لم تَعُد أولوية «احتواء الصين» والتصدّي لصعودها على المستوى الدولي في الأجندة الإستراتيجية للولايات المتحدة محطّ نقاش بين نخبها السياسية الرئيسية منذ مدة طويلة. هذا النقاش بات متمحوراً حول مدى خضوع سياسات الإدارات المتعاقبة للأولوية المذكورة، أو حتى مدى انسجامها معها. أُخذ على إدارة دونالد ترامب، مثلاً، نتيجةً لتعاملها العدوانيّ والمتغطرس مع نظرائها الغربيين، إضعافها للتحالف العابر للأطلسي الذي لا بدّ منه لترجمة مثل هذه الأولويّة على أرض الواقع. وعدّ البعض، وهم من أنصار إدارة جو بايدن، أن بين أبرز إنجازاتها، على خلفية الحرب في أوكرانيا أساساً، نجاحها في إحياء «حلف الناتو»، ما سيعزّز الموقع الدوليّ لواشنطن، ويمكّنها من خوض المواجهة مع بكين جنباً إلى جنبِ أبرز «الديموقراطيات المزدهرة». غير أنّ التطوّرات الدولية في الآونة الأخيرة، وفي مقدّمتها تحوُّل النزاع في أوكرانيا إلى حرب استنزاف مكلفة وممتدّة إلى أجل غير منظور، جدّدت الشكوك في أوساط معتبَرة من هذه النخب حول وجاهة سياسة فريق بايدن حيالها، ودرجة اتّساقها مع أولوية احتواء الصين. فبينما تتّجه الأنظار نحو الشرق الأوكرانيّ، حيث تحتدم المعارك في سياق هجوم مضادّ تشنّه قوات نظام كييف منذ الربيع الماضي، ولم يحقّق أهدافه الموعودة، تتمدّد الصين غرباً نحو الشرق الأوسط.
مراجعة التطوّرات في الأشهر الماضية، من زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، إلى السعودية، ومشاركته في قِمم ثلاث، مروراً برعاية بكين الاتفاق الإيرانيّ – السعوديّ، وصولاً إلى زيارة الرئيس السوري، بشار الأسد، إلى العاصمة الصينية، وتوقيع البلدَين اتفاقية شراكة إستراتيجية، تؤكد جميعها حقيقة توسُّع نفوذ الصين وتأثيرها في هذه المنطقة. وتشكّل هذه التطوّرات هاجساً لروبرت كابلان، أحد الخبراء الإستراتيجيين الأميركيين البارزين، إلى حدّ إطلاق البعض عليه تسمية «ماكيندر القرن الـ21»، الذي يرى، في كتابه الأخير «نول الزمن: الإمبراطورية والفوضى من المتوسط إلى الصين»، أنها مؤشرات إلى اتّجاه تاريخيّ معاكس لذلك الذي ساد منذ أواسط القرن الـ17: «ربّما تكون الإمبراطوريات قد ماتت، لكن العقلية الإمبراطورية ما زالت حيّة، كما يُظهر مثال الصين في الشرق الأوسط. شركة الهند الشرقية البريطانية هي التي دشّنت في الماضي، مع بدايات العصور الحديثة، التقدّم من أوروبا عبر الشرق الأوسط نحو الصين، لكنّنا نشهد اليوم تقدّماً صينيّاً في الاتّجاه المعاكس غرباً، ولنفس الدوافع التجارية والإستراتيجية». أصحاب المنظور التاريخيّ يدركون الأبعاد العميقة والتاريخية بالمعنى الحقيقي للكلمة للتحدّي الصيني بالنسبة إلى الهيمنة الغربية بمجملها، ويدعون إلى تعبئة الموارد والطاقات للتركيز على التصدّي له بشكل شبه حصريّ. أحد هؤلاء، الريدج كولبي، مساعد وزير الدفاع الأميركي في عهد ترامب بين عامَي 2017 و2018، ومؤسّس «مبادرة ماراتون» الهادفة إلى تشجيع المستوى السياسيّ في الولايات المتحدة على الإعداد لمرحلة استعار المنافسة الإستراتيجية بين القوى العظمى، أكد، في مقال له في مجلّة «تايم» بعنوان «كيف نستطيع مساعدة أوكرانيا مع إعطاء أولوية مركزية لآسيا»، أن على واشنطن الاستدارة مجدّداً وبسرعة نحو غرب المحيط الهادئ للتهيؤ لاحتمال متزايد لنزاع مع الصين. وللتذكير، فإن لكولبي كتاب مهمّ صدر في عام 2021، بعنوان «إستراتيجية الإنكار: الدفاع الأميركي في عصر صراع القوى العظمى»، يتمحور حول السبل «الأنجع والأكثر هجومية» لاحتواء تعاظم نفوذ بكين.

وبالعودة إلى مقال «تايم»، يعتقد الخبير الأميركي أنّ واشنطن لا تمتلك ترف المضيّ في التورّط في صراع مديد في أوكرانيا على حساب ما يظنّه معركة آتية مع بكين في العقد الحالي. هو يحضّ على «تصحيح الوجهة والاحتفاظ بالموارد والقدرات الضرورية لهزيمة أيّ هجوم صينيّ ضدّ خط الجزر الأول. يتضمّن ذلك أسلحة هجومية، مثل: هايمرس وأتاكمس والمسيّرات التكتيكية، والمنظومات الدفاعية، مثل: باتريوت وهاربونز وستينغر وجافلين التي يحتاجها المدافعون التايوانيون والأميركيون لصدّ القوات الغازية. يتضمّن ذلك أيضاً وسائل أخرى غير السلاح، كالمال والرأسمال السياسي والمصادر الاستخبارية والقاعدة الصناعية العسكرية». وعلى الأوروبيين، وفقاً لكولبي، تحمُّل القدر الأكبر من عبء مساندة أوكرانيا، مع تقديم الولايات المتحدة منح أسلحة وتجهيزات لن تحتاجها في حربها المحتملة في المحيط الهادئ كالمدافع والمدرعات والأسلحة الخفيفة وأجيال سابقة من المقاتلات، إضافة إلى المساعدات الاستخبارية.

بينما تتّجه الأنظار نحو الشرق الأوكرانيّ، تتمدّد الصين غرباً نحو الشرق الأوسط

بكلام آخر، وبمعزل عن حرص كولبي عن عدم الظهور بمظهر مَن يدعو إلى التخلّي عن الحلفاء الأوكرانيين، فإن جوهر ما يقوله هو أن المواجهة المصيرية بالنسبة إلى مستقبل بلاده، ليست في أوكرانيا. أما دانييل دافيس، الكولونيل السابق في الجيش الأميركيّ، والباحث الرئيس في «مركز الأولويات الدفاعية»، فقد أوضح، في مقال نشر على موقع مجلّة «نيوزويك» بعنوان «حان الوقت لقول الحقيقة حول الحرب في أوكرانيا وتصحيح المسار»، أنه «من الأجدى بالنسبة إلى واشنطن تعديل سياساتها، وأن تأخذ في الحسبان الفرص الضعيفة جداً لنجاح أوكرانيا في اختراق الخطوط الدفاعية الروسية المحصّنة. لقد أنفق الأميركيّون ما يوازي 113 مليار دولار على هذه الحرب وجهّزوا أوكرانيا بكمّ مهول من الأسلحة الحديثة والذخائر، وقاموا بتدريب أعداد ضخمة من الجنود والضباط، وأمّنوا الدعم الاستخباري. وبعد حوالى سنة من الإعداد، بالكاد أثّر ذلك في خطوط الدفاع الروسية». ينصح دافيس، في خاتمة مقاله، بالبحث عن طرق ديبلوماسية وسياسية لوقف الحرب.

يخشى أنصار هذه الآراء من أن تؤدّي الحرب المديدة في أوكرانيا ومفاعيلها، بخاصّة تلك غير المنتظرة، إلى تورّط أميركي أكبر، واستنزاف أكبر للقدرات والموارد، بما في ذلك الموارد الذهنية، بدلاً من تعبئتها وتركيزها في خضمّ المجابهة المركزية وبالغة الصعوبة والشاملة مع الصين. صحيح أن مجمل السياسات التي اعتمدتها إدارة بايدن في السنوات الماضية، من إقامة الأحلاف في منطقة آسيا – المحيط الهادئ إلى إعادة التوطين لمصانع أشباه المواصلات في أميركا، مروراً بمجمل حركتها السياسية والديبلوماسية في الشرق الأوسط، كدفعها المحموم من أجل تطبيع سعوديّ – إسرائيليّ، كانت جميعها محكومة أساساً بأولوية احتواء دور الصين الصاعد. لكنّ البعض في واشنطن مقتنع بأن ما أُنجز إلى الآن في هذا المضمار غير كافٍ، وبأن المطلوب هو التفرّغ تماماً لهذه المهمّة الشاقة وغير مضمونة النتائج.