحد الجغرافي، أي الانتماء إلى أرض تحدد هويتنا. هذه هي الهوية السائدة اليوم في العالم أجمع، فلا أحد يستطيع أن يسافر دون أن يكون حاملاً جواز سفر يدل على هوية الوطن الذي يقيم فيه. لم تعد الهوية تتمحور حول الاثنية أو الدين. فإن أخذنا المثال الإيراني لوجدنا أن التشديد هو على كلمة «الجمهورية»، أي تمثيل الشعب لا الدين، بالرغم من إضافة صفة «الإسلامية» إليه، فإن افترضنا أن مزاج شعبها تغيّر، وألغيت كلمة «إسلامية»، فهذا لا يغير من وجودها كدولة قائمة بذاتها اسمها إيران، سكانها إيرانيون بمعزل عن دينهم أو اثنيتهم.
ثانياً، بالرغم من أن التنظيم الحديث للدولة-الأمّة نشأ مع بداية القرن الثامن عشر في أوروبا، إلا أن هذا النموذج الثوري لتنظيم المجتمع انتشر في جميع القارات، لأن الشرعية الدولية أصبحت تعتمد على مفهوم الاتحاد الجغرافي، لا على الاتحاد الديني أو الاثني. هذا يعني أننا إذا لم نتبنَّ التنظيم الحديث المبني على الانتماء إلى المتحد الجغرافي، نخسر هويتنا ووجودنا، ويتم استيعابنا ضمن منظومة دولة-أمة أخرى تحتلنا.
رابعاً، يستتبع مبدأ المساواة بين المواطنين المقيمين على هذه الأرض، عدم اعتبار الدين أو الاثنية عاملاً مؤسّساً للهوية الوطنية المستحدثة. هذا لا يعني إلغاء الدين أو الاثنية، لكنه يعني إدراجهما كانتماء شخصي منوط بحرية الفرد، وحرية المعتقد ضمن مبدأ المواطنة.
خامساً، وهذه نقطة مهمة للغاية في تطور المجتمعات، تبرز أهمية الفرد بناءً على كفاءته، وليس بناءً على نسبه، أو أصله وفصله، وتصبح الألقاب مجرد ألقاب لموروثات تاريخية لا تلعب دوراً مؤثراً في الحراك الاجتماعي نحو الأعلى. فمن يريد تبوُّؤ سلطة ما عليه أن يكون كُفُؤاً في مضمار اختصاصه كي يخدم المجتمع في مواجهة تحديات المجتمعات الجغرافية الأخرى.
سادساً، كي يستتب مبدأ المساواة تنشأ دولة القانون التي تضع قوانين تشمل الجميع دون أي استثناء. هذه القوانين تنبع من إرادة الشعب الذي هو مصدر السلطات، وتتطور بالتوازي مع تطور المجتمع، ولا تُفرض من أي جهة خارجية، لأن هذه القوانين تختص بمجتمع معين، ولا تشمل مجتمعات أخرى.
راعَ أنطون سعادة، وهو في الرابعة عشرة من عمره، الانهيار الكبير لمنطقة الهلال الخصيب مع نهاية الحرب العالمية الأولى، حين شاهد انتقال ملكية هذه الأرض وشعبها، من السلطنة العثمانية إلى الانتدابين الفرنسي والبريطاني، ثم تقسيمها إلى دويلات طائفية، فعكف على دراسة علمية لوضعها من أجل استنباط الحلول المناسبة لهذه المنطقة المتميزة عن غيرها من المناطق، وخلص إلى الاستنتاج بأن لا مكان لنا في التاريخ الحديث إذا لم نؤسس بناءً على مفهوم «الدولة-الأمّة»، فلا الدولة الطائفية، ولا الإمبراطوريات الدينية، ولا التجمعات القبلية، تستطيع درء هجوم الدول الوطنية المعادية، لأن هذه الأخيرة مجتمعاتها متماسكة حول مصالح مواطنيها، بينما مجتمعاتنا منقسمة على نفسها لأنها ترفض التخلي عن اتحاداتها الشخصية من دينية واثنية.
اعتبر سعادة أن الهلال الخصيب يمثّل وحدة مجتمعية منذ القدم، ويحتوي على حضارة مشتركة بين جميع كياناته، فطالب بوحدة «سوراقيا» عام 1947، بعد أن قام بدراسات مستفيضة اعتمدت على الاكتشافات الأركيولوجية الحديثة شمال سوريا والعراق، والتي بيّنت ترابط بلاد الشام والعراق، فاقترح اسم «سوراقيا» بدلاً من سورية الطبيعية، على أساس أنها «الدولة-الأمّة» التي يجب العمل من أجل تحريرها ونهضتها (أنطون سعادة، الأعمال الكاملة، بيروت، مؤسسة سعادة الثقافية، 1999، الجزء الثالث، صفحة 455).
هذه الفاصلة التي امتدت منذ سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1990 انتهت، ونحن في صدد العودة إلى عالم متعدد الأقطاب يشدد على شرعية واستقلالية الدولة الوطنية كتعبير عن حرية مجتمع ما، في وضع الأهداف الملائمة لتقدمه وازدهاره
«إن شرط كون الدين عنصراً قومياً، أن لا يتضارب مع وحدة الأمة ونشوء روحها القومية، فإن فُقد هذا الشرط زالت عنه صبغته القومية، وعادت له طبيعته العامة» (أنطون سعادة، نشوء الأمم. بيروت، دار سعادة، 1999، صفحة 163).
بناء المجتمع على أساس الكفاءة، لا النسب والحسب، ثورة بحد ذاتها، لأنه يقود المجتمع إلى التمسك بالمعرفة كمقياس لتطور المجتمع، ولإمكانية تنافسه مع الأمم الأخرى، وحتى تفوقه، فكلما تمسّكت دولة ما بالنسب كمعيار للوصول إلى مراكز القرار، تخلّفت هذه الدولة عن الركب الحضاري، وانهار مجتمعها.
فكر سعادة حاضراً
لو لم يكن فكر سعادة الوطني مواكباً للأحداث والتطورات المتلاحقة في أيامنا هذه المليئة بالمفاجآت الإيجابية، لما كنا انهمكنا في دراسة فكره كمنارة للمستقبل، فهذا المفكّر المهموم بوضع بلاده المأساوي، وكأنها تراجيديا خاصة به، قدّم حلولاً استنبطها من دراسته المجتمعية لتاريخ بلاده الممتد على طول مساحة الهلال الخصيب، عاملاً على استنهاضها عبر تبني مبدأ «الدولة-الأمّة» الذي ليس غريباً عن تاريخها القديم الذي شُيد على مبدأ «الدولة-المدينة» حيث كان الملك يُنتخب من سكان المدينة.
النموذج الذي قدّمه سعادة لسوراقيا منتصرة على سايكس-بيكو ووعد بلفور الاستعماري لا يزال النموذج الأفضل لدولة وطنية، تفصل بين الدين والاثنية من جهة، والسياسة من جهة أخرى، فتعمل للمجموع لا لنخبة معينة، وتساوي بين المواطنين طبقاً لمبادئ الديموقراطية.
فكر سعادة فكر واقعي، فهو لا يقول إن نموذج «الدولة-الأمّة» هو نموذج أبدي، بل يؤكد أن هذا هو واقع العالم اليوم، وعلينا تبني هذه المنظومة لأنها الأقوى في حماية المجتمع من الاندثار. فهو ينقلنا من حال التعصب والتشدد القبلي/الاثني والطائفي/الديني، إلى حال التشارك وقبول الآخر بناءً على مصير مشترك تحتمه البقعة الجغرافية التي نعيش من ضمنها، فأي خلل في هذا المجتمع سيصيب الجميع أكانوا مسيحيين أم مسلمين، أم من أصول عرقية مختلفة. فنحن لا نستطيع أن نلغي الاختلافات الدينية والاثنية، ويجب المحافظة عليها إغناء للمجتمع، لكن الوعاء الوحيد الذي يستطيع استيعاب كل هذه التناقضات هو وعاء الدولة الوطنية، فينتج عن هذا النموذج الكثير من الإيجابيات في ما يختص بحقوق المواطنين، والمساواة بينهم، والحفاظ على حرية الرأي والفكر والمعتقد.
المساهمة الكبرى لسعادة أنه الوحيد بين المفكرين السياسيين في العالم العربي الذي ركّز على الجغرافيا والأرض في تحديده للدولة-الأمّة. لا يقدّر كثيرون الأهمية القصوى لهذا التحديد في بناء مجتمع متناسق، له أهداف مشتركة بعيداً عن مفاهيم أخرى للدولة تريد البناء تبعاً للدين فتقع في مطبات تفضيل دين على دين آخر، ومذهب على مذهب؛ أو تبعاً للاثنية وهيمنة اثنية على اثنيات أخرى، فينتج عن ذلك حروب مدمرة تقضي على وجودنا كهيئة اجتماعية موحّدة. تحديد الأرض كمرجعية للشعب يضع الجميع أمام مسؤولية الدفاع عنها، وبالتالي الحفاظ على الشعب الذي يحيا على هذه الأرض بمعزل عن دينه أو عرقه.