لور شدراوي
حملت طفلي في أحشائي 280 يوماً. كان ذلك عام 2014، وكانت الحرب في سوريا قد صارت أكثر وحشية وهمجية، وبدأت تتوالى مشاهد المجازر التي يرتكبها النظام والمعارضة، وفيديوهات الإعدام الوحشي التي ترتكبها داعش وتنقل على الهواء مباشرة.
ثم كانت جولة أخرى من العدوان الصهيوني على غزة وكالعادة، تعمدت إسرائيل ارتكاب أفظع المجازر بحق المدنيين.
أذكر أنني كنت أشاهد الأخبار يومها وتمنيت لو كان في إمكاني أن أبقي الجنين في أحشائي لسنتين كما تفعل الفيلة، مع أنني كنت أنتظر أن أحضنه بفارغ الصبر.
كنت لا أزال يومها أعتقد أن العالم جميل ويستحق الحياة… رغم الظلم والوحشية. لم أكن شاهدة بعد على عالم يتفرج على إبادة وتجويع وقتل متعمّد للأطفال، من خلف شاشة.
عندما حملت بطفلي الأول، أصابني خوف غير مبرر من فقدان الجنين. كنت أخاف أن أتعثر، أو إن قمت بالعطس أو أصابتني موجة سعال أو ضحك. ماذا لو تألم الطفل على أثرها؟ أسأل غوغل عن كل شاردة وواردة (كان ذلك قبل شات جي بي تي سيئ الذكر).
مع ذلك لم أكن أتخيل أن ما ينمو في داخلي سيكون طفلاً بين يدي بعد أشهر.
بل كنت أشعر كأن الحمل نوع من المرض ينتهي بالتوقف عن الحمل، ويعود كل شيء كما قبل. وعندما أتذكر أن الحمل عادة ينتهي بالإنجاب، أشعر بالتوتر: الحمل هو تذكرة ذهاب من دون إياب. لا أعرف ما كان يخيفني أكثر: أن أخسره أم أن أنجبه. هل أخاف من هذا الجنين أم عليه؟
لا يمكنني أن أتخيّل ما يدور في ذهن نساء غزة الحوامل. ربما ليس لديهن رفاهية التفكير في هذه الأمور أو هي أكثر إلحاحاً بكثير؟ نساء غزة يفقدن أجنة وأطفالاً كل يوم.
كيف يتحمل العقل كل هذه القسوة؟ نحن الشهود على هذه الإبادة وعلى عجزنا، أمامنا احتمال من اثنين: أن نفقد عقلنا أو أن نفقد جزءاً من روحنا.
لا يوجد احتمال ثالث. كيف نكمل حياتنا بشكل طبيعي؟ كيف يتآلف المرء مع عالم بهذا القبح؟
كنت أتحدث مع الجنين وأقول له: لا أعدك بأن أكون أماً مثالية فقد أفشل في ذلك لكن أعدك أن أجنّبك بعض الصدمات النفسية التي مررت بها في طفولتي.
لا، ليس من قلة الأدب أن تقول للكبار لا وألا تقول لهم شكراً. سترى أن البالغين، وليس الأطفال، هم من يحتاجون إلى تعلم الآداب وحسن السلوك. أعدك أنك لن تضطر أبداً أن تتمنى أن تكبر بسرعة، أو أن تظن أن أصعب شيء على الإطلاق هو أن تكون طفلاً.
أطفال غزة يحلمون بالموت كي لا يروا أشلاء آبائهم وأمهاتهم ورؤوس رفاقهم المقطوعة.
ميلي للإفراط في التفكير والتحليل زاد من القلق الذي يرافق الحمل. صرت أعيد النظر في معتقداتي. لم أعد أريد أن أكون مادية وحاسمة في الإلحاد. صرت أميل إلى التفكير في أن هناك روحاً في كل منا، أننا والجبال والغابات والأشجار وكل أنواع الحيوانات والطيور والحشرات وممالك النمل، والمحيطات ومخلوقاتها، والأجرام والنجوم كلّنا في اتحاد متكامل مع هذا الكون.
الطفل يرى العالم ساحراً لا بل سحرياً. لا يتوقف عن الدهشة، أما أطفال غزة، فيحلمون بالموت كي لا يروا أشلاء آبائهم وأمهاتهم ورؤوس رفاقهم المقطوعة
كنت أحب زيارة الطبيب النسائي للتلصص على الطفل. إنها الآلة العجيبة التي تنقل لي بثاً حياً من داخل بطني على شاشة بالأسود والأبيض لكائن يشبه الكائنات الفضائية.
الواقع يمكن أن يكون أكثر سحراً من قصص الخيال. في فيلم «بوي هود» يتحدّث والد (يقوم بدوره ايثان هوك) مع ابنه فيقول له: «ما الذي يجعلك تعتقد أن مخلوقات الإلفز أكثر خرافة من كائن كالحوت مثلاً؟ ماذا لو قلت لك إن هناك حيواناً بحرياً عملاقاً يعيش في المحيط ويستخدم نظام السونار وهو كبير لدرجة أن قلبه بحجم سيارة؟ ألن تفكر أنه مخلوق خرافي؟».
بالفعل، أليس أشبه بالسحر أن مخلوقاً صغيراً لا يتعدى حجمه حبة كاجو مربوط بي بحبل سري ويتغذى مما آكل فتنمو له عظام وأصابع وقدمان وأوردة؟
الطفل يرى العالم ساحراً لا بل سحرياً. لا يتوقف عن الدهشة، كل شيء هو لغز. لذلك هو لا يشكك عندما نقول له إن هناك رجلاً يلبس الأحمر ويتنقل على عربة تجرها غزلان تطير في السماء وينزل عبر المدخنة ليوزع الهدايا على الأطفال. ليست هذه الخرافة أغرب ما شاهده مذ فتح عينيه على هذا العالم.
أطفال غزة يحلمون بأكياس طحين. يحملون أشلاء شقيق أصغر في كيس خضار. أطفال ما عادوا يحلمون وانطفأ السحر في عيونهم. اليقظة كابوسهم اليومي.
تربية الأطفال جعلتني أعيد النظر في نظمنا الاجتماعية. عندما نشرح مسألة كالمال أو الملكية الفردية لطفل عمره خمس سنوات نكتشف من رد فعل الطفل بأن ما نقوله هراء لا معنى له. صرت أرى العالم عبر شرحي للأمور لهما، وأحياناً كنت أعجز عن الشرح أو أشعر أن شرحي لا يستقيم. حاوِل إقناع أي طفل بالرأسمالية أو الحدود الجغرافية أو قوانين الهجرة وستكتشف أن هذه النظم كلّها منافية للمنطق.
اليوم أجد نفسي أتساءل: هل أعدّ ولديّ للنجاح في هذا العالم أم ليكونا صالحين؟ الأمران غالباً يتعارضان في عالم ما بعد تطبيع الإبادة. لا يمكن أن تنجح وتناصر الحق معاً.
أنا لا أقدّس الأمومة كما يفعل البعض ممن يتحدثون عنها وكأنها نادٍ خاص ومميز، أو من يقول لك إن الأمومة نعمة وإنها تشعرهم بالكمال وتعطي حياتهم غاية ومعنى. لا أؤمن بحدس الأم أو بحبها الغريزي وكل التصنيفات الأخرى التي يتغنون بها وكأن هناك استحقاقاً للقب أم.
ربما لذلك شعرت خلال الحمل بأني سأكون أماً سيئة. شعرت بهوة فكرية كبيرة ورحت أقرأ عن تربية الأطفال وكأن هناك قائمة أختار من بينها الأسلوب الأنسب لي!
ثم عثرت على مقالة وفهمت أني أطرح الموضوع بطريقة خطأ. يقول الكاتب إن عبارة parenting أو «الأمومة والأبوة» بالإنكليزية تُستخدم كفعل وليس كاسم فقط (كأن تقوم بأمومة طفلك)، وهو ليس أمراً طبيعياً لأننا لا نستخدم عبارات «زوج وزوجة» و«ابن وابنة» كأفعال، فلمَ تكون الأمومة والأبوة فعلاً بدل أن تكون مجرد حالة؟ كان أبي على حق عندما قال لي وقد رآني أقرأ كتاباً عن تربية الأطفال: جدتك ربتني وهي لم تكن تعرف القراءة ولا الكتابة!
وهكذا توصلت إلى خلاصة واحدة: أن الإنجاز الحقيقي الذي علينا تحقيقه في تربية أطفالنا هو أن نعيد تربية أنفسنا وأن هذا أقصى ما يجب أن نطمح إليه وأفضل ما يمكن أن نقدمه لأطفالنا كآباء وأمهات! وعدت طفلي ألا أسعى إلى جعله ابناً مميزاً، بل أن يكون سعيي الوحيد هو أن أكون أماً أفضل. المضحك المبكي أن هاجسي كان يومها ما سيخبره طفلي للمعالجين النفسيين عني عندما يكبر!
أي علاج نفسي يمكن أن يشفي جراح أمهات وآباء وأطفال يعيشون الإبادة والعالم لا يبالي؟
يوم الولادة كان طويلاً جداً. استغرق مخاضي ما يقرب من ست عشرة ساعة! شعرت خلالها بآلام مبرحة، رغم وجود إبرة الايبيديوريل! كان مولودي الجديد يبكي بصرخات متقطعة بينما تقوم الطبيبة بتقطيب أسفل الفرج الذي تمزق بفعل الولادة. لا أحد يخبر النساء أن آلام الولادة لا تنتهي معها بل تستمر لأيام وأسابيع بعدها.
كل ذلك الألم وكنت في مستشفى. كيف تلد نساء غزة من دون تخدير ومستشفى وأطباء وممرضين وأدنى عناية طبية؟ لا يمكنني أن أتخيّل حجم تلك الآلام!
لم تكن الرضاعة تلقائية كما كنت أعتقد، بل هي عملية تقنية لها منطقها وقواعدها التي ينبغي إتقانها وتحتاج إلى الكثير من الصبر وما دونها بعض الألم الجسدي أحياناً (لماذا لا يتحدث أحد عن هذه الأمور؟) لكني سأصبح خبيرة رضاعة بعد أسابيع وسأقوم بإرضاع طفليّ لما بعد السنتين لكل منهما!
نساء غزة حرمهن الصهاينة من إرضاع أطفالهن. الحصار المطبق يطبق أيضاً على مجرى الحليب في ثدي الأمهات.
تسعة أشهر من الحمل ليست كافية لتحضير الوالدين الجدد للاعتناء بالطفل. فكرة أن هذا الكائن الهش أصبح الآن بعهدتي وأن هؤلاء الأطباء والممرضات لن يذهبوا معي إلى البيت أرعبتني. يحتاج الرضيع إلى عناية ومراقبة توازيان إلى حد كبير ما يحظى به المرضى في قسم العناية الفائقة، مع فارق أنه برعاية شخصين عديمي الخبرة ويجهلان أدنى متطلبات العمل.
في اليوم السادس بدأ اكتئاب ما بعد الولادة أو «البايبي بلوز». راحت الأفكار اللاإرادية تجتاح مخيلتي. بدأت تلك الأفكار عندما كنت أحمل طفلي ذات مرة على شرفة المنزل. ماذا لو سقط من يدي؟ ماذا لو قمت برميه عن قصد؟
أدخل مسرعة وأغلق باب الشرفة. لن أخرج بعدها مع طفلي إلى الشرفة أبداً. من أين تأتي هذه الأفكار المتطفلة وكيف تسيطر هذه الصور المرعبة على تفكيري؟
رحت أقرأ عن كآبة ما بعد الولادة، ورغم التطمينات التي وجدتها عن أن الأمر شائع وبأنني لن أقوم بإيذاء طفلي، إلا أنني شعرت بالذنب. أردت أن أؤمن بالقديسين والملائكة، بكائن خارق يمكنني الوثوق به لحماية هذا الرضيع… مني أنا أولاً.
لا وقت للبايبي بلوز والوسواس القهري في غزة حيث يُقطع الأوكسيجين عن الأطفال الخدّج في داخل الحاضنات.
لم أكن أحتمل رؤية طفلي يتألم. أنين الطفل يذكرني بمدى عجزي. كنت أتوجس أيضاً من متلازمة موت الرضيع الفجائي أثناء النوم والتي لا يعرف لها الطب تفسيراً، ما جعلني أستيقظ مرات عدة في الليل لأتفقد ما إذا كان طفلي يتنفس.
رعب الأمهات والآباء في غزة أن تقع سقوف منازلهم على رؤوس أطفالهم، وتنزل القنابل عليهم وهم نيام.
فلسفتي الوحيدة في تربية الأولاد أو النظرية الوحيدة التي كنت أقتدي بها هي «نظرية التعلّق» Attachment Theory التي كان الطبيب الكندي غابور ماتي أول من أرشدني إليها في كتابه: «Hold On to Your Kids». تعارض هذه النظرية بعض النظريات الشائعة حتى الحديثة منها.
تسبّب لي اقتدائي بهذه النظرية بأن أسمع الكثير من الانتقادات على أسلوبي في التربية (لسبب ما، عندما يتعلق الأمر بتربية الأطفال يعطي الآخرون، من الأقربين والأبعدين، لأنفسهم الحق بإبداء الرأي وإعطاء النصائح من دون أن يطلبها أحد).
من الانتقادات التي كنت أسمعها أنني أحمل الطفل كثيراً، وأنه عليّ التوقف عن الرضاعة، وعليّ تدريبه على النوم بمفرده عبر تقنية Cry it Out أي «دعه يبكي إلى أن يغفو من شدّة التعب»، أو تعليقات من نوع «إن طفلك متعلّق بك كثيراً» باعتباره أمراً سيئاً، وكنت أفكر «بمين بدو يتعلّق؟ بالجيران؟».
يعتبر غابور ماتي أن لا وجود لضرر اسمه «أن تحب طفلك أكثر من اللزوم» بل أنّ المجتمع الحديث يفرض على الوالدين أساليب جديدة في العلاقة مع الطفل تقوم على تشجيع الانفصال بدل خلق الروابط، وهو ما يخالف طبيعة البشر ويتعارض مع حاجات الطفل.
ويضيف أن رد فعلنا الطبيعي كأمهات وآباء هو بحمل الطفل عندما يبكي ويستغيث، ولكن المجتمع وبعض «الخبراء» يدفعوننا إلى التفرّج على محنة الطفل بدل الاستجابة لشعورنا الغريزي بحمله.
المفارقة أن جميع هذه النظريات المسيئة للطفل مثالية للنظام الرأسمالي وتتكامل معه. هذا النظام يعطي إجازة أمومة لا تتعدى ستة أسابيع أحياناً، ويسهّل استقدام عاملات المنزل والمربيات، ويركّز على أهمية مراكز رعاية الأطفال في سن مبكرة، ويشجّع الأم على الفطام باكراً. كل ذلك يمهِّد لعودتها سريعاً إلى سوق العمل فلا تتعطّل عجلة الإنتاج.
لكن الترويج لهذا النمط المجتمعي، بكل ما يسبّبه من أذى جسدي ونفسي للأم والطفل، يتم بذريعة تحقيق المساواة كما تروّج لها النسوية الليبرالية التي تتماهى مع النظام الرأسمالي.
يتم تسخير الأبحاث الطبية أحياناً في سبيل الخروج بنظريات تصبّ كلّها في مصلحة النظام الرأسمالي. الكثير من الشركات تنشئ أقساماً مختصة بالدراسات والأبحاث، وتوظف أطباء ومتخصصين للخروج بنتائج بحثية توظَّف في سبيل زيادة أرباح الشركة.
في وقت من الأوقات، كانت شركات تصنيع حليب الأطفال أو ما يعرف بالفورمولا (لأن التسمية تبدو أكثر علمية من حليب البودرة) تروّج له باعتباره أفضل من حليب الأم، وبأنه يحتوي على فيتامينات ومغذيات لا يحتويها حليب الثدي، وروّج الأطباء أحياناً لهذه الادعاءات. عدد كبير من أبناء وبنات جيلي كانوا ضحية هذه الكذبة التجارية التي حرمتهم من الرضاعة الطبيعية.
أنا على قناعة أن ذلك يعود بجزء كبير منه إلى تلك الدعاية التلفزيونية في الثمانينيات لإحدى ماركات حليب البودرة الشهيرة ترافقها موسيقى حزينة وتظهر فيها أم متأثرة بمراحل نمو طفلها إلى أن يتخرج وتصدح الأغنية أن أولادها «الصغار تغذوا وصاروا كباراً».
قلت مرة لمعالجتي النفسية، وهي أميركية، بعد أن سردت لها قصصاً من طفولتي، إنني محظوظة مقارنة بآخرين كانت طفولتهم أسوأ بكثير. قالت يومها إن علينا ألا نقلّل من شأن معاناتنا لمجرد أن غيرنا عانى أكثر منا. اقتنعت بذلك يومها.
بعد الإبادة صرت أرى معالجتي النفسية جزءاً من المشكلة. الطب النفسي الغربي جزء من منظومة الاستهلاك والاستغلال، وضِع على قياس الإنسان الأبيض لتبرير نمط الامتيازات التي يعيشها على حساب الشعوب الأخرى. كيف لم أدرك من قبل كيف أن كل هذه المنظومة تهدف إلى التخفيف من الشعور بالذنب لدى البيض (والملونين الذين يتبنّون السردية البيضاء).
هناك غشاوة سميكة أمام عيوننا جميعاً لو أزيحت لرأينا بوضوح كيف أن كل أسلوب حياة الرفاهية لكل شخص يعيش في دول الشمال تتغذى على مآسي شخص ما في دول الجنوب، وأننا حتى عندما ندرك هذه الحقيقة ولو أردنا ذلك، لن نتمكّن من الخروج من هذا المايتركس المجحف.
كما إن هناك حركات نسوية تنأى بنفسها عن معاناة نساء يحملن ويلدن تحت وابل الصواريخ، وفي مستشفيات تحت القصف، ويمنعن عن الرضاعة بسبب الحصار ونقص الغذاء، ويتضوّرن جوعاً بسبب التجويع، ويثكلن بأطفالهن جميعاً، هناك أيضاً حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي تنشر الوعي عن «التنشئة اللطيفة» gentle prenting وتتغاضى عن قنص الأطفال وقتلهم المتعمد وبتر أطرافهم من دون تخدير.
هي العنصرية بوجهها الحديث. لا خيار أمامنا سوى مقاومة آلة العنف هذه ومواجهتها بكل السبل، وفاءً لدماء أكثر من 17 ألف طفل في غزة، وعلَّ أطفالنا يكبرون في عالم أكثر عدلاً وجمالاً كما تحلم لهم أمهاتهم.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار