عبد المنعم علي عيسى
منذ مرحلة الانتداب الفرنسي، مروراً بعهد الاستقلال، ثم الوحدة فالانفصال، ثمّ حكم حزب «البعث»، والذي تعادل امتداداته الزمنية تقريباً تلك المراحل مجتمعة، لم يُسجّل لدى العلويين، بعد انخراطهم في الشأن العام الذي بدأ مع مقاومة الاحتلال الفرنسي، أي توجّه إلى تأسيس حزب يعكس ثقافتهم الدينية أو ينطق باسم طائفتهم.
لا بل بدا واضحاً إيثارهم الانخراط في تيارات سياسية عقائدية قومية أو يسارية، فكان من بينهم «الشيوعي»، و«القومي السوري»، و«البعثي و«الناصري»، مع استثناء وحيد هو تنظيم «الإخوان المسلمين»، وذلك بحكم خلفيته العقائدية التي لا تتسع لغير السنّة، وهو ما لم تشذّ عنه التجربة التاريخية للجماعة. وهذا ما يؤشر إلى أن خيارات العلويين السياسية لم تكن تُحدّد وفقاً للهوية المذهبية، بل عبر البيئة والثقافة السائدة والانتماء الطبقي.
وفي زمن حافظ الأسد، الذي لم يصنّفه أي من المؤرخين بوصفه طائفياً رغم إشارات بعضهم إلى اعتماده على العصبية الطائفية كأداة ضمن منظومة الحماية السياسية لنظامه، حارب الرئيس الراحل أي محاولة لتأسيس وجود سياسي أو ديني مستقل للطائفة العلوية. وحين طرح طبيب الأسنان المهلب حسن، المنحدر من طرطوس، عام 1980، في أوج صدام السلطة مع «الإخوان»، فكرة إنشاء «مجلس أعلى للعلويين» يعبّر عنهم، سارع الأسد إلى قمع الفكرة وهي لا تزال في مهدها، خشية أن يخرج من المجلس منافس محتمل له، يمكنه التأثير في صناعة القرار أو سحب الغطاء عن بعض ممارسات النظام، لينتهي الأمر بـ«تغييب» المهلب، الذي لا يزال مصيره مجهولاً حتى اليوم. وعلى خطى والده، مضى بشار الأسد، غير أن الابن ذهب أبعد؛ إذ زجّ بالطائفة في أتون صراع لم تكن فيه سوى وقود داعم لمشروعه.
ولمّا حانت لحظة الثامن من كانون الأول الفائت، بدا جلياً لدى كثير من العلويين أنهم تُركوا وحدهم، ليبدأ إثر ذلك التفكير في خلق أطر قد تُشكل غطاءً للطائفة، أو على الأقل تُمنح دور المحاور باسمها في حال انطلقت عجلة تفاوض جدّي، وهو ما أمكن لمسه في الإعلان عن تأسيس «المجلس الإسلامي العلوي الأعلى» مطلع شباط المنصرم. غير أن المجلس، رغم الضجة التي أثارها، بقي محصوراً في طابعه الديني، ما جعله يبدو وكأنه يفتح على إمكانية الاصطدام الطائفي، بدل أن يشكّل جسراً للحوار.
لا ينفصل اختيار مخلوف تحديداً لهذه المَهمّة، عن أثره الذي لا يُمكن إنكاره داخل الطائفة
وفي السياق نفسه، نشر موقع «إرم نيوز»، في 8 أيار الجاري، تقريراً نقل فيه عن مصدر استخباراتي روسي قوله إن العاصمة الروسية موسكو شهدت، في المدة الماضية، حراكاً يهدف إلى «تأسيس أول حزب علوي يمثل الساحل السوري». ووفقاً للمصدر، فإن الغاية من إنشاء الحزب تكمن في «الدفع في اتجاه حكم ذاتي للساحل، مع ارتباط شكلي بدمشق». وكشف التقرير أن رامي مخلوف، رجل الأعمال المعروف وابن خال الرئيس السوري السابق، هو من سيتولى رئاسة الحزب، في خطوة تأتي، بحسب المصدر، نتيجة «توافق إقليمي دولي، لا نتيجة لإرادة داخلية لدى أبناء الطائفة العلوية».
وقد يُفسَّر هذا الطرح بالتحفظ الذي تبديه شرائح واسعة من العلويين تجاه مخلوف، بسبب ارتباطه الوثيق سابقاً بنظام الأسد، رغم أن هذا الارتباط بدأ بالتفكك منذ نيسان 2019، قبل أن يتحول إلى صدام متصاعد بين الطرفين، على وقع القرارات التي استهدفت «السلطان»، وهو التوصيف الذي سبق أن أطلقته صحيفة «الغارديان» البريطانية على مخلوف، في إشارة إلى المكانة التي كان يحتلّها خلال سنوات الحرب الأولى وحتى عام 2018.
وفي تحليل السياق الموضوعي الذي يدفع بمخلوف – وهو بالتأكيد لا يتحرك من تلقاء نفسه -، نحو تأسيس حزب سياسي، قيل إنه سيحمل اسم «حزب العدالة الديموقراطي العلوي»، يمكن القول إن البلاد تمرّ اليوم بطور «عجيني» شبيه بذلك الذي كان سائداً عام 1920، الذي شهد ولادة الكيان السوري الحديث؛ إذ تسود المشهدَ السياسي العام حالة من التدافع الخارجي، تسعى عبره القوى الداخلية والخارجية، على حدّ سواء، إلى تثبيت مواقعها قبيل تبلور ملامح المرحلة المقبلة. ومن هنا، يبدو أن وظيفة هذا الحزب ستكون رسم مشهد يعكس فشل السلطة المركزية في دمشق في ضبط الانتهاكات والانفلات الأمني على امتداد البلاد، بما يمهّد لإقرار شكل من أشكال «اللامركزية»، التي بدأت الأصوات تعلو بوصفها بأنها «الحل الوحيد» الممكن للحفاظ على وحدة الكيان السوري من دون اللجوء إلى تفكيكه.
أما اختيار مخلوف تحديداً لهذه المَهمّة، فلا ينفصل عن أثره الذي لا يُمكن إنكاره داخل الطائفة، خصوصاً لدى الآلاف الذين تحصّلوا على دعمه المالي المباشر، والذي اتخذ في أحيان كثيرة طابعاً إنسانياً. غير أن محاولته تكريس زعامة اجتماعية لم تنجح في فرض نفسها، نظراً إلى أنها افتقرت إلى إرث اجتماعي – عشائري – ثقافي متماسك، رغم علاقة آل مخلوف التاريخية بالحزب «السوري القومي الاجتماعي». ويبدو أن تلك المحاولة لم تأخذ في الحسبان أن الزعامة العلوية دائماً ما كانت «خطاً أحمر» بالنسبة إلى الأسدين، الأب والابن، وهو ما دفعهما إلى تحطيم كل مسعى ناشئ على هذا الخط، بما في ذلك البنى والحوامل التي يستند إليها.
لكن، مع تغيّر الظروف، قد تكون التجربة الحالية مختلفة، وربما تملك من عناصر النجاح ما لم يتوافر سابقاً. وفي حديثٍ إلى «الأخبار»، يقول مصدر مقرّب من مخلوف، وهو مقيم في الخارج، إن الأخير «تخلى نهائياً عن فكرة الميليشيات العسكرية، استجابة لتوجيهات داعميه». وأكد أن ما ورد في تقرير «إرم نيوز» عن أن «الخطوة باتت في مراحلها اللوجستية الأخيرة»، دقيق، مضيفاً أن «المسألة باتت متعلقة فقط بالتوقيت واختيار اللحظة المناسبة».
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار