سعيد محمد
لندن | في أوضح إشارة إلى توجُّه النخب الحاكمة في أوروبا إلى الانحناء للعاصفة التي تهبّ على القارة من الجانب الآخر من الأطلسي، مع عودة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، اعترف الأمين العام لـ«حلف شمال الأطلسي»، مارك روته، بأن ترامب «يتصرّف بشكل عادل تماماً»، إزاء مطالبته الحلفاء الأوروبيين بإنفاق المزيد على الدفاع. وقال روته الذي كان يتحدّث على هامش «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس، تعليقاً على انتقادات مبعوث ترامب للمهمّات الخاصة، ريتشارد غرينيل، حول فشله الشخصي في تحقيق مستوى الإنفاق الحالي المتّفق عليه في الحلف (2% من الناتج المحلي الإجمالي) لهولندا عندما كان رئيساً للوزراء: «إنه محقّ بالطبع، المشكلة ليست في الولايات المتحدة. المشكلة هي أوروبا». وكان غرينيل وبّخ روته «الذي يتحدّث عن ضمّ أوكرانيا إلى الناتو، بينما الشعب الأميركي هو الذي يدفع ثمن تكاليف الدفاع. لا يمكنك أن تطلب من الشعب الأميركي توسيع مظلّة الناتو عندما لا يدفع الأعضاء الحاليون نصيبهم العادل، وهذا يشمل بالذات الهولنديين الذين يحتاجون إلى الالتزام بزيادات ملموسة»، علماً أن هولندا فشلت بانتظام في تحقيق هدف الـ2% المتوافق عليه في الحلف منذ إقراره.
وعلّق روته مبرّراً لغرينيل حدّته، فقال: «لقد شعر بأن الولايات المتحدة كانت تحصل بشكل عام على صفقة سيئة لأن أوروبا كانت تموّل نموذجها الاجتماعي ونظام الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية مع إهمال الجانب الدفاعي، اعتماداً على أميركا». وكان فريق ترامب أبلغ مسؤولين أوروبيين بينما كان الرئيس يتهيّأ لتسلّم السلطة، بأن الإدارة الجمهورية الجديدة ستطالب الدول الأعضاء في «الناتو» بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، من مستواه الحالي الذي يفي به 23 فقط من أعضائه البالغ عددهم 32.
وخلال حملته الانتخابية، تعهّد ترامب بقطع المساعدات عن أوكرانيا وإجبار كييف على الدخول في محادثات سلام فورية وترك حلفاء «الناتو» من دون حماية، إذا فشلوا في إنفاق ما يكفي على الدفاع، ما أثار موجةً من الهلع في العواصم الأوروبية. لكن ما رشح إلى الآن بعد تنصيبه الإثنين الماضي، يشير إلى اعتزام إدارته الحفاظ على الإمدادات العسكرية الأميركية لكييف لبعض الوقت، كجزء من مناورة لإرغام موسكو على القبول بتسوية وتحقيق «السلام من موقع القوّة».
ويجادل خبراء استراتيجيون في بروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي) بأن ترامب يعمل وفق منطق المفاوض الذي يفتتح عروضه بالحدّ الأقصى، ولكنه منفتح على قبول نسب أقلّ ما دامت تعكس نجاحه الشخصي في تحقيق نتائج أفضل من سلفه الديمقراطي. وتميل توقعات الأوروبيين إلى أن الرئيس الأميركي قد يقبل في النهاية عرضَ أوروبا لرفع الإنفاق الدفاعي إلى مستوى 3.5%، لكن مع ربط ذلك بشروط حول التبادل التجاري بين الولايات المتحدة ودول التكتُّل، وهو ما يشكّل هاجساً أكبر في بروكسل نتيجة تهديدات الرئيس الأميركي بفرض تعرفات جمركية (قد تصل إلى 20%) على البضائع الأجنبية إلى السوق الأميركية، وربّما بنسب أعلى على بعض السلع، مثل السيارات.
ومن المعلوم أن حلفاء واشنطن تحت مظلّة «الناتو» منخرطون بالفعل في مداولات معمّقة حول مشروع قرار لرفع هدف الإنفاق الدفاعي إلى مستوى 3%، سيُعرض على اجتماع زعماء دول الحلف في لاهاي (حزيران المقبل)، فيما أعدّت بيروقراطية بروكسل أفكاراً حول منح المنتجات الأميركية معاملة تفضيلية، في مقابل تجنيب صادرات دول الاتحاد إلى الولايات المتحدة تعرفات جمركية إضافية، بما في ذلك شراء المزيد من الغاز الطبيعي المسال الأميركي (الباهظ الثمن) – بعد وقف الاعتماد على الغاز الروسي (الرخيص) -، وشراء المزيد من المنتجات الزراعية والأسلحة الأميركية.
لا يخفي ترامب غضبه من الاتحاد الأوروبي الذي يبيع الولايات المتحدة أكثر بكثير ممّا يستورد منها
ولا يخفي ترامب غضبه من الاتحاد الأوروبي الذي يبيع الولايات المتحدة أكثر بكثير ممّا يستورد منها، إذ إنه، مثلاً، في عام 2023، صدّر الاتحاد سلعاً بقيمة 502 مليار يورو إلى أميركا، واستورد بقيمة 344 ملياراً. لكن كل ذلك يثير أعصاب النخب الحاكمة في العواصم الأوروبية الرئيسية – بما في ذلك باريس وبرلين ولندن وروما -، ليس بالضرورة لعدم رغبتها في الخضوع لرغبات الولايات المتحدة، ولكن بسبب سبل توفير الموازنات – المنهكة أصلاً – لتبنّي الالتزامات المالية الصعبة المطلوبة من قِبَل حليفها وحاميها الكبير، إضافة إلى إمكانية استخدام ترامب لأوكرانيا كورقة مساومة مع كل من الأوروبيين والروس، في تناقض تامّ مع السياسات الأوروبية التي انحازت كليّة تقريباً إلى إيحاءات الإدارة الديمقراطية السابقة بتصعيد المواجهة مع موسكو وتمويل نظام كييف اليميني لتمكينه من الصمود، مع التلويح بإمكانية ضمّ أوكرانيا إلى عضوية «الناتو».
وثمة مسائل أخرى ترفع منسوب القلق في كل من كوبنهاغن (الدنمارك) ولندن وبرلين تحديداً ،حيث أطلق ترامب إشارات إلى عزمه ضمّ جزيرة غرينلاند شمال المحيط الأطلسي – وهي أراض مترامية المساحة يكسوها الجليد وتتمتّع بحكم ذاتي تحت سلطة مملكة الدنمارك -، كما يشنّ إيلون ماسك – وزير الكفاءة الحكومية في إدارة ترامب – حملات علنية للدعوة إلى إسقاط حكومة رئيس الوزراء البريطاني، السير كير ستارمر، العمّالية قبل انتهاء ولايتها الدستورية، لفتح الباب أمام انتخابات عامة جديدة قد تعيد اليمين المحافظ إلى السلطة هناك مجدداً، فضلاً عن دعم الوزير الصريح لحزب «البديل من أجل ألمانيا» (أقصى اليمين) والذي يحصد شعبية متصاعدة بين الألمان، بينما تتّجه البلاد إلى انتخابات عامة حاسمة في شباط المقبل.
وفيما سارع رئيس وزراء الحكم الذاتي في غرينلاند إلى إعلان رفضه مضمون تصريحات ترامب، أوفدت لندن مبعوثَين أمنيَّين رفيعَي المستوى إلى واشنطن لجس النبض ومحاولة مدّ جسور تفاهم مع الإدارة الجديدة خارج الصخب الإعلامي للوزير المثير للجدل، ماسك. وعبّر المستشار الألماني المنتهية ولايته، أولاف شولتس، عن امتعاضه من محاولات وزير ترامب التأثير على الشؤون الداخلية لألمانيا، الحليفة المخلصة للولايات المتحدة، لكنه بدا أكثر تفاؤلاً بعد مكالمة هاتفية له مع ترامب، عشية حفل التنصيب.
وفي هذا الوقت، يصرّ كثيرون على أن منطق ترامب في تهديد أوروبا ليس موجّهاً بالفعل إلى القارة القديمة التي يهيمن عليها الأميركيون بشكل شبه تام منذ سقوط الاتحاد السوفياتي (1991)، وانتهاء الحرب الباردة، وإنّما ضدّ اللاعبين الكبار، ولا سيما بكين، وإلى حدّ ما موسكو، وكذلك دول الخليج العربي الثرية، بحيث يريد أن يقرأ هؤلاء جميعهم عتو ترامب مع حلفاء بلاده التقليديين، فكيف إذاً سيكون أمره معهم؟ لكنّ الحقيقة أن القارة القديمة مرّت برحلة جبلية وعرة في المرة الأخيرة التي كان فيها ترامب سيداً للبيت الأبيض (2017 – 2021). ولا بدّ أنه في ولايته الثانية اكتسب خبرة وثقة وسيكون أقدر على أن يتصرف بعنجهية أكبر، في وقت تغرق فيه القوى التقليدية في أوروبا في بحر متلاطم من المشاكل السياسية والاقتصادية، وتتردّى فيها الخدمات العامة، وتتراجع قدرتها التنافسية بشكل ملحوظ عن كل من الصين والولايات المتحدة، فيما يتّجه الناخبون الغاضبون بشكل متزايد نحو إيصال يمينيين متطرفين إلى السلطة في كل عواصمها المؤثّرة.
وهكذا، قد تجد القارة أن لا مناص لها من الأخذ بنصيحة الزعيم الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، بأن «تتعلّم كيفيّة الاعتناء بنفسها حتى لا يتمكّن العالم من الاستمرار في تجاهلها»، أو ما سمّاه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في لقائه قبل أيّام مع المستشار الألماني شولتس، بـ«أوروبا موحّدة وقوية» وتتمتّع بـ«الاستقلال الاستراتيجي»، وإن كان لا أحد في هذه الـ«أوروبا» كلّها يمتلك الرؤية أو القدرة على تحقيق ذلك، أقلّه ليس في السنوات الأربع المقبلة.