أيهم السهلي
لم يعُد خافياً أن السلطة الفلسطينية باتت في حالة موت سريري؛ ولئن جاءت الحرب الحالية لتثبّت هذا الوضع، فإن تآكل السلطة بدأ في الواقع منذ تأسيسها في تسعينيات القرن الماضي بقرار من «منظمة التحرير». لم تكن ولادة السلطة عسيرة، بل على العكس من ذلك؛ فـ«اتفاق أوسلو» الذي مرّت ذكراه قبل أيام، كان المسهّل لنشأتها التي أكملت مسلسل خطايا المنظمة، وأولها توقيع الاتفاق، الذي لا يحجب الحديث عن الظروف الفلسطينية والعربية والدولية المرافقة لتوقيعه، حقيقة كارثيّته. إذ إن المنظمة اعترفت لعدوها بموجبه بـ«حق» له في أرض فلسطين والفلسطينيين، وذلك من دون أن تستشير هؤلاء أو تأخذ رأيهم، وحتى من دون أن تأخذ رأي باقي القوى الفلسطينية التي تشكّل المنظمة ولجنتها التنفيذية.
وهكذا، فإن أصل مشكلة السلطة يعود إلى ذلك العنوان، وإلى النقاشات الناتجة منه، والتي استمرت سنين طويلة بين السلطة أو المنظمة – بحسب الحاجة – وبين الاحتلال الإسرائيلي، وأدت مثلاً إلى توقيع «بروتوكول باريس الاقتصادي» عام 1995، والذي سلّم فلسطينيو السلطة بموجبه «رقبتهم» بالكامل إلى عدوهم، وسلّموا بالتالي مصير ملايين الفلسطينيين في الضفة وغزة، بما يشمل معيشتهم ورواتبهم ولقمتهم وسقياهم، إلى أوامر الاحتلال ومدى رضاه عن أدائهم.
وها هي السلطة أو «الدولة» غير الكاملة العضوية، تئنّ اليوم من جراء عدم تحويل السلطات الإسرائيلية أموال المقاصة إليها، في وقت باتت فيه متراكمات أجور موظفيها تصل إلى أكثر من 13 شهراً، كما إن بعض مؤسّساتها الرسمية تداوم يومين في الأسبوع. وقد أدّى هذا الوضع المالي والاقتصادي، على سبيل المثال لا الحصر، إلى تأخير افتتاح العام الدراسي أسبوعاً، وهو ما عزته وزارة التربية والتعليم العالي إلى «استمرار تداعيات الأزمة المالية نتيجة استمرار الاحتلال الإسرائيلي في الحصار الاقتصادي، وقرصنة أموال الضرائب الفلسطينية، وانعكاسات ذلك على استكمال الجاهزية لبدء العام الدراسي في موعده المقرر».
على أن «بروتوكول باريس» ليس إلّا واحداً من تفاصيل أخرى حوّلت «السلطة الوطنية» إلى «مؤسسة» بلا نفع لشعبها في الداخل، لا بل مصدر ضرر لفلسطينيي الخارج بعدما تغوّلت على «منظمة التحرير». وأكثر من ذلك؛ فقد استخدمها الاحتلال بأكثر من طريقة، خصوصاً عبر «التنسيق الأمني»، الذي لا يعدّ الحديث عنه استعراضاً أو اتهاماً، خصوصاً أن السلطة دأبت على نقض وعودها بوقفه، ومن بينها قرارات «المجلس المركزي الفلسطيني» لعامَي 2018 و2022، والقاضية، بحسب ما أعلن عزام الأحمد في شباط 2022، إنهاء التزامات المنظمة والسلطة تجاه الاحتلال، وفي مقدمتها الاعتراف بـ«دولة إسرائيل» – إلى حين اعتراف الأخيرة بدولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، ووقف الاستيطان -، ووقف «التنسيق الأمني» بأشكاله المختلفة.
لما كان الشهيد ياسر عرفات على رأس السلطة، ولم يجد إمكانية للتوصل إلى حلّ ما مع الاحتلال، أشعل الانتفاضة، وقضى شهيداً. إلا أنه أثناء مرضه، وبعد استشهاده، انتقل الوضع الفلسطيني إلى مكان آخر، في ظلّ إصرار كبير على الاستمرار في المفاوضات، وكأنه لا بدائل أمام الشعب الفلسطيني الذي أدرك مبكراً أن إسرائيل لن تعطيه شيئاً.
ذلك أن الأخيرة لا تفتأ تأكل ما يفترض أن يكون «أراضي دولة فلسطين»، وهو ما لن يبقي للسلطة، في أحسن الأحوال، سوى مساحة صغيرة تشرف عليها، لتكون أشبه بـ«بلدية»، قرارها ووجودها مرتبطان بقرار ضابط إسرائيلي قد يخلع بزته العسكرية قريباً، ويرتدي ما يرتديه أمثاله داخل المدن الإسرائيلية، بعد فرض السيادة على الضفة الغربية أو نحو 80% منها، وتطبيق القانون الإسرائيلي داخل هذه المناطق، التي ستكون عندها جزءاً من «الدولة» العبرية.
هذا بالنسبة إلى الضفة الغربية، أما غزة، فنهشتها إسرائيل، وقتلت من أهلها عشرات الآلاف، ودمرتهاـ فيما ما تزال ردود الفعل الرسمية على إبادتها خجولة، وفي بعض الأحيان متحاملة على أبناء من شعبها بإلقاء مسؤولية قتلهم عليهم.
هذا القضم الذي تواصله إسرائيل، والذي تعمل عليه منذ سنوات بطرق مختلفة وكثّفته منذ أكتوبر 2023، لا تواجهه السلطة الفلسطينية بأي شكل، سوى بالتصريحات، وهي كثيرة، إلا أنها لا تصل إلى أفعال، في تراخٍ وتفريط اعتادهما الاحتلال والمجتمع الدولي. واليوم، تعوّل السلطة على حملة الاعترافات الدولية بدولة فلسطين – رغم أن إسرائيل تثبت كلّ يوم، أن الأمم المتحدة وقراراتها لا تعني لها أيّ شيء، ولا لأميركا من خلفها -، في وقت تُباد فيه غزة بشراً وحجراً، وبشكل أو بآخر يحدث أمر شبيه في شمال الضفة الغربية، حيث ثمّة نحو 50 ألف فلسطيني مهجّرين من مخيماتهم وبيوتهم، وتستمرّ عملية «السور الحديدي» الإسرائيلية في تدمير مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس، منذ مطلع العام الحالي، وذلك بعد حصار أمن السلطة لمخيم جنين، والذي غطّته بادّعاء تجنيب المخيم التدمير، ولو بالوقوف بوجه شعبها وتنفيذ ما يريده الاحتلال من قمع للمقاومين.
في النتيجة، ليس أمام السلطة إلا حلّ نفسها، ولا سيّما أنها تحولت مع الوقت إلى «موظفة» عند الاحتلال، رغم أن بعض قادتها ورجالاتها لا يريدون ذلك، وما زالوا يتحلون بوطنيتهم. أيضاً، تجدر إعادة الاعتبار إلى قوى الشعب في «منظمة التحرير» بعد تصحيح شؤون الأخيرة ومسارها، لأن الاستغناء عنها سيجعل الشعب الفلسطيني قانونياً في الهواء، فيما حلّ السلطة سينهي دور المفرّطين الذي قد يصل بهم الأمر إلى أن يتنازلوا عن باقي حقوق الشعب الفلسطيني، وسيكلّف إسرائيل ثمن احتلالها، على الأقلّ بإفهامها أن الناس لن تقبل أن تعيش تحت «حذاء» الجندي الإسرائيلي، وستواجه هذا الواقع بأي ثمن.
أخبار سوريا الوطن١-الأخبار