| يوسف فارس
طوال ثمانية عشر عاماً، بقيت واقعة تصفية الرئيس الراحل، ياسر عرفات، ملفّاً غامضاً، لم يطّلع عليه أحد. وحتى الحديث عن الكشف عن قتَلته أخَذ في السنوات الأخيرة منحى المناكفات الحزبية بين الأقطاب المتنافسة في حركة «فتح» من جهة، وبقيّة الفصائل من جهة أخرى. غير أن التمهيد لمرحلة ما بعد محمود عباس، وما رافقه من حملة إقصاءات طاولت عدداً كبيراً من قادة الحركة التاريخيين، أَسهم في تفشّي رزمة كبيرة من أسرار التحقيقات، التي وإن لم تَكشف حتى اليوم هويّة القاتل، أو القتَلة، فقد أظهرت خفايا البيئة المحيطة بالراحل، ومراكز الثقل «الفتحاوية» التي تنافست على التآمر عليه حيّاً، وصولاً إلى قتْله مسموماً.
في مطلع شهر تشرين الأوّل الماضي، دشّنت جماعة «فتحاوية» أَطلقت على نفسها لقب «أبناء الياسر» عدداً من المنصّات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حملت إحداها اسم «أيقونة الثورة». أعلنت هذه الجماعة أنها حصلت، «بمساعدة الغيورين، على وثائق خطيرة وحصرية خاصة بقتل الرئيس أبو عمار»، لتبدأ بنشرها تدريجاً، وهي عبارة عن محاضر التحقيقات الأصلية للجنة التحقيق التي كانت قد شُكّلت برئاسة اللواء توفيق الطيرواي عام 2010، تطبيقاً لتوصيات المؤتمر الحركي السادس لـ«فتح» الذي عُقد عام 2009. ويشارك الطيرواي في عضويّة اللجنة، كلّ من اللواء كمال الشيخ، واللواء صائب العاجز، والعميد نايف الجياوي، وأضيفت في وقت لاحق 20 شخصية مهنية لـ«تسريع نتائج التحقيق»، فيما استدعت اللجنة مئات الشخصيات السياسية والأمنية والحرَكية من العاملين والمحيطين بـ«أبو عمار»، واستغرق عملها آلاف الساعات من العمل والتحليل، ولكن من دون التوصّل إلى أيّ نتيجة معلَنة.
وعلى رغم أن عمل «أيقونة الثورة» بدا في بداية الأمر جهداً فردياً، إلّا أنه اتّضح من طريقة النشر المتسلسلة، واحترافيّة الإخراج الفنّي، أن ثمّة فريقاً مهنياً يعمل بشكل مدروس وتدريجي، فيما أقرّ الطيراوي، الذي جرّده عباس من صلاحياته ومناصبه الأمنية، وأقاله في مطلع آب الماضي من رئاسة «جامعة الاستقلال»، بأن ملفّات التحقيق تعرّضت للقرصنة، وأن الهدف من ذلك تشويه صورته، مُحمّلاً الأجهزة الأمنية مسؤولية كشْف «المتورّطين».
دائرة الدم
تُظهر الوثائق المسرَّبة أن «أبو عمار» تعرّض لعملية اغتيال سياسي ومعنوي، سبقت تصفيته الجسدية. إذ كشف روحي فتوح، وهو رئيس المجلس التشريعي آنذاك، أن الرئيس الراحل كان يَدخل في الحصار ويَخرج منه، من دون أن يتّصل به عدد كبير من قيادات «فتح» وأعضاء «اللجنة المركزية». وفي شهادته على تلك المرحلة، يقول فتوح إن الوزير السابق نبيل عمرو، والمستشار الحالي للرئيس محمود عباس، كان قد وقف في وجه «أبو عمار» ذات يوم، وصرخ قائلاً: «نحن 40 سنة متحملينك، وأنت بتقرأ بيتين هالشعر وآيتين هالقرآن، هذا الكلام لم يَعُد يمضي، نحن لا نريد أن نكون شهّاد زور». من جهته، قال أكرم هنية، وهو مستشار عرفات وعضو الوفد الفلسطيني في «قمّة كامب ديفيد» لعام 2000، إن «القتَلة هم السياسيون الذين استفادوا بشكل مباشر من وفاة أبو عمار».
عباس كان قد اجتمع، خلال حصار عرفات، مع رئيس وزراء الاحتلال الأسبق، آرييل شارون
غير أن التحقيقات تَكشف أن علاقة عرفات بدائرته المقرّبة، كانت أكثر تطرّفاً من ذلك. إذ كشف القيادي البارز في «فتح»، أحمد عبد الرحمن، أن الرئيس الراحل كان قد اعتدى على رئيس الوزراء السابق، أحمد قريع، بالضرب، موضحاً في شهادته أنه «كان هناك اجتماع في لندن، وقرأ قريع رسالة تحوي تعهّدات أمنية أمام أبو عمار، ففقدَ الراحل عقله، وأمسك بالورقة ورماها في وجه قريع، وأمسكه من عنقه، وضرَبه برِجله وطرَده». وأضاف عبد الرحمن متناوِلاً فريق أبو مازن الذي كان يغيظ أبو عمار: «كانوا يأخذون قرارات ليست في وقتها، جاء أبو مازن وقدّم تعهّدات أمنية للإسرائيليين قبل أن يوقفوا القتل والاعتداءات، ذهبوا واجتمعوا في غزة، وأرسلوا لنا هذا (العاهر) ياسر عبد ربه ومعه قرارات ونحن جالسون على الجسر في المقاطعة فأمسك أبو عمار الأوراق بغضب». ورأى الرجل المحسوب على فريق عرفات أن فريق عباس «كان يريد السيطرة على كلّ شيء، الإذاعة والتلفزيون، قرارات مجلس الوزراء»، متابعاً أن «أبو مازن أعطى الإسرائيليين ما لم يُعطِهم إيّاه أحد، فبماذا ردّوا عليه؟ لم يعطوه شيئاً ولعنوا أبوه (…) أبو مازن يقول علناً لا أريد انتفاضة ولا كفاحاً مسلّحاً، مفاوضات مفاوضات… هذا هو كلامه».
لعلّ واحدة من أهمّ المعلومات التي كشفتْها محاضر التحقيقات، أن عباس كان قد اجتمع، خلال حصار عرفات، مع رئيس وزراء الاحتلال الأسبق، آرييل شارون، في إحدى الشقق الآمنة في مدينة رام الله، حيث اتُّخذ قرار التخلّص من الراحل. ووفقاً لشهادة اللواء غازي مهنا، وهو مدير المكتب العسكري لأبو عمار، فإن شارون اجتمع مع أبو مازن والقيادي المفصول من الحركة محمد دحلان واللواء نصر يوسف، إضافة إلى عدد كبير من أعضاء «المجلس الثوري» و«اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير» الذين ودّعوا عرفات مرّة واحدة بعد حصاره، ولم يعودوا إلى زيارته ثانيةً. يكشف مهنا أن عباس كان قد حضر إلى الاجتماع بحراسة إسرائيلية، مضيفاً أنه لدى وصول الأنباء إلى عرفات، جاءت ردّة فعله عنيفة جدّاً، إذ شعر يومها أن اللقاء مثّل «حجَر الأساس في عملية التخلّص منه». غير أن حادثة «بناية العار» لم تكن سوى واحدة من حلقات تآمر عباس على عرفات، إذ كشفت شهادة عضو اللجنة المركزية لـ«فتح»، جمال محيسن، أن عباس كان يتحرّك بسيّارة تابعة لـ«الارتباط» (الإسرائيلي) خلال فترة الحصار في وقت كان فيه سيْر المركبات ممنوعاً في رام الله. وأجاب محيسن سؤالاً للجنة التحقيق حول ما إذا كان يعتقد بأن «العلاقة كانت صحّية بين الأخ أبو عمار وأبو مازن؟»، بأنه «كان هناك خلاف عميق جدّاً، الحقيقة الكاملة بخصوص الخلاف مع أبو عمار محرجة ومخزية، وأنا أرجوكم أن نتجاوز هذه المرحلة».
انتهت سنتان من الهجوم الشامل الذي شنّه فريق عباس، وفق ما أقرّت به عشرات القيادات «الفتحاوية»، بمقتل عرفات مسموماً. وَضع الراحل، في يومٍ ما، يده على بطنه يشكو الألم، وقال «وُصلولي»، على رغم أنه استبعد دائماً أن يُقدِم أيّ من «أولاد فتح» على أذيّته جسدياً على رغم الأجواء المشتعلة حوله، وفق ما قاله صائب عريقات. إلّا أن «ولاد فتح قتلوه»، أكد الأخير، وتابع في شهادته: «للأسف الشديد، أبو عمار كان يعتمد على أشخاص يقومون بأشياء أنا لست قادراً على أن أفهمها إلى اليوم، مثل أبو علاء وأبو مازن، يعني لماذا يأخذون أشخاصاً ليفتحوا حسابات مالية في بنوك إسرائيل (…) هؤلاء إذاً قدّموا أوراق اعتماد لإسرائيل، وذهب أولاد فتح إلى واشنطن عند سعود الفيصل، هناك قلّص نبيل شعث صلاحيات ياسر عرفات». وختم عريقات مُقسِماً على القرآن بأن أبو عمار «قُتل مسموماً ومظلوماً» بعد أن فقد الأمل بالحلّ السياسي، خصوصاً إثر رفْضه في كامب ديفيد الاعتراف بأن هناك هيكلاً يهودياً تحت الحرم القدسي، لأن تبعات ذلك، ستقود إلى هدم المسجد الأقصى.
تكشف عشرات الشهادات، أيضاً، أن أبو عمار كان قد أشار إلى بطنه أكثر من مرّة قبل مرضه وبعد سفره إلى باريس، إحداها قال فيها بصوت متقطّع لأحمد قريع: «وُصلولي… خلّي الكرسي ينفعهم، شعبي والتاريخ لن يرحمهم». قضى أبو عمار في 11/11/ 2004، وبعد 18 عاماً من رحيله، وتأخُّر فتح التحقيقات في مقتله لـ6 سنوات، تَكشف المحاضر التي لم يستطع أيّ من أبطالها التشكيك في صدقها، أن دائرة الدم المشتركة في تصفيته، أكبر من أن تُحصر في عدّة أشخاص، وأن القاتل ليس مَن دسّ سمّ «البولونيوم» في طعام أبو عمار أو دوائه وحسائه فحسب، إنّما فريق واسع من الذين عملوا وفق ما قالت حنان عشراوي «على تغيير النظام، ويشعرون بأن أبو عمار لم يكن الشخص المناسب، وكنتُ مقتنعة بأنهم سيقتلونه في نهاية الأمر لأنهم أخذوا القرار وبقي التنفيذ» .