عبد اللطيف شعبان
يندر أن يخلو قطاع وحدة إدارية ( مدينة – بلدة -بلدية ) من خلافات متنوعة بين مواطنين، ذات طابع تنظيمي أو عقاري أو زراعي عدا عن الطابع الاجتماعي، ولعقود قديمة مضت كان يتم معالجة الكثير من هذه الخلافات محليا بشكل صلحي وفاقي عن طريق مختار او رجل دين أو وجيه مجتمع، وقبل عقود قريبة كان للمنظمات الشعبية وتحديدا المنظمة الفلاحية / عن طريق الجمعية الفلاحية في كل قرية / دورا فاعلا في معالجة الكثير من هذه الخلافات، ما وفر على المتخاصمين فيض من الأعباء المادية والمنعكسات السلبية اجتماعيا، وأكثر من مرة كان بعض المحكّمين يحسمون الخلاف رضائيا بدفع مبلغ مالي من جيوبهم لأحد طرفيه، ما تسبب أن القليل المستعصي من الخلافات هو الذي كان يصل إلى المحاكم الرسمية، والتي على قلتها حينئذٍ لم تكن مزدحمة بالدعاوى، إذ تميز القضاة يومئذ بحسم الكثير من القضايا خلال جلسة أو جلستين لا كما هو عليه الحال الآن، إذ كان المحامون يومئذ يعدون بالآحاد على مستوى المنطقة، ولم يكن حضورهم قائما في أغلب الدعاوى، خلافا لما هو عليه الحال الآن، إذ أصبحوا يعدوا بالعشرات على مستوى الكثير من الوحدات الإدارية، وصدر التشريع الملزم بأن يوكّل كلا من طرفي الدعوى محامي عنه، بغض النظر عن حقه في أن يكون هو الأولى بالدفاع عن نفسه، إذ هو الأدرى بحيثيات ما يخصه في مضمون الدعوى، أو يكلف محاميا باختياره لا مكرها على ذلك، ما تسبب بتراكم الدعاوى في غرفة كل قاضي بسبب الدفوعات والاستمهالات المتكررة والكشوفات والخبرات التي يطلبها محامي أحد أو كلا طرفي الدعوى، والتي قد لا يخلو بعضها من هدف المماطلة وابتزاز الموكّل، والقاضي يصنف الدفوعات في إضبارة الدعوى دون قراءتها، بانتظار امتلاء ملفها بأوراق قد لايكون من السهل عليه البحث والتمعن في جميع سطورها، متى ارتأى توقيف دفوع الطرفين والبت بالدعوى التي يتوهم كل من طرفيها أن الحكم طوع يدَيْ محاميه .
مدعاة للسرور أنه لا زال وجود دور المحكمين الشعبيين قائما في بعض المناطق لدرجة ما، فإحدى قرى محافظة طرطوس – وربما مجتمعات أخرى كذلك – لا يعرف مواطنوها المحاكم بسبب هذا الدور الاجتماعي المتأصل والمتتابع، علما أن العشرات من أبناء القرية قضاة ومحامين مشهود لحضورهم في قاعات المحاكم، ولكن المؤسف أن هذا الدور يضمحل تتابعيا في الكثير من المناطق، ما تسبب بالحاجة لمزيد من التوسع في حجم وانتشار المحاكم، بالتوازي مع التزايد المتتالي في عدد المحامين.
وهنا أرى من الجائز السؤال؟ لماذا لاتعتمد المحاكم التسريع في حسم الكثير من الدعاوي باعتماد اختيار محكمين من الوسط الشعبي للتحكيم الوفاقي بين الخصوم في دعاوى التزاع بأنواعها، على غرار اعتماد المحاكم الشرعية محكمين في قضايا الطلاق بين الزوج وزوجته، بقصد تحقيق الصلح أو تنفيذ الطلاق بأقل عبء على الطرفين، بل لماذا لم تشجع وزارة العدل تفعيل دورالمراكز التحكيمية الخاصة التي تشكلت قانونا في السنوات الأخيرة في العديد من المحافظات، والتي كان من المفترض أن يحال لها الكثير من القضايا المزمنة في دور المحاكم منذ سنوات، لا بل حتى والكثير من القضايا الحديثة العرض على المحاكم، أوليس من الأفضل فرض تضمين كل دعوى تعهد كل طرف من أطرافها بقبوله – بل وبطلبه – عرضها على مركز تحكيمي بالتوازي مع عرضها أمام المحاكم المختصة، لأن تشريعات المركز تلزمه بالنظر في الدعوى والبت فيها خلال وقت قصير.
إن تراكم آلاف الدعاوى في رفوف المحاكم، والتكلفة الباهظة التي يتكلفها المتخاصمون / عدا عن المنعكسات الاجتماعية السلبية / يقتضي أن تعمل وزارة العدل لتفعيل دور المراكز التحكيمية المرخصة رسميا واستنهاض جديد لدور المحكمين الشعبيين بالتنسيق مع وزارة الإدارة المحلية باعتماد تكليف وحدات الإدارة المحلية ( وفق تشريع قانوني يصدر بهذا الخصوص أو رضائيا ) التعاون بين أعضاء مجلس الوحدة ولجان الأحياء وأعضاء مجلس المحافظة والفاعليات الاجتماعية والاقتصادية والمحامين والقضاة وأصحاب المهام الوظيفية العليا المقيمين ضمن قطاع الوحدة، بتجديد تفعيل دور المحكمين الشعبيين، وعلى الأخيار من هؤلاء التطوع في هذه اللجان، بغية التخفيف من معاناة المتقاضين الكبيرة اقتصاديا واجتماعيا، ومن المفترض أن يكون لكل مجلس مبادرات بتشكيل لجنة تحكيمية أو أكثر( ضمن قطاعه حسب حجم السكان وتوزعهم الجغرافي ) مهمتها النظر السريع في القضايا الخلافية التي تُعرًض عليها من المتخاصمين، الذي على كل منهم أن يتقدم إلى اللجنة التحكيمية بمستنداته ووثائقه التي يراها تدعم حقه، ما يتيح لها أن تتمكن من الإحاطة بحيثيات الخلاف وتدارسها أثناء اجتماعها مرة أو مرتين في الشهر أوعند الاقتضاء، وتقترح حلاً صلحياً رضائياً في ضوء ذلك..
إن اتفاق وزارتي العدل والإدارة المحلية على اعتماد تشريع بهذا الخصوص، يؤسس لدعم دور الإدارة المحلية في معالجة الكثير من شؤون مواطنيها، ويؤسس لزيادة اللحمة الاجتماعية بينهم، ويخفف عنهم الكثير من أعباء المحاكم وقتاً وجهداً ومعاناة وأموالاً ، كما يخفف كثيراً من العبء الملقى على عاتق وزارة العدل، وحبذا أن يكون محامو كل وحدة إدارية هم المبادرين بذلك.
*الكاتب:عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية
(موقع سيرياهوم نيوز ١)