آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » أيقونات القدس تحطّ في بيروت: ملحمة عن الصمود والانتماء

أيقونات القدس تحطّ في بيروت: ملحمة عن الصمود والانتماء

ريما النخل

 

 

بعد‎ طول تأجيل، تحظى ‏بيروت بفرصة الاطلاع على الأيقونة ‏الفلسطينية المقدسيّة ضمن معرض «‏كما في السماء كذلك على الأرض» الذي افتُتح أخيراً في «دار النمر للفن والثقافة» حتى 17 كانون الثاني (يناير) 2026.

 

يضمّ المعرض مجموعة من الأيقونات واللوحات التشكيلية والتذكارات من بلاد الشام والقدس فيما تولّى الباحث محمود الزيباوي مهمة البحث والتوثيق للمعرض.

 

ذاكرة الإيمان المسيحي المبكر

لإدراك أهمية أيقونات مدرسة القدس، ينبغي العودة إلى زمن المجتمعات المسيحية الأولى، وبالتالي إلى «كاتدرائية القديس يعقوب للأرمن الأرثوذكس»، بوابة الحي الأرمني في البلدة القديمة. تعدّ هذه الكاتدرائية أقدم كنيسة في العالم، وتعود إلى القرن العاشر.

 

على جدرانها، هناك عدد من الرسوم الأيقونية التي تصوّر حياة مريم ويسوع، من الميلاد إلى العنصرة. وكان دور الأيقونات نقل الإيمان إلى الذين لا يحسنون القراءة في الأزمنة المسيحية الأولى، إذ تسمح بـ «قراءة» قصة الكتاب المقدس المرسومة على اللوحات الخشبية.

 

 

أمّا رسم الأيقونات الحديثة، الذي يعود إلى التراث البيزنطي، الذي يعدّ الشكل الرئيسي لفن الرسم لدى الفلسطينيين منذ القرن الثامن عشر، فقد تتلمذ الفنانون المعروفون بانتمائهم إلى مدرسة القدس على أيدي الرهبان اليونانيين الذين خدموا في الأراضي المقدسة.

 

استمرّ هذا التراث على أيدي الأتباع الفلسطينيين للكنيسة الأرثوذكسية الذين نمت موهبتهم بفضل احتكاكهم برسّامي الأيقونات الروس الذين استقرّوا في فلسطين.

 

انتشار الإرث المقدسي ورواجه في بلاد الشام

عرفت الأيقونات التي رسمها أتباع مدرسة القدس رواجاً كبيراً، فسعى الحجّاج إلى اقتناء الأيقونات الصغيرة كتذكارات يحملونها معهم إلى بلدانهم البعيدة. أمّا الأيقونات الأكبر حجماً، فغالباً ما كانت تخصّص لتخليد أحد المواقع المقدسة الكثيرة في فلسطين.

 

انتشرت سمعة رسامي «مدرسة القدس» في كل أنحاء بلاد الشام في القرن التاسع عشر، وزيّنت أيقوناتهم أديرة نائية في لبنان وسوريا.

 

ورغم أنّ هذه الأيقونات تتبع التراث البيزنطي، إلا أن التفاصيل التي طوّرتها مدرسة القدس جعلت هذا الفن محلّياً ووطنياً، فالعيون اللوزية الشكل والوجوه المستديرة لأحد القديسين، تردّنا إلى ملامح البطل الشعبي العربي في المنمنمات الإسلامية والفنية الدارجة التي ازدهرت في التراث البصري العربي وفقاً لما لحظ التشكيلي الفلسطيني الراحل كمال بلاطة.

 

«القدسي»: توقيع الفن وهوية الانتماء إلى المدينة

تحوّل سرج حصان مار جرجس (الخضر) على أيدي رسام مقدسيّ إلى لون قرمزيّ مذهّب بنجوم تناسب عمامة سلطان عثمانيّ، بدلاً من أن يكون باللون الأحمر على ما كان مألوفاً. وفي بعض الأحيان كانت تستخدم الأحرف اليونانية عنواناً للأيقونة، فيما باقي الكلمات بالعربية. ‏

 

نشأ تقليد ربط اسم الرسام بمدينة القدس مع الفنان حنا القدسي الذي كان يوقّع على لوحاته على هذا النحو: أولاً الاسم حنا، تتبعه الكنية (القدسي) ليدلّ على أنّه من القدس.

 

العيون اللوزية والوجوه المستديرة لأحد القديسين، تردّنا إلى ملامح البطل الشعبي العربي في المنمنمات الإسلامية

 

 

مشى الرسامون اللاحقون على خطاه في القرن التاسع عشر، فأضافوا كنية القدسي أيضاً إلى أسمائهم، ومن بينهم ميخائيل مهنا القدسي، ويوحنا صليبا القدسي، ونقولا ثيودوروس القدسي، وإسحق نقولا الأورشليمي.

 

البدايات الفنية الفلسطينية تحت الانتداب

في مطلع القرن العشرين، كان المقدسيان نقولا الصايغ (1863- 1942) وخليل الحلبي (1889- 1964) الرائدين الرئيسيين اللذين تمكّنا ــــ بفضل أساتذتهما الروس ــــ من التحوّل من اللوحة الدينية إلى اللوحة «العلمانية».

 

من المعرض

من المعرض

وكان لتأثيرهما الطاغي أثر حاسم في تطور الفن الفلسطيني. ‏في العقود الأولى من القرن العشرين التي شهدت خروج فلسطين من العباءة العثمانية، بدأت الحياة الفنية والثقافية تقع شيئاً فشيئاً تحت تأثير الهيمنة الغربية بسبب الانتداب البريطاني.

 

كانت شائعةً رؤية رسامين من البعثات التبشيرية المسيحية الغربية، أو من اليهود المستوطنين، يحملون عدّة الرسم وحوامل اللوحات ليرسموا في الهواء الطلق.

 

الريادة النسائية والملامح الجديدة للفن الفلسطيني

تعرّف بعض الفلسطينيين إلى الأسلوب الجديد في الرسم وجرّبوا استخدام الوسائط المستوردة. وعلى عكس نظرائهم في الدول العربية المجاورة الذين كانوا على صلة بأكاديمية الفنون الجميلة المرموقة في القاهرة منذ عام 1908 أو في بيروت منذ عام 1937، فإنّ الفلسطينيين الذين حاولوا الرسم، وهم قلّة، قد علّموا أنفسهم بأنفسهم.

 

طوّر فنانان موهوبان أسلوبيهما الخاصين باستخدام الأدوات الجديدة في أعمالهما الفنية، وهما رسام الأيقونات خليل حلبي والحرفي التراثي في الفن الإسلامي جمال بدران من حيفا.

 

وإذا كان الدخول إلى المعهد الفني المحلي الأول في القدس، «معهد بتسلئيل» الصهيوني، الذي أسسه مستوطنون يهود عام 1906 محظوراً على غير اليهود، فإنّ معظم الجيل الأصغر من الطلاب الفلسطينيين غير المدرّبين تعلّموا الرسم عبر الملاحظة والتجربة القاسية، ومن بينهم جمال بيّاري، وخليل بدوية، وفيصل الطاهر من يافا، ومبارك سعد وداود زلاطيمو من القدس.

 

 

حظيت ثلاث نساء من هذا الجيل بتدريب فني محدود وهنّ زلفة السعدي (1905 – 1988) ونهيل بشارة (1919- 1997) وصوفي حلبي (1906 – 1998). درست السعدي الفن في محترف نقولا الصايغ، وبشارة في إيطاليا وحلبي في فرنسا. وعلى خطى معلّمها الصايغ، رسمت زلفة السعدي أيقونات لشخصيات وطنية، ورسمت بشارة شوارع القدس والأزياء التقليدية، فيما رسمت حلبي الطبيعة والعواصف وشجر الزيتون الذي يغطّي ريف القدس.

 

مأساة النكبة وانطفاء المواهب

مع نشوء كيان الاحتلال، وجد الفنانون الفلسطينيون أنفسهم يواجهون الإشكاليات نفسها التي يواجهها شعبهم: إمّا باتوا أقلية في وطنهم الأصلي فلسطين، أو هجّروا إلى البلدان المجاورة، فأحبطت المأساة التاريخية المواهب الفنية الواعدة، بل قتل بعض الفنانين، من بينهم خليل بدويّة وفيصل الطاهر في معركة يافا. وبحلول نهاية 1950، توفي الفنان جمال بيّاري في بيته فقيراً معدماً، تاركاً إرثاً فنياً قيّماً ولوحات لا تُنسى لأحياء حيفا.

 

ثمة اليوم زاوية خاصة بفن الأيقونة في فلسطين متمثّلة بـ «مركز بيت لحم للأيقونات» في البلدة القديمة من مدينة بيت لحم التاريخية. إنّها المدرسة الوحيدة في المنطقة العربية التي تهدف إلى جمع الراغبين في تعلّم فن الأيقونة للحفاظ على الإرث الفني والثقافي والحضاري والديني في الأراضي المقدسة التي لا بدّ من أن ينقشع عنها ظلام الاحتلال في يوم غير بعيد. زيارة المعرض في «دار النمر» فرصة للتعرّف إلى هذا الفن الكبير الذي ينضح بروح فلسطين.

 

* «كما في السماء كذلك على الأرض: أيقونات من القدس»: حتى 17 كانون الثاني (يناير) 2026 ـــ «دار النمر للفن والثقافة» (كليمنصو ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01367016

 

 

 

 

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

Materialists: هل الحلّ رومانسي في أدغال النيوليبرالية؟

  شفيق طبارة       إذا كان المفهوم الكوري «إن- يون»، الذي يعني «القدر» أو «المصير»، أو العلاقة المقدّرة مسبقاً، أو خيوط القدر الخفية ...