في الخامس من تشرين الأول/أكتوبر 2014، ألقى جو بايدن محاضرة في جامعة هارفارد بشأن سياسات أميركا في الشرق الأوسط، وكان حينها نائباً للرئيس باراك أوباما، وقال “إن مشكلتنا الكبرى كانت حلفاءنا في المنطقة. الأتراك أصدقاء كبار لنا، وكذلك السعودية والإمارات العربية المتحدة وغيرهما. لكن (هؤلاء الأصدقاء) همّهم الوحيد كان إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد. لذلك، شنّوا حرباً بالوكالة بين السنّة والشيعة، وقدّموا مئات الملايين من الدولارات، وعشرات آلاف الأطنان من الأسلحة، إلى مسلحي كلّ الجماعات المتطرّفة، ومنها القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والذين يقبلون مقاتلة الأسد”.
والسؤال هو: لماذا لم تفكّر هذه الدول في مقاتلة “إسرائيل”، وهي الدولة اليهودية عدوة الإسلام والمسلمين، بدلاً من قتال سوريا، وهي بلد عربي ومسلم؟
ولماذا لم تفكّر الجماعات المسلّحة، في كلّ انتماءاتها وولاءاتها، في القتال ضدّ “إسرائيل” بدلاً من أن تقتل أبناء الشعب السوري، من المسلمين والمسيحيين؟
وبالتالي، لماذا لم يختصر مئات الآلاف من الجهاديين، من مختلف أنحاء العالم، الطريقَ الى الجنّة بذهابهم إلى فلسطين للقتال ضد الاحتلال الصهيوني بدلاً من أن يقوموا بما قاموا به من مجازر وجرائم مروّعة؟
فهل كان الرئيس بشار الأسد أخطر من رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس الاحتلال شمعون بيريز، الذي فتح له الرئيس إردوغان أبواب البرلمان التركي ليكون أول رئيس إسرائيلي يخاطب من منصته الشعب التركي.
ثم، كيف أصبح الأسد، صديقُ إردوغان الحميم والمدافع عن القضية الفلسطينية، سبباً كافياً، بالنسبة إلى إردوغان، ليطلب من “حماس” إغلاق مكاتبها ومخيماتها في سوريا ومغادرتها، بعد ما سُمِّيَ “الربيع العربي”؟
وبالتالي، لماذا تحوّلت تركيا إلى ساحة رئيسية انطلقت منها جميع التحركات الإقليمية والدولية ضد الرئيس الأسد طوال السنوات العشر الماضية، باعتراف رئيس الوزراء القطري السابق حمد بن جاسم، وهو من أهم أقطاب التآمر على سوريا؟
لقد تحدث ابن جاسم، عبر تلفزيون بلاده، في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2017، وقال “إن الدوحة أمسكت بملف الأزمة السورية بتفويض من السعودية”، وإن الدعم العسكري الذي قدّمته بلاده إلى “الجماعات المسلّحة في سوريا، بما فيها “النصرة”، كان يذهب إلى تركيا، بالتنسيق مع الولايات المتحدة. وكل شيء يُرسل يتمّ توزيعه عن طريق القوات الأميركية والأتراك والسعوديين. لكن الرياض غيّرت فجأةً موقفها بشأن بقاء الأسد، ومن دون أن تبلغنا بذلك، على الرغم من أننا كنا في خندق واحد. وكنا جميعا نتهاوش على الصيدة، وفلتت الصيدة، ونحن قاعدين نتهاوش عليها”.
فهل كان الرئيس الأسد “صيدةً ثمينة” أكثر قيمة من نتنياهو وبيريز، اللذين حقّقا ما حقّقاه من انتصارات تاريخية، بفضل ما تعرضت له سوريا من حرب كونية، لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً؟
ثمّ، هل كان في استطاعة الأنظمة العربية والإقليمية أن ترفض تعليمات واشنطن في إطار ما يُسَمّى مشروع الشرق الأوسط الكبير، وما نتج منه من ربيع دموي دمّر المنطقة برمّتها؟
باختصار، ومن دون الرجوع إلى تفاصيل السنوات العشر الماضية، والتي أثبتت ـ وما زالت ـ حجمَ التآمر الخطير على سوريا، كان كلام كلّ من بايدن وحمد بن جاسم كافياً لتوضيح حجم المؤامرات الإقليمية والدولية. وكان السبب الرئيسي فيها ـ وما زال ـ خيانة الأنظمة الخليجية.
لقد استعجلت السعودية والإمارات دعم السيسي بعد انقلاب الثالث من تموز/يوليو 2013، وأعلنتا “الإخوان المسلمين” “تنظيماً إرهابياً”، لكن من دون أن يمنعهما ذلك من الاستمرار في دعم كل المجموعات المسلّحة في سوريا، وجميعها تحت مظلة “الإخوان”. والأغرب في ذلك أن هذه الأنظمة، التي دعمت إسلاميي سوريا، وهم مَن بايعوا إردوغان، وقفت إلى جانب خليفة حفتر (في ليبيا)، الذي كان يقاتل المجموعات الإخوانية، في مختلف تياراتها. وكانت جميعاً تحت الرعاية والحماية التركيتين.
ومن دون أن يكون هذا التناقض كافياً بالنسبة إلى الرئيس السيسي حتى يتّخذ موقفاً واضحاً حيال الأزمة السورية، ناسياً تماماً ما يُسَمّى التضامن العربي الذي يسعى إليه الآن ضد إثيوبيا في موضوع “سد النهضة”. وهو يعلم جيداً بأن الإمارات وقطر والسعودية تقف بخبث إلى جانب أديس أبابا أكثر من وقوفها إلى جانب مصر. ولولا تجاهلها ما عانى منه القطر السوري في الجمهورية العربية المتحدة، لَكانت المنطقة الآن في وضع مُغاير تماماً، ولما فكّر آبي أحمد في التطاول على الحقوق الطبيعية والتاريخية لمصر “أُمّ الدنيا”!
هذا من دون أن نتجاهل واقع الدول العربية الأخرى. فتونس في خلاف بين “الإخوان” والعلمانيين، والملك المغربي رئيس لجنة القدس يتسابق مع الآخرين إلى التطبيع مع “إسرائيل”، كما كان عليه والده، في الوقت الذي تعاني الجزائر مؤامرات داخلية وخارجية، تمنعها من التضامن مع سوريا، حالها حال السودان وموريتانيا وجيبوتي، وهي شبه مستعمرة دولية. أمّا العراق، فكان ـ وما زال ـ هدفاً لمؤامرات إقليمية ودولية، لأنه همزة الوصل بين إيران وكل من سوريا ولبنان. ومن دون أن يمنع ذلك الرئيس “الكردي” برهم صالح، تلميذ جلال الطلباني، من الاتصال هاتفياً بالرئيس الأسد، في وقت فضّل كثيرون على القيام بهذه الخطوة أن يباركوا لإسحاق هرتسوغ رئيس “إسرائيل” الجديد!
فماذا عن المستقبل؟
بعد استلام بايدن السلطة في 20 كانون الثاني/يناير الماضي، وحديثه عن ضرورة العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، سارعت أنظمة المنطقة إلى إعادة النظر في حساباتها، من دون أن تتخلّى عن سلوكياتها الجينية، عبر البقاء داخل الحلبتين الأميركية والإسرائيلية.
فبعد أن وقّعت الإمارات والبحرين والمغرب اتفاقيات التطبيع مع “إسرائيل”، وهو ما رحّبت به مصر والسعودية وسلطنة عُمان والأردن، وتشجّعَ له السودان، أعلن الرئيس إردوغان نيته للمصالحة مع مصر والسعودية، ناسياً كل ما قاله عن السيسي ومحمد بن سلمان. وتحدّثت المعلومات آنذاك عن نية الرياض وأبو ظبي، ثم الأردن، لفتح صفحة جديدة في العلاقة بدمشق بعد عيد الفطر الماضي، وهو ما لم يتحقَّق حتى عيد الأضحى، لأن إرادة هذه الأنظمة مرهونة لدى واشنطن و”تل أبيب”.
يفسّر ذلك إغلاق ملف المصالحة بين هذه الأنظمة ودمشق، وخصوصاً بعد دخول قطر، حليفة إردوغان والوسيط (!) بين طالبان وواشنطن، على الخطّ، وإقناع محمد بن سلمان والسيسي بالبقاء بعيداً عن سوريا، وبـ”أن الأسد أخطر كثيراً من إسرائيل”، أياً يكن من يحكم الأخيرة سواء بينيت أو هرتسوغ، الذي هاجر والده حاييم هرتسوغ (الرئيس السادس للاحتلال الإسرائيلي) من إيرلندا الشمالية في عام 1935، ثم انضم إلى منظّمة “هاغاناه” الإرهابية، فقتل مَن قتل من الفلسطينيين.
ويبدو أن أنظمة خليجية ـ ومن معها ـ باتت ترى في الفلسطينيين أكثر خطراً عليها من “إسرائيل”، من دون التفريق بين “العلماني” محمود عباس و”الإسلامية” “حماس”. فالمهم هو التآمر على فلسطين، ومَن يقف معها بصدق وإخلاص، ويقدّم التضحيات.
يفسّر كل ذلك تهافت الحكام العرب، ومعهم إردوغان، على تهنئة بينيت وهرتسوغ، والتعبير لهما عن رغبتهم في تطوير علاقات “صداقة متينة” ما داما “أقل خطراً من سوريا برئاسة الأسد عليهم جميعاً”.
وتشهد عواصم المنطقة لقاءات مباشِرة واتصالات هاتفية بين مسؤوليها، من أجل منع سوريا برئاسة الأسد من العودة إلى وضعها الطبيعي. وهذا الأمر إن تحقق، سيغير كثير من الأمور في المنطقة، بعد أن ترى شعوب المنطقة الحقيقة برمتها. وقد يكون ذلك هو السبب الذي دفع الرئيس الأسد إلى أن يقول في خطاب القَسَم إنه سيعمل على “تحقيق وحدة الأمة العربية”. والرهان على سقوط شعورها القومي هو السبب الرئيسي في مجمل ما تعرّضت له سوريا.
وللتذكير فقط، فإن الذين تحجّجوا بـ”ديكتاتورية الأسد وفساده” عندما تآمروا على سوريا، كانوا، وما زالوا الآن، الأكثر فساداً وظلماً واستبداداً وديكتاتوريةً، وفق كل المقاييس والمعايير. وهو ما لم تُبالِ به واشنطن أو تتحجّج به للتخلص منهم، ما داموا جميعاً، كانوا وما زالوا، في خدمتها، تارةً في سوريا، وتارةً أخرى في ليبيا أو أيّ مكان آخر، تراه مهماً بالنسبة إليها وإلى صنيعتها “إسرائيل”.
(سيرياهوم نيوز-الميادين22-7-2021)