| سعيد محمد
هل يمكن إنتاج الترفيه عن حدث بشع للغاية؟ ذلك تحديداً ما قام كريستوفر نولان في «أوبنهايمر»، فيلمه الملحمي الهائل الذي يستعيد سيرة «أبي القنبلة النووية. بالطبع لا يمكن أن يكون الخيال السينمائي مجرد نزهة بريئة في حديقة التاريخ. لكن الإشكالية التي من أجلها يلوي نولان عنق الأحداث فيتجاهل الضحايا، ويتناسى الدّوافع ويمجّد التركيبة وذلك السيكوباث العبقري في قلبها، أكبر من أن تغطيها فخامة الصورة ونقاء الصوت بتقنية آي ماكس. ولذلك فإن المشاهدة تصبح ضروريّة من أجل قراءة مضادة لهذا التلوث الكارثي الذي اسمه النخبة الأميركية، وطريقته في توظيف الوثيقة السينمائيّة كأداة للهيمنة على السرديّة، والتاريخ (بما فيه الحاضر)
يسير «أوبنهايمر» للمخرج الأنغلوأميركي كريستوفر نولان في تزوير التاريخ والاحتفاء بالقتلة على نهج مخرجين موهوبين أمثال ليني ريفنستال (مجدت النازية الألمانية في فيلمها «انتصار الإرادة»/ 1935)، وروبرتو روسوليني (أخرج بين 1941 و1943 ثلاثية في تمجيد الفاشية الإيطالية)، وأيضاً كاثرين بيغلو (المتخصصة في إنتاج أفلام تمجّد بطولات الجيش الأميركيّ)، فيروي سيرة يوليوس روبرت أوبنهايمر (الممثل الإيرلندي سيليان ميرفي) عالم الفيزياء النظرية اليهودي الأميركي ذي الأصول الألمانيّة والمدير العلميّ لعمليّة تطوير القنبلة النووية كجزء من مشروع مانهاتن العسكريّ السريّ الذي كلّف دافع الضرائب الأميركي 2.2 مليار دولار، بأسعار تلك الأيّام، وجهود 130 ألفاً من المستخدمين. وبالتالي كان شريكاً أساسياً لنخبة واشنطن في التمكين لاقتراف جرائم الإبادة الشاملة التي تعرضت لها مدينتا هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في آب (أغسطس) 1945، والتأسيس لنهج استخدام الولايات المتحدة أسلحة الدّمار الشامل كأداة لفرض هيمنتها العسكرية والاقتصاديّة والثقافيّة على العالم (قبل أن يتمكن الاتحاد السوفياتي من بناء قنبلته النووية كأداة ردع بعد أربع سنوات).
بالطبع، اشتغلت ماكينة الدعاية الأميركيّة الهائلة للترويج للفيلم، لكنّه أثار جدلاً في اليابان، وانتقد بعضهم فشله (المتعمد) في نقل الرعب الكارثي للقنابل الأميركية وتجهيله للضحايا (قتل فوراً ربع مليون شخص أغلبيتهم الساحقة من المدنيين، إلى جانب 400 ألف آخرين تعرضوا للإشعاعات المسرطنة)، في مقابل تعظيمه شخص أوبنهايمر المنفصم، وتحويله حملة واشنطن الآثمة لتسخير القوة التدميرية للتفجير النووي إلى رواية بطولية بنفس هوليوودي في السباق ضد الزمن، وتحدي كل الصعاب، فيما تجنّب طرح الإشكاليات الفلسفية والأخلاقية الأساسيّة التي تترتب على استخدام سلاح دمار شامل إلا عندما يكتمل مسعى التمكين للقتل المروع بالنجاح وحصراً في إطار صراع شخصي الطابع داخل النخبة الأميركيّة في أجواء المكارثيّة، نظراً إلى ارتباطات أوبنهايمر الشكليّة بالحزب الشيوعي الأميركي، وصراعاً ذاتياً مع ضميره الذي ظهر فجأة لحظة احتفاء الأميركيين الحماسيّ الجماعيّ بالمأساة المفجعة، بينما لم يكن على السمع حينما كان يكسب رزقه من تصنيع أدوات القتل. ينتهي الفيلم في متاهة معنوية بلا قيمة تتمحور حول سؤال: هل يستحق هذا اليهودي الألماني الأصل القريب من منتسبي الحزب الشيوعي الذي منح الولايات المتحدة أمضى أسلحتها للقتل الجماعيّ تلك المعاملة السيئة التي تلقاها من السلطات لاحقاً ومن ثم سحب تصريحه الأمنيّ لانعدام ثقة المؤسسة الأمنية الأميركية به؟
على أن الأسوأ من هذا الاحتفاء المبتذل بالقتلة وألاعيب العمليّة السياسيّة في ما بينهم فقد كان نزوع نولان الظاهر إلى ارتكاب جريمة تزور التاريخ في ما يتعلّق بسياق مشروع مانهاتن، ودواعي إبادة هيروشيما وناغازاكي، ودور أوبنهايمر في هذا المسرح المظلم، ولا سيّما أنّ الكتاب الذي استند إليه في صياغة سيناريو الفيلم (بروميثيوس الأميركي: انتصار ومأساة جيه روبرت أوبنهايمر، كاي بيرد ومارتن جيه شيروين – 2005) يتطرق – وإن بشكل عابر – إلى ملابسات ومفارقات تاريخيّة لا بدّ من معرفتها إذا كان لنا – كمشاهدين مستهلكين لهذا المنتج الثقافي الترفيهي – أن نتّخذ موقفاً أخلاقياً من المشروع الحكوميّ لإنتاج أدوات الإبادة، والقرار بالإبادة، والشخص الذي مكّن لتلك الإبادة.
تأسس مشروع مانهاتن عام 1942 في أثناء الحرب العالميّة الثانية بهدف مواجهة سعي ألمانيا النّازية للحصول على سلاح نووي. أمر لم يتحقق في النهاية وسقطت برلين نفسها في أيار (مايو) 1945، فيما لم يشكّل المشروع النووي الياباني أي خطر حقيقيّ على الحلفاء بحكم أنّه كان لا يزال في مراحل جنينيّة. مع ذلك، وتحت ضغط سياسي شديد من قبل واشنطن، استمر العمل حثيثاً في «مختبر لوس ألاموس» في ولاية نيو مكسيكو على إنتاج القنبلة الذريّة بتوجيه الجنرال ليزلي غروفز (لعب الدّور مات ديمون)، لينجح أوبنهايمر وفريقه – الذين لم يُجبر أحد منهم على الانخراط في المشروع – بتنفيذ أول اختبار لتفجير نووي أطلق عليه اسم «ترينيتي» في 16 تموز (يوليو) 1945، وأعلن عن توافر السلاح النووي كأمر واقع في مؤتمر الحلفاء بحضور قادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد السوفياتي. وتساءل بعضهم في لوس ألاموس بعد توقف القتال في أوروبا عن الداعي بالاستمرار في إنتاج قنبلة نووية، لكن أوبنهايمر – المدير العلميّ للمشروع – رفض تلك المخاوف، وأصرّ على استمرار العمل تحضيراً لحسم الحرب مع اليابان، كما أبلغه العسكريّون. إذ صُوّر له بأن تفجيرات نووية من شأنها أن تجبر الإمبراطور هيروهيتو على الاستسلام، مما يجعل غزواً أميركياً واسع النطاق لليابان غير ضروري، وربما ينقذ أرواح الملايين من الجانبَين، على الرغم من أن الحقيقة كانت توجّه اليابان نحو الاستسلام بالفعل (وفق رسائل متعددة تبادلها القادة اليابانيون اعترضتها وفكت شيفرتها المخابرات الأميركيّة وأظهرت قناعتهم بأنهم قد خسروا الحرب وعزمهم السعي للحصول على شروط تسليم مقبولة)، وهو ما أقلق الأميركيين بالنظر إلى أن الجيش الأحمر السوفياتي كان قد هدد اليابان بإعلان الحرب في 15 آب إذا لم يوافق الإمبراطور على الاستسلام، وبدت قواته على وشك اجتياح الجزر اليابانية بعد التّقدم السريع في منشوريا (الصين) ومنغوليا، بينما لم تكن لدى الأميركيين قوات بريّة كافية لاقتحام اليابان قبل وصول السوفييت إليها. ولذلك قررت إدارة الرئيس ترومان استخدام القنابل النووية لفرض استسلام ياباني عاجل للقوات الأميركية على نحو يمنع تحوّل ذلك البلد إلى منطقة نفوذ سوفييتية، وتعليم موسكو درساً في الدمار الذي يمكن أن يحدثه السلاح الأميركي الجديد.
ولذلك، فإن الجريمة التي ارتكبت يومي 6و9 آب 1945 لم تكن حتى مبررة بالمنطق العسكريّ البحت، ولم تمسّ بقدرات الجيش الياباني، ونفذت مع إدراك القيادات الأميركيّة بأن أعداداً هائلة من المدنيين ستسقط ضحايا مجانيّة للتفجير والإشعاع. وهذه بالطبع لم تكن ممارسة مستجدة عند نخبة واشنطن، التي ارتكبت مذبحة قبلها عبر قصف الأحياء المدنية في طوكيو، ما أسفر عن سقوط ما لا يقل عن مئة ألف شهيد، فيما مسحت مدينة توباما عن الوجود كليّاً بالقنابل الحارقة، ومثلها دمرت مدينة دريسدن في ألمانيا وقتل 25 ألف من سكانها بدون أيّ داع عسكري أو استراتيجي سوى استعراض قدرة الوحش الأميركي على التدمير. ولا يكتفي الأميركيّون – بمن فيهم نولان – بتجاهل هذه الحقائق التاريخية الموثّقة، بل حاولوا دائماً التقليل من عدد ضحايا هيروشيما وناغازاكي وقصرها على 100 ألف نسمة فقط. وفوق ذلك كلّه، فإن الوقائع التاريخية المثبتة تظهر أن مساهمة البريطانيين في إنجاز أول تفجير نووي كانت أهم مما أظهره الفيلم، لكنّها قزّمت لمصلحة نفخ مساهمة أوبنهايمر.
كل هذا التاريخ الصاخب والملتبس لم يعنِ نولان إطلاقاً، بل أضاع ثلاث ساعات في التنقل تردداً بين المراحل الزمنية، وبين الألوان (الذاتي) والأسود/أبيض (الموضوعي)، وأحياناً استدعاء نساء أوبنهايمر الشيوعيات – عشيقته جان تاتلوك (فلورنس بوغ) وزوجته كاثرين «كيتي» بونينغ (إميلي بلانت) – مع مشاهد عري وجنس استعراضي غير ضروريّة بالمرّة سوى لإبقاء الجمهور مسمراً في المقاعد. علماً بأن الحزب الشيوعي الأميركي الذي تعرّض بالفعل للمطاردة في أجواء البارانويا المكارثيّة في خلال الخمسينيات كان أقرب لناد ثقافيّ للشبان البورجوازيين وطاقم حشد وتأييد يساري اللون لحكومة روزفلت، منه تنظيماً شيوعياً حقيقيّاً.
فشل في نقل الرعب الكارثي للقنابل الأميركية
دعونا لا ننسى أبداً ونحن نتأمل محاولة نولان المخجلة لاستجلاب التعاطف مع دموع التماسيح التي ذرفها أوبنهايمر أن السلطات الأميركيّة لم تجبر أيّاً من العلماء على العمل في مشروع مانهاتن، واستمر علماء آخرون عدّة في العمل على تطبيقات الفيزياء النووية للأغراض المدنيّة في مؤسسات خارج الجيش الأميركي. ولم يعتذر أوبنهايمر أبداً عن دوره في التفجيرات. لكن في أعقاب الحرب مباشرة، حاول – وفشل – في الدفع نحو تنظيم دولي للأسلحة الذرية، واكتفى بإصدار تحذيرات للجمهور حول مخاطر سباق التسلح النووي. وهو إن كان رفض المشاركة في بناء القنبلة الهيدروجينية – كما يظهر الفيلم -، إلا أن ذلك كان لاعتقاده الحاسم بأن الموارد الأميركية يجب أن تُكرّس لبناء أسلحة نووية تقليدية، وربما أسلحة نووية «تكتيكية» لاستخدامها في ساحة المعركة تماماً كما اقترح بعد أقل من عام من نشوب الحرب الكورية عام 1950. كما أن امتلاك الولايات المتحدة للأسلحة النوويّة لم يكن كافياً لإشباع هوس الإمبرياليّة الأميركية الدائم إلى الدمار، حيث لا يزال الإنفاق (الدفاعيّ) على تطوير وتكديس الأسلحة – النووية والهيدروجينية والمغناطيسية – مقاساً بأرقام فلكيّة سنوياً إلى اليوم وأكثر من ميزانيات الدفاع لدى بقيّة الدول الكبرى مجتمعة. ولم ننسَ في المشرق – إن نسي اليابانيون – كيف لم يتردد العسكر الأميركي في استخدام ذخائر وأسلحة تكتيكية نووية ضد الجيش العراقيّ في خلال غزوه الإجرامي في 2003، ما أوقع عدداً هائلاً من الضحايا في معركة عدوانية غير متكافئة شنت بناءً لأكاذيب وخزعبلات أيديولوجية، وتستمر آثارها الإشعاعية على المواليد الجدد حتى بعد مرور عقدين.
«أوبنهايمر» من الناحية الفنية المحض إنجاز ضخم آخر يضاف لسجل نولان، يحقّق عوائد فلكيّة بسبب الإقبال الشديد على مشاهدته حول العالم، والثناء النّقدي السخيّ له في الصحافة الأميركية، كما الجوائز المتوقع أن يظفر بها، لكن على الرغم من التفاصيل المُعتنى بها جيداً، فإن الفيلم على المستوى الفكري والجدلي لا يقدّم أي طرح قد يعقد الفكرة الشديدة السذاجة والتسطيح عن أوبنهايمر كرجل عظيم في التاريخ وشخصيّة تليق بالميثولوجيا الإغريقيّة.
يقول بعض مَن عمل مع أوبنهايمر أنّه عندما تمت تجربة التفجير، صاح «لقد نجحت». وهو حاول لاحقاً في مقابلة صحافية أن يضيف نوعاً من العمق الفلسفي إلى سلوكه النرجسيّ عند تلك اللحظة بادعائه بأنّه قال «الآن أصبحت الموت، محطم العوالم». لا شكّ في أن الرّجل كان على عبقريته مضطرباً عقلياً، وأقرب إلى وصف كارل يونغ للفلاسفة بأنّهم سايكوباث في صراع تناقضي مع ذواتهم، وأن نولان – الذي لا خلاف على عبقريته كمخرج سينمائي – يشبه أوبنهايمر، وأحسّ بالتماهي معه، فوصفه بـ «أهم شخص عاش على الإطلاق» وجعل من نفسه مؤهلاً بشكل فريد لأن يصوغ بصرياً السيرة النهائيّة لأبي القنبلة النووية في ملحمة معقدة متقنة تقنياً، تتجوّل في الأزمنة ذهاباً وإياباً عبر ثلاثة عقود، ويختلط فيها حائزو نوبل بنجوم الفيزياء النظريّة وأساتذة الجامعات والرؤساء والجنرالات والبيروقراطيون والمحامون والمحققون وأعضاء الكونغرس والسائقون والصحافيون والشيوعيون والعشيقات والزوجات المخدوعات كي نشتري في النهاية حكاية ملفّقة ليست مخلصة للتاريخ، وتتوقع منا، نحن الضحايا المحتملين، أن نقف إجلالاً لمجرم الحرب العبقريّ. أف له ما أوقحه.