رأي علاء اللامي
نستكمل في هذه المقالة ما تناولناه بالتحليل النقدي في مقالة سابقة («الأخبار» 2 تموز 2024) لبعض ما أثير من نقود موضوعية إلى جانب اتهامات ظالمة للعالم الأميركي الألسني نعوم تشومسكي، ومثالها النقد الذي وجّهه الناشط نوح كوهين وأعاد ترويجه بعض المعلّقين في الصحافة ومنصّات التواصل:ينتقد نوح كوهين – وهو على حقّ هنا – اعتقاد تشومسكي بعدم وجود أي اقتراح مشروع لإقامة دولة فلسطينية علمانية ديموقراطية من أي مجموعة فلسطينية أو إسرائيلية بالطبع. أو اعتقاده أنّ هذه – الدولة العلمانية الديموقراطية الواحدة في فلسطين – سوف تتحوّل قريباً إلى دولة فلسطينية ذات أقلية يهودية أو قوله، وهو الأخطر، إن «أولئك الذين يطالبون الآن بدولة علمانية ديموقراطية، في رأيي، يقدّمون الأسلحة للعناصر الأكثر تطرّفاً وعنفاً في إسرائيل والولايات المتحدة».
إنّ كلام تشومسكي هنا تبريري وغير موضوعي تماماً. فقوله «لم يكن هناك قط أي اقتراح مشروع لإقامة دولة علمانية ديموقراطية من أي مجموعة فلسطينية (أو إسرائيلية بالطبع)»، ليس صحيحاً، بل إنَّ أوّل المشاريع المناهضة للغزوة الصهيونية والتي جاءت من جهة اليسار العالمي ممثلاً بالحركة الاشتراكية والشيوعية، قبل قرار الحكم الستاليني الاعتراف بقرار تقسيم فلسطين وبقيام الدولة الصهيونية، وهي المرحلة التي كان تشومسكي الشاب شاهداً عليها ومشاركاً فيها، وقد طالبت تلك المشاريع النظرية السياسية بدءاً بقيام دولة فلسطين الديموقراطية العلمانية لجميع سكانها.
ولكن مشروع التقسيم، وهزيمة جيوش الدول العربية في حرب 1948، جعلا هذا الحلّ يتراجع إلى الخلف على المستوى البرنامجي، وخصوصاً في عهد طغيان الستالينية، وتكرَّس هذا التراجع بعد هزيمة جيوش الحكومات العربية في حزيران/ يونيو 1967. وحتى بعد تفكك الستالينية وتلاشيها ظلّت بعض الأطراف الفلسطينية ترفع شعار الدولة الفلسطينية الديموقراطية العلمانية كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين. كما أكد ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية لعام 1968 على «رفض البناء الاستعماري للتقسيم العرقي والديني. فكلّ شعب فلسطين التاريخي، بغض النظر عن الدين، كان يعتبر فلسطينياً»، كما يلاحظ كوهين، ولكن هذه الحال لم تستمرّ طويلاً، وهذا ما أغفله كوهين. فقد تخلّت الجبهتان – الشعبية والديموقراطية – عن هذه الاستراتيجية وتبنّتا تدريجياً شعار حلّ الدولتين، وتم تغيير ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية بتاريخ 24 أبريل/ نيسان 1996، وصار ينصّ في مادّته الثالثة على أن «الشعب العربي الفلسطيني هو صاحب الحق الشرعي في وطنه ويقرّر مصيره بعد أن يتم تحرير وطنه وفق مشيئته وبمحض إرادته واختياره»، وفسّرت عبارة «في وطنه» بأنّ المقصود بها هو ما تبقّى من أرض فلسطين التاريخية على حدود الرابع من حزيران – يونيو 1967.
أقول، إنَّ الأحداث قد جعلت هذا الحلّ أو الشعار يتراجع إلى الخلف على المستوى البرنامجي، ليس لأنه كان خاطئاً، بل لأنّ الأحداث وضعت أمام حركات المقاومة أهدافاً جديدة على المدَيين القصير والمتوسّط، ولكنه يبقى صحيحاً كأفق نضالي للشعب الفلسطيني، وهذا ما يهمله تشومسكي ويقفز عليه تماماً لمصلحة الحل البراغماتي (الذرائعي) القريب، فيتبنّى حلّ الدولتين بنسخة ما سُمّيَ المبادرة العربية للسلام (مبادرة الأمير السعودي عبد الله بن عبد العزيز لسنة 2002).
يبقى نقد كوهين صحيحاً من حيث الجوهر لموقف تشومسكي ولتذرّعه بالواقعية التي لا تنفي أو تدحض إمكانية وضع أهداف مرحلية بما يناسب الأوضاع الجديدة. أمّا تحذير تشومسكي من أنّ المطالبة بحلّ الدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين، سيقدّم «الأسلحة للعناصر الأكثر تطرّفاً وعنفاً في إسرائيل والولايات المتحدة»، فهو استنتاج غير ذي معنى على الصعيد النظري التحليلي، ولا تترتّب عليه أية نتائج معاكسة أخلاقياً واستراتيجياً، فهل عَدِمَ المتطرفون الصهاينة الحجج لاضطهاد وإبادة الفلسطينيين، وهل هم بحاجة أصلاً إلى هذا السلاح، وهل يعني طرح رأي كهذا لحلّ الصراع تبريراً لتطرّف العنصريين الصهاينة؟ أعتقد أنّ تشومسكي يجانب الصواب هنا تماماً، وأنّ نقد كوهين لمقولته هذه محقّ، رغم أنه لم يكن دقيقاً من الناحية المعلوماتية، ولأنه توقّف عند موقف تلك الأطراف في سبعينيات القرن الماضي ولم يتابع رصده التأريخي للحالة.
واحد من أخطاء الناقدين لتشومسكي من اليسار هو أنهم يخطئون منهجياً حين يتعاملون مع شخصه وكتاباته ضمن إطار المجادلات النارية المألوفة
يمكن الاتفاق مع جوهر نقد كوهين لموقف تشومسكي من موضوع حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم، ولكنه لم يكن أميناً في عرضه لرأي تشومسكي فجعله يبدو كأنه يجرّد الفلسطينيين من هذا الحقّ نهائياً. كتب كوهين: «أستمع الآن إلى تشومسكي عن حقّ العودة: لا يوجد دعم دولي واضح له، وفي ظل الظروف (التي لا يمكن تصوّرها تقريباً) التي سيتطوّر فيها هذا الدعم، فمن المرجح أن تلجأ إسرائيل إلى سلاحها النهائي، متحدّية حتى الزعيم، لمنعه… في رأيي أن من غير اللائق أن نعلّق آمالاً لن تتحقّق أمام أعين الناس الذين يعانون من البؤس والقهر. بل ينبغي مواصلة الجهود البناءة للتخفيف من معاناتهم والتعامل مع مشاكلهم في العالم الحقيقي». لنعد إلى المقابلة مع تشومسكي نفسها، ونقرأ السؤال والإجابة عنه: «هل ينبغي أن يكون اللاجئون الفلسطينيون على استعداد للتخلّي عن «حق العودة» كجزء من التسوية؟ هل يفيد ذلك سكّان الضفة الغربية وقطاع غزة على حساب الفلسطينيين الذين يعيشون في ظروف مزرية في مخيمات اللاجئين خارج فلسطين»؟ فيجيب تشومسكي حرفياً: «من المؤكد أنه لا ينبغي للاجئين الفلسطينيين أن يكونوا على استعداد للتخلّي عن حق العودة» ثم يستدرك: «ولكن في هذا العالم، وهو ليس عالماً خيالياً يمكننا مناقشته في الندوات، لن تتم ممارسة هذا الحق، بأكثر من طريقة محدودة، داخل إسرائيل. ومرة أخرى، لا يوجد دعم دولي واضح له، وفي ظل الظروف، التي لا يمكن تصورها تقريباً، والتي قد يتطور فيها مثل هذا الدعم، فمن المرجح أن تلجأ إسرائيل إلى سلاحها النهائي، متحدية حتى الزعيم، لمنعه. في هذه الحالة لن يكون هناك شيء للمناقشة. إنَّ الحقائق قبيحة، لكن الحقائق لا تختفي من الوجود لهذا السبب. وفي رأيي أن من غير اللائق أن نعلق آمالاً لن تتحقق أمام أعين الناس الذين يعانون من البؤس والقهر. بل ينبغي مواصلة الجهود البناءة للتخفيف من معاناتهم ومعالجة مشاكلهم في العالم الحقيقي».
تشومسكي، إذاً، لا يدعو الفلسطينيين إلى التخلّي عن حقهم في العودة إلى وطنهم ولكنه، ولأسباب عملية وتكتيكية يدعو بكلمات ملتبسة إلى عدم طرح هذا المطلب المحق بسبب موازين القوى والهيمنة الإمبريالية، وحتى لا تنتهي محاولة الحل السلمي والسياسي إلى الفشل. وحتى هنا، فمبررات تشومسكي مرفوضة وأعتقد أن كوهين محقّ تماماً في قوله «إن حق العودة حق إنساني أساسي يمتلكه اللاجئون الفلسطينيون جماعياً وفردياً، ولا يمكن المساومة عليه نيابة عنهم من قبل أي شخص ويتم الاستغناء عنه في بضع جمل تشير إلى (الدعم الدولي) السائد… كما لو كان حق العودة شيئاً يمكنه هو أو (نحن) أن نقدمه أو نسحبه من مجتمع مضطهد. إنَّ حق العودة ليس (أملاً) يستطيع تشومسكي أن (يعلقه أمام أعين) الفلسطينيين؛ إنه حق يملكونه ويكافحون من أجل تحقيقه».
وبعد ما تقدّم من نماذج من قراءة نقدية لبعض أفكار وآراء تشومسكي السياسية التي تقارب الموضوع الفلسطيني، أعتقد أن واحداً من أخطاء الناقدين لتشومسكي من اليسار هو أنهم يخطئون منهجياً حين يتعاملون مع شخصه وكتاباته ضمن إطار المجادلات النارية المألوفة بين يساريي المنظمات القصوية والأحزاب المنغلقة على نفسها؛ فالرجل عالِم متخصص، وباحث مستقل ونقدي ولا يمكن تصنيفه أيديولوجياً، رغم ما قيل عنه من أنه محسوب على الشيوعية الأناركية اللاسلطوية (غير الماركسية). وعلى هذا يمكن أن يقال لناقده اليساري القصوي؛ إن تشومسكي ليس منشقاً على تيارك الفكري الأيديولوجي لتتعامل معه بهذه الطريقة العصبوية الهاجية الشتامة المتشنجة. وينبغي أن تحسب حساباً لاستقلاليته وتراثه النظري المنشور والتأثير الإيجابي لهذا التراث على الرأي العام العالمي، لا أن تتوقف عند تصريح له هنا أو هناك وتعتبره معبّراً عن كل تراثه وتفكيره فتشطب عليه وتعتبر عدواً أو عميلاً للمخابرات الأميركية!
إنّ كيل الاتهامات الظالمة والتخوينية والمضحكة أحياناً لتشومسكي ولأمثاله من أنصار وأصدقاء الشعب الفلسطيني كالقول بأنه من «العجول الذهبية التي يصنعها إعلام المخابرات الأميركية» أو أنه متواطئ مع الاستعمار الإسرائيلي «يقدّم تعزيز الدعم الخلفي بين التقدّميين الأميركيين» لهذا الاستعمار، أو حتى القول بأن «هناك عنصرية لا لبس فيها في الطريقة التي يقيم بها تشومسكي واقعية السيناريوات المختلفة» كما يقول كوهين، أو أنه متعاون مع الاحتلال الأميركي لفييتنام كما يقول شخص آخر، فهي ترّهات وإساءات صبيانية لا تليق بأي كاتب جاد ومنصف، بغضّ النظر عن موقعه الأيديولوجي والسياسي.
إن تناول موضوعة الحل الديموقراطي الشامل والنهائي للقضية الفلسطينية كقضية تصفية استعمار استيطاني، بعد كل ما جرى طوال قرابة قرن مضى، لهي قضية معقدة وحساسة وتطرح على قوى الشعب الفلسطيني المقاوِمة، وعلى أصدقاء هذا الشعب أسئلة جديدة وخلّاقة بمرور الوقت. كما أن قضايا من قبيل كيف ينبغي التعامل مع إفرازات إقامة هذا الكيان الصهيوني العنصري كوجود أكثر من خمسة ملايين يهودي يعيشون اليوم فيه وغالبيتهم ولدوا على أرض فلسطين المحتلة، وكون هذا الكيان مدعوم بقوة من قبل الإمبرياليات الغربية وخاصة الأميركية، ومرتبط عضوياً بهذه الدولة إلى درجة القتال المشترك، وكونه مسلحاً بأسلحة الدمار الشامل وعشرات الرؤوس النووية، تطرح على جدول الأعمال التقدّمي مهمّة استنباط الإجابات العلمية والمبدئية على هذه الحالة وعدم الاكتفاء بتكرار الشعارات القومية والسلفية العدمية من قبيل «فليعودوا من حيث جاؤوا… إما نحن وإما نحن»، فهذه الإجابات لم تعد كافية ولا تأخذ الواقع الحالي على الأرض بنظر الاعتبار. وربما يكون القائد المقاوم الفلسطيني الراحل جورج حبش قد انتبه مبكراً إلى أهمية هذا المتغير في الصراع الفلسطيني الصهيوني، وهجس بضرورة إيلائه أهمية خاصة، والتفكر فيه بطريقة خلّاقة حين طرح في مذكراته التساؤل الآتي: «حين أفكر في الموضوع الفلسطيني، أشعر بأنَّ من حق الفلسطينيين استعادة الأرض الفلسطينية حتى آخر شبر فيها؛ لأنهم أصحاب الأرض. وفي الوقت نفسه، لا يستطيع أي إنسان عاقل أن يتجاهل حقيقة وجود خمسة ملايين يهودي، يعتبرون أنفسهم في دولة اسمها (إسرائيل) وأن الدولة من حقهم. فهل نستطيع أن نفكر في حل يكفل لنا حقنا التاريخي على أرضنا؟» («صفحات من مسيرتي النضالية»، ص 236).
إنّ تفكيك أو تفكّك الكيان الصهيوني بمجرد أن تضعف القبضة الأميركية على العالم وتفقد إسرائيل صفاتها كفندق سياحي شبه مجاني بناه الغرب والولايات المتحدة للناجين اليهود من المحرقة النازية، وها هو يحميه على حساب ملايين السكان الأصليين الفلسطينيين، أمر محتوم وسيؤدّي لا محالة إلى الحل الوحيد والممكن والإنساني ألا وهو قيام الدولة الديموقراطية العلمانية. وبانتظار أن تحلّ تلك اللحظة/ الحالة، فإنّ الواجب يحتّم على الفلسطينيين وأصدقائهم وحلفائهم الاستمرار بالمقاومة بكلّ الوسائل الممكنة دفاعاً عن وجود الشعب الفلسطيني وما تبقّى من أرضه ووضع الخطط والمهمّات والأهداف المرحلية لهذه المقاومة من دون التخلي عن الهدف الكبير والنهائي المتمثّل في تفكيك الكيان الصهيوني وقيام دولة فلسطين الديموقراطية العلمانية لجميع سكّانها.
أمّا في أيامنا هذه، فلعلّ مهمّة وقف حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الكيان الصهيوني بشراكة كاملة من طرف الولايات المتحدة الأميركية والتي راح ضحيتها أكثر من مئة ألف فلسطيني بين قتيل وجريح ومفقود وتدمير مدن القطاع بشكل شبه تامّ، ومعاقبة المجرمين، هي المهمّة العاجلة والهدف الأسمى أمام المقاومين الشجعان ومناصريهم من أحرار العالم. ويمكننا أن نستشرف، في ضوء وتحت وهج هذه الحرب الإبادية، أنّ إمكانية تطبيق حلّ الدولتين قد تلاشت وأصبحت مستحيلة بفعل هول الجريمة الإبادية التي ارتكبها الكيان الصهيوني، وأنّ هذه الاستحالة ستدوم طويلاً بعدما شطب الكيان نفسه على كلّ مبرّرات وجوده وأصبح وجوده تهديداً لكلّ شعوب المنطقة ككيان مسلّح بأحدث الأسلحة وبنظرية عنصرية دموية إبادية، فصار كياناً لا مستقبل له ولا يمكنه الاستمرار حياً إلا بالدعم الغربي والأميركي المتواصل والمجازر المستمرة.
إنّ حرب الإبادة الجماعية المستمرّة هذه الأيام هي على المدى الاستراتيجي انتحار رسمي ونهائي للكيان الصهيوني، حتّى وإنْ طال انتظار حدوثه، وفي الوقت نفسه هو نهاية لكلّ خطط «السلام» القديمة العقيمة ومنها حلّ الدولتين، والذي حتى وإن تحقّق بضغط غربي سيكون مؤقتاً وملغوماً.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية